البروفسور مسؤولاً عن السياسة الخارجية: تركيا لن تنتظر أوروبا
بقلم مصطفى اللباد – نيويورك
عاد موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ليتصدر من جديد جدول أعمال الرئاسة الدورية للاتحاد، حيث عقد الجانبان محادثات في براغ عاصمة تشيكيا التي تتولى رئاسة الاتحاد للتباحث في شأن الانضمام التركي. وبالرغم من اللقطات التذكارية التي أظهرت وزير الخارجية التركي علي باباجان مبتسماً مع نظيره التشيكي كاريل شارزنبرغ وبالرغم من التصريحات التي تتسم بالكثير من اللباقة، يبدو أن الهوة التي تفصل مواقف الطرفين مازالت عصية على التجاوز بعد مرور ما يقارب من اثنين وعشرين عاماً على طلب الانضمام التركي الأول.
ستستمر تركيا مع ذلك في تقديم طلبات الانضمام، وهي على الأرجح ليست في وارد التفكير بردود فعل عاطفية على التعنت الأوروبي حيالها، إلا أن أنقره سترسي – على الأرجح – أكثر فأكثر مراسيها على الشرق الأوسط والقوقاز، وليس بالضرورة على أوروبا والبلقان، إذ تسمح الجغرافيا التركية نظرياً لأنقره بلعب دور فاعل ومؤثر في الجهات الأربع . ويستند ذلك التقدير إلى حقيقة أن الدول العظمى فقط هي التي تستطيع أن تلعب أدواراً إقليمية في كل جوارها الجغرافي، وهو أمر من بديهيات العلاقات الدولية. ولأن تركيا ليست دولة عظمى، فإن صناع القرار فيها سيرسون خياراتهم على المناطق التي يمكن بلادهم أن تراكم فوائدها وتعزز حضورها فيها وتتحقق فيها سياسياً وإستراتيجياً. وهكذا ومن حيث لا تحتسب الدول الأوروبية سيؤدي تعنتها التفاوضي مع تركيا، إلى استدارة أنقره نحو جوارها الشرق الأوسطي كي يحتل موقعاً مركزياً في سلم أولوياتها، تحت المظلة الأميركية التي فردها باراك أوباما إلى أقصاها إبان زيارته الأخيرة إلى تركيا.
كانت تركيا قد تقدمت بطلب انضمام رسمي إلى الاتحاد عام 1987 وقت كان الاتحاد يعرف باسم “السوق الأوروبية المشتركة”، آنذاك رفض طلبها بسبب تردي حالة اقتصادها، كما بسبب الفيتو اليوناني والنزاع على قبرص. لم تتعب تركيا مذذاك من تقديم طلبات انضمام جديدة وخاضت مفاوضات مستمرة وشاقة على أصعدة متنوعة دون أن تكل. ولكن يبدو أن الدول المعارضة لانضمام تركيا إلى الاتحاد لم تدرك بعد التحول الكبير في قدرات تركيا السياسية والإستراتيجية، ومازالت تتعامل معها بصفتها مرشحاً مزمناً يطرق أبوابها للدخول، وهو ما يبدو خطأ فادحاً. ربما تعتقد بعض دول الاتحاد الأوروبي أن تحالف أنقره الدولي مع واشنطن يسبق ما عداه من تحالفات، وبالتالي فلا فائدة كبيرة أوروبية – من منظار المعارضين للانضمام – من وجود تركيا المتحالفة استراتيجيا مع أميركا ضمن حظيرة الاتحاد. ولكن هذا السلوك الأوروبي سيعزز – للمفارقة – أكثر فأكثر التحالف الأميركي – التركي، بسبب عدم قدرة الدول الأوروبية في هذه الحالة على التأثير في خيارات أنقره السياسية.
