شهادة أرمني تركي: واقعية أرمن أرمينيا وتشدد أرمن الدياسبوا
في ما يأتي النص الحرفي للمقابلة التي نشرتها صحيفة “زمان” التركية مع الكاتب والصحافي الارمني التركي ماركار إسايان، الذي يعيش ي تركيا، تعليقاً على الجانب “الارمني” من زيارة الرئيس الاميركي باراك أوباما لتركيا:
• هل فاجأك استخدام أوباما لعبارة Meds Yeghern؟ (بالأرمنية “الفاجعة الكبرى”) بدل “الإبادة”؟
– عرفت أنه لن يستعمل اللغة نفسها التي كان أسلافه يستعملونها. كان ذلك واضحاً من الكلام الذي قاله بعد انتخابه بأنه لم يبدّل موقفه من المسألة. خلال زيارته إلى تركيا، قال إن آراءه حول قتل الأرمن الذي كان قد وصفه سابقاً بالإبادة، لم تتغير. وناشد أيضاً تركيا معالجة الموضوع، لكنه أعطى مؤشرات واضحة بأنه سوف يبقى خارج النقاش، قائلاً إنه يقع على عاتق تركيا وأرمينيا التعامل مع التاريخ. وبلغته معلومات خلال زيارته إلى تركيا بأن أرمينيا وتركيا تمران في مرحلة مهمة وشجاعة يجب عدم إلحاق الضرر بها. لحسن الحظ أن أوباما كان موجوداً في تركيا قبل 24 نيسان. ففي هذا التاريخ كان حذراً إنما حافظ على مبادئه. Meds Yeghern هي العبارة التي يستعملها الأرمن أنفسهم. ليست مشابهة لغوياً لكلمة إبادة. لقد سعى من خلال اختياره للكلمات إلى تفادي إزعاج تركيا، وفي الوقت نفسه التجاوب مع ناخبيه.
• إذاً لماذا انزعجت تركيا كثيراً؟
– لم تناقش تركيا هذه المسألة منذ فترة طويلة. لم يبدأ الرأي العام التركي بالحديث عن الموضوع سوى في الآونة الأخيرة، وهكذا فإن الناس لم يألفوا المصطلحات المستخدمة حوله، وكل تطور جديد في هذا الإطار يسبب مشاغل غير ضرورية واستنكاراً لا داعي له.
• استُعمِل المصطلح نفسه في حملة الاعتذار.
– أجل، إنها العبارة التي يستعملها الأرمن لوصف الفاجعة. إنها عبارة إنسانية خارج النقاش السياسي. من عارضوا حملة الاعتذار ضللوا الرأي العام عبر الزعم بأن موقّعي الحملة وافقوا على كلمة “إبادة” على الرغم من أنهم لم يستعملوا هذه الكلمة وأشاروا إلى الأحداث بعبارة “الفاجعة الكبرى”. اعتبرت تركيا أن كلمات أوباما قاسية. لكن الأخير لم “يخدع” تركيا، بحسب تعبير رئيس الوزراء [رجب طيب أردوغان]، لأنه لم يأتِ في رسالته على ذكر تركيا. بل أشار إلى الأحداث التي وقعت في الأعوام الأخيرة من حكم الأمبراطورية العثمانية. لديه بعض الآراء حول هذه الأحداث، وكان قد قطع وعداً لناخبيه، لذلك فعل ما كان متوقعاً منه. ويجب أن نحترم ذلك.
• غير أن الأرمن الأميركيين لا يبدون راضين أيضاً.
