لعلها سياسة أميركية جديدة حسين العودات
أطلق الرئيس الأميركي باراك أوباما سياسته الجديدة تجاه القارة الأميركية في مؤتمر القمة الذي عقد في ترينيداد وتوباجو، وسواء كان الرئيس الأميركي جاداً ويعني ما يقوله أم كان كلامه ضرباً من المجاملة بهدف تحسين صورة بلاده التي ساءت لدى بلدان أميركا اللاتينية وشعوبها، فإنه طرح أفكاراً شديدة الأهمية، وضعت الإصبع على الجرح.
وأكدت أن الإدارة الأميركية الجديدة تعرف أخطاء سياسة بلادها، وتدرك أهمية تصحيح هذه الأخطاء وإقامة علاقات جديدة مع دول القارة، التي لم تشهد خلال القرن الماضي كله من الولايات المتحدة إلا الاحتقار والنهب والتدخل في شؤونها الداخلية والتآمر على شعوبها ودعم الانقلابات العسكرية فيها، وتبرير المذابح والقمع والاستبداد التي كان يمارسها عملاؤها.
أقر الرئيس الأميركي أمام المؤتمر بضرورة إقامة شراكة متكافئة بين هذه الدول وهذه هي المرة الأولى التي تقبل فيها السياسة الأميركية قيام علاقات متكافئة واحترام متبادل خلال القرن الماضي كله، وأكد أنه لا يجوز أن تكون سياسة الولايات المتحدة سياسة تدخل بشؤونها الداخلية، وقال أنه جاء للمؤتمر لتدشين فصل جديد من التفاعل ستستمر إدارته في اتباعه طالما بقيت في الحكم.
وأشار كما وزيرة خارجيته إلى فشل سياسة الإدارات السابقة خلال خمسين عاماً أي منذ فرضت الحصار على كوبا، واعترف أن ترميم هذه العلاقة (هو رحلة شاقة من أجل التغلب على عقود عديدة من انعدام الثقة بين الطرفين) وليدلل على جديته في العمل لبناء علاقات جديدة نوه بأنه سمح بزيارة المواطنين الأميركيين من أصل كوبي لكوبا وتحويل الأموال لذويهم المقيمين فيها، وأنه يدرس مع وزيرة خارجيته إمكانية فتح صفحة جديدة من العلاقات مع كوبا.
ورثت الولايات المتحدة الأميركية تركة إسبانيا (والبرتغال) في أميركا الوسطى والجنوبية منذ مطلع القرن الماضي، وأعلنت سياستها الخارجية منذ مطلع ذاك القرن وخلاصتها (أميركا للأميركيين) الذي كان إنذاراً للدول الأوروبية بأن لا تتدخل في شؤون بلدان أميركا وأن تنهي استعمارها (المتبقي في ذلك الحين) لبعض بلدانها وتعترف بأن أميركا الوسطى والجنوبية هي مجال حيوي للولايات المتحدة وإقطاعية لها لا ينبغي أن يشاركها أحد فيها.
وقد فهمت دول أوروبا مضمون الرسالة وامتثلت لها، وبدأت تنسحب من هذه البلدان شيئاً فشيئاً، وتُقلص مصالحها فيها، خاصة بعد أن احتاجت دول أوروبا الاستعمارية لمساعدات الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الأولى ولاحقاً أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
وقد كرست الولايات المتحدة هيمنتها باتفاقات ثنائية مع بلدان القارة، من شأنها فتح الأبواب على مصارعها أمام استثماراتها واحتكاراتها ونفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي، بحيث أصبحت هذه البلدان بالفعل الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، ومحط نفوذها وهيمنتها.
وقد أباحت لنفسها حق نهبها والتدخل في شؤونها الداخلية من أوسع أبواب التدخل، ولعل اتفاقية قناة بنما (اتفاقية الإذعان) واتفاقية قاعدة غوانتانامو التي لا مثيل لها في تاريخ الاتفاقيات وتاريخ العالم هما نموذجان لسطوة الولايات المتحدة وتسلطها وإملاء شروطها وتجاهلها سيادة هذه البلدان ومصالحها.
تململت بعض بلدان أميركا الوسطى والجنوبية احتجاجاً بعد الحرب العالمية الثانية، ونمت فيها (كما في غيرها من البلدان) حركات التحرر الوطني، والأحزاب التقدمية، والتيارات الاشتراكية وحتى (لاهوت التحرير)، وكان نجاح الثورة الكوبية عام (1959) حافزاً لهذه الحركات والتيارات لتزيد نضالها وتطمح بالتحرر، ونجح بعضها بتولي السلطة بوسائل ديموقراطية.
كما هو حال التشيلي عام 1970 عندما فاز (الليندي بالرئاسة) وبعضها الآخر بالثورة المسلحة كما هو حال نجاح الثورة في نيكارغوا في مطلع الثمانينات، ولكن تسلط الأنظمة العميلة للولايات المتحدة في هذه البلدان تضاعف بسبب خوفها من خسارة السلطة، وزاد البطش والاستبداد والفساد والفقر والتفاوت الطبقي، ومارست السياسة الأميركية سياسة التدخل في الشؤون الداخلية وتشجيع ودعم الانقلابات، وما انقلاب أوغستو بينوشيه ومجازره في التشيلي سوى نموذج لهذه الممارسة.
قامت هبة ديموقراطية في السنوات العشر الأخيرة في معظم بلدان أميركا اللاتينية أنتجت أنظمة ديموقراطية وقادة جدداً معادين للهيمنة الأميركية وسياساتها، فجاء هوغو شافيز في فنزويلا وإيفوموراليس في بوليفيا ولويس دي سيلفا في البرازيل ودانييل أورتيغا في نيكارغوا، وكريستينا فيرنانديز في الأرجنتين وميشال باشليه في تشيلي..
وغيرهم وجميعهم ديموقراطيون منحازون للفقراء ومعادون للهيمنة الأميركية، وهكذا تعرضت المصالح الأميركية للتهديد من حديقتها الخلفية وسرّعت سياسة إدارة الرئيس بوش ومحافظيه الجدد الخرقاء هذا التطور وأدت إلى تحولات عميقة معادية لها في بلدان القارة كلها.
إن سياسة إدارة أوباما الجديدة هي خطوة هامة على الطريق الصحيحة تسهل إقامة علاقات طبيعية وعادلة ومتكافئة بين الولايات المتحدة ودول القارة الأخرى، ويمكنها أن تحافظ على مصالح الولايات المتحدة وتحقيق نجاحات كبيرة عجزت عنها إدارة الرئيس بوش في الوقت الذي تحترم فيه مصالح شعوب القارة ومطامحها ورغبتها الجادة في تحقيق التنمية ورفع مستوى حياتها.
بقي تساؤل مشروع أمام أي مراقب وهو متى تعترف السياسة الأميركية بفشلها طوال الستين عاماً الماضية في الشرق الأوسط، ومتى تقر بأنها كانت ظالمة وعمياء في دعمها لإسرائيل وتجاهلها للحقوق العربية وهل سنسمع من الرئيس أوباما يوماً تصريحات عن العلاقات مع البلدان العربية تشبه ما سمعناه عن العلاقات مع بلدان أميركا اللاتينية؟.