والواقع أن أعضاء الاتحاد الأوروبي ليسوا موحدين حيال الطلب التركي، إذ تعتقد الدول الأوروبية المؤيدة لانضمام تركيا أن الأخيرة دولة إقليمية وازنة تملك اقتصادا قويا وجيشا كبيرا، وهو ما يعزز وضع الاتحاد الأوروبي كلاعب على الساحة الدولية. وتتضافر مع هذه العوامل إطلالة تركيا الجغرافية على مناطق ذات أهمية استثنائية لأوروبا بسبب مواردها من النفط والغاز اللذين تحتاجهما أوروبا بشدة. ولا تقتصر الفوائد عند هذا الحد فقط، بل تتعداه لجهة التأمين الإستراتيجي لمنطقة شرق البحر المتوسط الذي تعتبره أوروبا حدودها الجنوبية، ولا تنتهي عند تأمين البحر الأسود ومحاصرة روسيا خلفه. وتتصدر إنكلترا والسويد قائمة الدول الأوروبية المؤيدة لانضمام تركيا على خلفية الفوائد التي سيجنيها الاتحاد من موقع تركيا الجيوبوليتيكي.
لا يدخل في حسابات معارضي الانضمام التركي اختلاف الدين كعامل أساسي كما يعتقد الكثيرون في منطقتنا. ولكن السبب الأساس في الرفض يعود إلى أن تركيا ستحظى بكتلة تصويتية كبيرة وبعدد كبير من مقاعد الاتحاد الأوروبي في حال انضمامها. ومن شأن هذا الأمر أن تحل تركيا ثانية بعد ألمانيا وقبل فرنسا، بسبب أن توزيع المقاعد في برلمان الاتحاد الأوروبي يتم وفقاً لعدد السكان. ويتفاقم العامل السكاني أكثر فأكثر بمرور الوقت لأن تركيا ستصبح عام 2020 الدولة الأكثر سكاناً في أوروبا، وبالتالي ستملك العدد الأكبر من الأعضاء في البرلمان الأوروبي، وتؤثر تالياً على سياساته.
على هذا الأساس تعارض ألمانيا انضمام تركيا إلى الاتحاد ويبرع سياسيوها من أطياف اليمين خصوصاً في التعمية على هذه الحقيقة والتلويح بعامل “التمايز الثقافي”، ذلك التعبير الذي يلمّح إلى ديانة تركيا الإسلامية. من الطبيعي ألا يشفع لتركيا حقيقة أن الدولة العلية العثمانية خاضت الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا، وكان من نتيجة هذه الحرب بالتحديد أن تفككت الدولة العثمانية على يد المنتصرين، لأن منطق التحالفات الدولية هو التحول والتبدل، وليس الركود والاستمرار. من ناحيتها تعارض فرنسا انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي للاعتبارات السكانية أيضاً، ولا يشفع لتركيا أن الدولة العثمانية كانت حليفاً لفرنسا على مدار حقب زمنية طويلة. وهكذا يمكن الأتراك أن يستعيدوا بكثير من المرارة وقائع تاريخية مفادها أن اسطنبول كانت حليفة باريس في القرن السابع عشر حين جردت الدولة العثمانية حملتها العسكرية على إمارات وممالك وسط أوروبا، كما يمكنهم دون جدوى تذكر أن السلطنة خاضت حربها الضروس ضد روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر وهي تتحالف مع فرنسا.
تعارض مجموعة من الدول الصغيرة العدد سكانياً انضمام تركيا بسبب عامل التوازن التصويتي إياه، فانضمام تركيا سيجعلها تملك مقاعد أكثر من مجموع مقاعد هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ والنمسا. وهناك حجج إضافية مثل تلك التي يتبناها الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان ومفادها أن الاتحاد الأوروبي اذا وافق على انضمام تركيا مع أن 2,5% فقط من أراضيها يقع في أوروبا، سيضطر للموافقة على طلب المغرب للانضمام أيضاً. وإذ وافق الاتحاد الأوروبي على تحديد موعد لكرواتيا كي تنضم إلى الاتحاد، وهي التي تقدمت بطلبها قبل سنوات قليلة فقط، فإنه ما زال يمتنع عن تحديد مثل ذلك الموعد لتركيا. ولا يخفى أن على الدول المرشحة للعضوية أن تلبي شروط متعددة تبدأ من حالة الاقتصاد والموازنة، مرورا بالبيئة وحقوق الإنسان والهياكل التشريعية ولا تنتهي عند الحريات الفردية والسياسية.