– نحن مضطرون أحياناً إلى التعميم، لكن أود التشديد على أن الأرمن الأميركيين ليسوا موحّدين في موقفهم من هذا الموضوع. تتألف الدياسبورا الأرمنية من أجزاء مختلفة غير متشابهة. غالباً ما يظن الرأي العام التركي أن الدياسبورا حركة موحّدة يمكن تعبئتها في أي مكان وفي أي وقت، وأن المسألتَين الأساسيتَين اللتين توحّدانها هما العداء لتركيا والإبادة. هذه النظرة غير صحيحة. صحيح أن بعض الأرمن الأميركيين خاب ظنهم من اختيار أوباما للكمات في رسالته. لكن هناك أيضاً أرمن أميركيون يتحلون بالمنطق ويدعمون فعلاً التقارب بين تركيا وأرمينيا. ويعتبرون أن عملية التقارب هذه أهم من استخدام أوباما لكلمة “إبادة”.
• هل تعتقد أن رد الفعل في أرمينيا متنوّع أيضاً؟
– ليسوا جميعهم موحدين في موقفهم من المسألة. تتضاءل المعارضة الأرمنية لفتح الحدود مع تركيا مقارنة بما كانت عليه في السابق. لم يحصل استنكار كبير في أرمينيا بعد كلام أوباما. أجندتهم أكثر انسجاماً مع الواقع، فهم يريدون أن يقيموا علاقات تجارية مع تركيا ويزوروا الأراضي التركية التي كانوا يعيشون فيها وأن تكون لهم معايير عيش أفضل. رأيهم مختلف عن رأي الدياسبورا. في نظر الدياسبورا، تجمّدت العلاقات التركية-الأرمنية عام 1915. تعلّق الدياسبورا أهمية أكبر على الكلمات المحمَّلة بالرموز.
• هل كان الأرمن الأتراك ينتظرون بتلهّف لمعرفة الكلمات التي سيستعملها أوباما في رسالته؟
– أجل. يدعم الأرمن الأتراك كمجموعة، التقارب بين تركيا وأرمينيا، ويريدون أن تُفتَح الحدود بين البلدين. في الواقع، يريدون أن يحصل فك للارتباط بين كلمتَي “مشكلة” و”أرمن”. عمري يناهز الأربعين، ومنذ تفتحت عيناي على هذا العالم، أسمع دائماً عبارة “المشكلة الأرمنية” التي لا تحمل سوى معان سلبية.
• هل لدى الأرمن الأتراك روابط مع الأرمن في أرمينيا؟ هل تزور أرمينيا؟
– لم أزر أرمينيا قط. ليست لدى الأرمن الأتراك روابط كثيرة مع الأرمن الذين يعيشون هناك. لقد بنينا حياتنا هنا كأرمن أتراك. نشعر أننا ننتمي إلى تركيا. روابطنا العاطفية مع الأرمن لا تختلف كثيراً عن روابط الأتراك مع الأذريين الذين يعيشون في أذربيجان. إذا فُتِحت الحدود بين تركيا وأرمينيا، فسوف يكون هناك مزيد من التواصل البشري بين المجتمعين. هناك نحو 30 ألف أرمني يعملون في تركيا، وتقع على عاتقهم مهمة كبيرة، فهم يعودون إلى أرمينيا ويخبرون عائلاتهم وأصدقائهم عن الشعب التركي. وهكذا فإن النظرة إلى الأتراك في أرمينيا تجدّدت وأصبحت أكثر واقعية. تتلاشى المخاوف القديمة بأن “الأتراك مروّعون”.
• والدك أرمني تركي ووالدتك مسلمة. هل هو مزيج عادي؟
– هذه الأنواع من الالتقاء شائعة، وهذه الشراكات منتشرة بكثرة إلى درجة أنها تقلق الجالية الأرمنية. فمن أصل كل ثلاثة شبان أرمن، يتزوج واحد شخصاً غير أرمني. الجالية الأرمنية متسامحة في هذا الإطار، لكنه أيضاً سيف ذو حدين. فبما أن الجالية الأرمنية صغيرة جداً في تركيا، لا تريد أن يتضاءل حجمها أكثر.
• ما الذي تظهره الأرقام؟
– في بداية الجمهورية، كان هناك 300 ألف أرمني في تركيا و130 ألفاً في الأناضول. أما الآن فعددنا هو نحو 50 ألفاً في تركيا. لو أن الأرمن الذين يعيشون في تركيا لم يضطروا إلى الهجرة نتيجة سياسات الدولة التركية التي أثارت نفورهم، لكان عددنا الآن نحو مليون على الأقل.
