السلام السوري
شادي علاء الدين
لا شيء أجمل من صورة يلتقطها التاريخ المعاصر لمشهد سلام سوري – إسرائيلي من خلال المعابر التركية. هذه الصورة ستكون قادرة على التفوق على كل ما عداها، فهي ستضع جملة الصور التي أنتجت وعمِّمت طوال عقود في دائرة التلف التام.
متطلبات إنتاج هذه الصورة وانعكاساتها على الوضع اللبناني هي ما يهم. ماذا تطلب إسرائيل من سوريا في مقابل إنجاز عملية السلام التي تتضمن إعادة الجولان إلى سوريا؟ لنا أن نتساءل عن طبيعة هذا الثمن وحجمه وحدوده. هل تقبل أسرائيل بأقل من سلّة كاملة متكاملة تشمل تصفية “حزب الله” و”حماس” وتحجيم دور المقاومة العراقية؟
تعوّدت سوريا اللعب سياسيا من خلال خلق شبكة ابتزازات واسعة تتيح لها أن تؤدي دورا مزدوجا كمثيرة للفوضى والأضطراب من جهة، وقادرة على ضبط الأمور من جهة أخرى. هذا يعني أن الأدوات التي تلعب بها لم تكن ولن تكون أبدا عناصر أصلية وثابتة في قلب التركيب السياسي للنظام بل هي دوما مواد معدة للإتلاف بمجرد انتهاء صلاحيتها.
كانت محاولات تقزيم دور الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ناشئة عن رفضه الخضوع لهذا الدور الذي كان من شأنه وضع المقاومة الفلسطينية والمشروع الفلسطيني قيد الإستعمال السوري، وتاليا تحت سيف إهدار لا يمكن تلافيه ولا يمكن تأجيله إلى ما لا نهاية.
العناوين الإعلامية والسياسية التي قامت عليها هذه المحاولات تمثلت في فكرة السلام التي كان أبو عمار في صدد التفاوض مع إسرائيل في شأنها، وهو الموضوع الذي كانت السياسة السورية تصفه بكل مفردات الخيانة والعمالة.
تنفّذ سوريا الآن المسار الذي بنت كامل خطابها السياسي طوال فترة على ادعاء معاداته، لذلك فإن ما سينشأ عنه ليس مجرد انحراف صغير بل هو انقلاب تام في المفاهيم يفترض مباشرة القيام بورشة تنظيف في المنطقة إنطلاقا من لبنان وصولا إلى العراق.
ورشة التنظيف لبنانيا تقتضي تصفية “حزب الله”. تستطيع سوريا في هذا الصدد التفوق على اسرائيل لأنها كانت طوال عقود، الرئة التي يتنفس منها الحزب سواء على مستوى التسليح أو على مستوى الدعم السياسي وتشكيل الخطاب الالهي الذي لا يمكن مناقشته.
تستطيع سوريا إذاً أن تخنق “حزب الله” لأن جزءاً كبيرا من أسراره تنام في أروقة المخابرات وهي جاهزة لتكون حبلا سميكا يلتف على عنق “حزب الله” الذي لن يكون قابلا أمام لحظة المصلحة السورية الحالية أن يكون مقاومة. العناوين التي تألّه بواسطتها، قابلة للإنهيار في لحظة واحدة.
فكرة إعادة الجولان إلى سوريا في مقابل السلام، تثير مناقشات حادة في الوسط الإسرائيلي وتخفي مجموعة تفاصيل باهرة الدلالات. هناك بند مفاده أن جزءا كبيرا من أراضي الجولان سيكون عبارة عن قرية سياحية إسرائيلية كما أن هذه المبادرة تشترط ألا يُمنع الإسرائيليون من الدخول إلى هذه المنطقة.
تعلم إسرائيل أن الحرب لن تنتهي بمجرد تسليم الجولان إلى سوريا وتصفية “حزب الله”، لذا فهي تدفع الحرب لكي تكون صراعا على تبني شكل للحياة قد لا تستطيع المنطقة احتماله، وفي حال تقبله فإن تقدم النموذج الإسرائيلي في الأخذ بأسبابه يجعل منه نسقا لا بد من التماثل معه. هكذا تصبح المدن والمناطق المجاورة للهجوم السياحي والصناعي الإسرائيلي أريافا لا حاجة لها وهي مجبرة على الدوام على تجديد هويتها وحاجتها. كتلة الهويات المأزومة لا تستطيع إيجاد نقطة تمركز إلا من خلال النزوع إلى واحد من حلّين” إما اللجوء إلى حضن الأصوليات المتشددة، وإما اللحاق السريع بركاب التحديث على الطريقة الأوروبية التي تمثل إسرائيل في المنطقة نموذجها الذي لا يبارى.
يعني الحل الأول أن الإبادات تصبح مشروعة، ولا يعني ذلك أن اليهود سيكونون بمعزل عنها، لكن ذلك يفترض أن الخرائط سترسم بواسطة جراحات مؤلمة وبلا تخدير، وأن صراخ من يخضعون لهذه الجراحات لن يكون محلا للتأريخ بل للتجاهل البارد وغير المبالي.
لا تريد إسرائيل مثل هذا الحل، لذلك تعمل على تكوين شبكة صور تجعل من فكرة السلام معها توازي الإنتصار عليها. هكذا تتخم النزعة الانتحارية فتجبر على لفظ موضوعها من أحشائها. نجاة “حزب الله” و”حماس” من الإبادة لا تكون ممكنة إلا إذا اعتبرا أن مثل هذا السلام هو انتصار تام لهما مما يستوجب إعادة رسم البنى العقائدية لهما بما يناسب انتصارا له طبيعة أرضية لا إلهية، مما يعني أن الحل الثاني هو الأجدى والأكثر قابلية للحياة.
الإنتصار الإسرائيلي يكون بتصميم شكل انتصار “حزب الله” و”حماس” بما يناسبه وبما يمكن الحديث في شأنه، أي سلبه المطلق وإرجاعه إلى حدود السياسة حيث لكل شيء ثمنه.
إيران هي الطرف غير المرغوب به في هذه المعادلة. فهي وإن كانت شكّلت الأصل الايديولوجي والروحي لـ”حزب الله”، ثم الدعامة الأساسية لـ”حماس”، لا تستطيع إزاء هذه اللحظة إبقاء عناوينها الإنتحارية التي تعني الإبادة التامة.
المعادلة الأميركية – الإسرائيلية في صدد إيران واضحة وتقول إن سعر السلاح النووي الإيراني هو الإبادة الشاملة للإيرانيين، كل الإيرانيين. كان كلام المرشحة للرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون شديد الوضوح. لم تتحدث عن ضربة محددة لكنها أشارت إلى فعل الإبادة الذي يمثل شبكة الإجماع داخل الخطاب السياسي الأميركي والإسرائيلي. إيران تستطيع احتمال عذاب يفضي إلى جنّة ما، لكنها لا تستطيع تحمل إبادة لا بعث بعدها.
اللعبة إذاً ليست قابلة لحساب عدد الضحايا الذين يمكن اتلافهم من دون أن يمس النظام، ذلك ان رؤوس الأنظمة في الميزان مما يجعله يميل بشكل لا يمكن موازنته إلا بمجموعة تنازلات واسعة.
السلام يفرض تنظيم انتصارين متوازيين، انتصار الإخوة وانتصار الأعداء ثم ندخل سالمين في خرائطنا الآيلة دوما الى الكنايات.
النهار