يحوي “الملف التركي” 35 بنداً تتعامل مع قضايا الاقتصاد والموازنة والسياسة الخارجية والداخلية والهياكل التشريعية وأوضاع حقوق الإنسان والأقليات. من ناحيتها بذلت تركيا الكثير من الجهد في السنوات الماضية كي تلبي شروط ومعايير الانضمام، فخرقت الكثير من المحرّمات سياساتها الداخلية حتى قبل الانضمام على العكس من مثلها الشعبي الذي يقول: “شمر عن قدميك فقط عندما ترى البحر”.
بذلت تركيا جهداً كبيراً في “مسألة قبرص” التي يتوسل بها المعارضون لانضمامها في تبرير موقفهم، حيث دعمت خطة الأمم المتحدة بشأن قبرص وانضمامها كبلد موحد إلى الاتحاد الأوروبي، فضغطت على القبارصة الأتراك فوافقوا في استفتاء عام على الوحدة والانضمام، في حين عارض القبارصة اليونانيون ذلك. كما انتهى التضخم الجامح في تركيا بعد سنوات قليلة من وصول “حزب العدالة والتنمية” إلى الحكم عام 2002، فانخفضت النسبة إلى 6% بعدما كانت 75% في أواسط التسعينات. وبالترافق مع ذلك فقد تحسنت الشروط السياسية في ما يخص الأكراد وحقوقهم الثقافية والتعليمية، مثلما عدّلت مواد القانون الجنائي التركي لتتماشى مع المعايير المطلوبة للانضمام. وتدل التجربة التاريخية والآلية المعتمدة لدى الاتحاد الأوروبي على أن الدول الداخلة حديثاً في الاتحاد الأوربي تنضم بعد انتهاء الموازنات النقدية الطويلة الأجل للاتحاد، ولكن قبل دخول الموازنة النقدية التي تليها حيز التنفيذ. تأسيساً على ذلك يبدو أن الموعد النظري الأقرب لانضمام تركيا سيكون عام 2013، وهو العام الذي ستنتهي فيه الموازانة الحالية للاتحاد. ولكن بسبب رفض بروكسيل – مقر الاتحاد الأوروبي – تحديد عام 2013 كموعد لانضمام تركيا، فإن هذا يعني أن تركيا ستضطر للانتظار حتى انتهاء الموازنة المالية التالية عام 2021.
يبدو بديهياً الآن أن الدول الإقليمية الكبيرة مثل تركيا لن تنتظر كثيراً من دون رسم سياسات بديلة من تعليق الأمل على الاتحاد الأوروبي حصراً، وبالتالي فإنها سترسي ثقلها أكثر فأكثر على الشرق الأوسط حيث ينتظرها دور استثنائي لتعديل توازناته وتلطيف تناقضاته، خصوصاً أن من يرسم سياسة تركيا الخارجية – أحمد داود أوغلو والذي عين وزيراً للخارجية في التعديل الوزاري الأخير – يفسح للشرق الأوسط حيزاً مهماً في قلب هذه السياسة. ربما يظهر المؤشر على السياسة التركية الجديدة قريباً، بل أقرب مما تتوقع بروكسل وغيرها. يقول مثل تركي آخر يتميز بكثير من الحصافة: “لا يستطيع المرء أن يرقص في عرسين بالوقت ذاته”، واتساقاً مع ذلك يبدو أن أوان الدبكات التركية قد حان في الشرق الأوسط.
(مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية في القاهرة)
النهار