• ما هي الصعوبات التي واجهتها كفتى أرمني يعيش في تركيا؟
– عشنا أوقاتاً عصيبة في مرحلة الاغتيالات التي نفّذها “الجيش السري الأرمني لتحرير أرمينيا” [منظمة إرهابية استهدفت الديبلوماسيين الأتراك في أوروبا في السبعينات والثمانينات]. لم نتعرض للإهانة من جيراننا الأتراك، لكن العلاقات كانت صعبة أحياناً، وشعرنا بالضغط النفسي. نتيجة لذلك، أصبحنا أكثر إدراكاً لهويتنا الأرمنية. شعرنا بالذنب.
• هل موضوع “الإبادة” هو عامل موحِّد بالنسبة إلى الأرمن في تركيا؟
– ولّدت الضغوط التي تمارسها الدولة على الأقليات تحفظات لدى الأرمن الأتراك حول مناقشة أحداث 1915. حتى إننا لا نتحدث عن الموضوع في ما بيننا. والسبب الآخر لعدم مناقشة الموضوع هو التطلع إلى المستقبل بدلاً من النظر إلى الماضي لأننا نعيش في هذا البلد ونريد مستقبلاً لأولادنا هنا. وهناك سبب بسيط آخر يحول دون مناقشة الأرمن الأتراك لأحداث 1915، وهو الخوف. لا يمكنك الحديث عنه أو الكتابة عنه، ولا يمكنك الحديث عن ألمك. أعرف هذا جيداً من عائلتي. من جهة أخرى، يدرك الأرمن الأتراك، أكثر من أي جالية أرمنية أخرى في العالم، الفارق بين الرأي العام التركي وسياسات الدولة التركية.
• لماذا تعتقد أن الأرمن الأتراك مختلفون؟
– لأنهم يديرون أعمالاً في المجتمع التركي ويتزوجون أتراكاً. ويقيمون مختلف أنواع العلاقات البشرية في المجتمع. وهكذا فإن رأيهم هو الأكثر موضوعية وتوازناً، ولا سيما عندما يعبّر عنه المفكرون الأرمن الأتراك مثل هرانت دينك.
• هل تعتقد أن قضية دينك قد تندمج مع قضية إرغينيكون؟
– معظم الأشخاص المعروفين على نطاق واسع بآرائهم المعارِضة لهرانت دينك وتهديداتهم العلنية له يُحاكَمون الآن في قضية إرغينيكون. يدفعنا ذلك إلى التفكير في أن قضيتَي إرغينيكون ودينك مترابطتان. في أول قراراتهامي في قضية إرغينيكون، كانت هناك إشارة صغيرة فقط إلى قضية دينك. نقرأ في القرار الاتهامي أن المدعي العام يعتقد بوجود رابط، لكنه لم يستطع إيجاد أدلة حاسمة. لكن في القرار الاتهامي الثاني في قضية إرغينيكون الذي صدر حديثاً، هناك مزيد من الإشارات الجدية إلى قضية دينك.
• ماذا مثلاً؟
– ينظر المحامون في قضية دينك بتمعّن في القرار الاتهامي الثاني، لكن بحسب ما استنتجته، كان هناك في قضية مقتل المسيحيين في دار زيرف للنشر شخص يدعى متين دوغان أُدرِجت إفادته في القرار الاتهامي الثاني. يقول إنه قدم إلى اسطنبول وتحدث مع فيلي كوجوك ومظفر تكين، وسمعهما يتحدثان عن تصفية أشخاص مثل هرانت دينك وأورهان باموك. وفقاً للقرار الاتهامي، قال أيضاً إن كوجوك وتكين تحدّثا عن الأشخاص الذين من شأنهم تنفيذ مثل هذه الأفعال، واعتبرا أن قتل باموك أصعب أما دينك فهدف سهل.
• منذ وقت قصير، دُمِجت قضية إطلاق النار في مجلس الدولة عام 2006 مع قضية إرغينيكون.
– حصل هذا بالاستناد إلى إفادة عثمان ييلديريم [مشتبه به آخر في إطلاق النار]. فقد اعتُبِرت إفادته قيّمة جداً. سوف نرى إذا كان متين دوغان سيدلي بإفادة مهمة أيضاً. إلى جانب الروابط مع قضية إرغينيكون، نحن قلقون من وجود العديد من نقاط الخلل الأخرى.
• ماذا مثلاً؟
– واقع أن القوى الأمنية كانت على علم بوجود مخططات لاغتيال دينك قبل عام ونصف العام من وقوع جريمة القتل. هناك تقارير استخبارية تبيّن ذلك. بدأ تدفق المعلومات الاستخبارية حول وجود خطط لقتل دينك في تشرين الثاني 2005، وقد بلغت هذه المعلومات الأوساط الأمنية بما في ذلك قوة الدرك والشرطة في طرابزون، ورئيس أجهزة الاستخبارات والقوى الأمنية في اسطنبول. الشخص الذي اشترى سلاح الجريمة هو كوسكون إيغسي نسيب ياسين حايال، المشتبه به الرئيس في قضية دينك، وإيغسي نفسه أبلغ القوى الأمنية أن حايال سوف يقتل دينك. جرى تغيير تواريخ التقارير التي تثبت هذه الروابط. وهكذا ألغيت الأدلة الدامغة في قضية دينك. قد يكون ذلك نتيجة الإهمال من جانب المسؤولين. لكنه الجزء الأكثر إثارة للقلق. طلب المحامون في قضية دينك من المحكمة في الجلسة الأخيرة استدعاء رؤساء هذه الوحدات الاستخبارية للإدلاء بإفاداتهم، لكن المحكمة رفضت الطلب.
• لماذا تصرفت المحكمة بهذه الطريقة برأيك؟
– قالوا إن إفاداتهم “لن تقدّم مساهمة للقضية”. أشار تقرير التفتيش الذي وضعته رئاسة الوزراء إلى أهمية متابعة المسألة، على الرغم من أنه كان تقريراً استشارياً وحسب. من جهة أخرى، نحن بحاجة فعلاً إلى الوثوق بالمحكمة والنظام القضائي. قضية دينك هي قضية رمزية جداً، ومن شأن كشف الحقيقة فيها أن يعود بفائدة كبيرة على الديموقراطية التركية.
• هلا تشرح لنا هذه الفكرة
– مقتل دينك هو برهان قوي على استخدام بعض الأشخاص إمكانات الدولة – سواء كانت جبهة “الدولة العميقة” أو مجموعة غلاديو أو إرغينيكون – لارتكاب جريمة قتل. إنها القضية الأكثر تركّزاً ورسوخاً في هذا الإطار. إذا كُشِفت هذه الروابط، فقد تحظى الديموقراطية التركية بفرصة للتطور أكثر لأنها ستمر في مرحلة تطهير.
ماركار إسايان
كاتب وصحافي أرمني تركي ولد في اسطنبول من أب أرمني وأم مسلمة. بعدما تلقّى تحصيله العلمي في مدارس الجالية الأرمنية، تخرج من كلية إدارة الأعمال في جامعة أنادولو. كان يكتب عموداً خاصاً في صحيفة الجالية الأرمنية التركية “أغوس” إلى أن أصبح منسقاً عاماً للنشر وكاتب عمود خاص منتظماً في صحيفة “تاراف”. ساهم إلى حد كبير في إعادة هيكلة “أغوس” بعد مقتل رئيس تحريرها هرانت دينك. صدرت روايته الأولى الحائزة على جوائز Simdinin Dar Odasi (غرفة الحاضر الضيّقة) عام 2005، وروايته الثاني Karşılaşma (لقاء) عام 2007.
(صحيفة “زمان” التركية ترجمة نسرين ناضر)