إفراج للضيق أم الفرج؟!
موفق نيربية
على جري عادتهم، يتعامل بعض العرب أو جلّهم مع الحالات الطارئة، فقد استقبلوا الأزمة الاقتصادية الدولية فرحين بخيبتهم، وبأن اقتصاداتهم لا تدخل في معادلات الاقتصاد العالمي المحسوبة، وهاهم يستقبلون إعلان حالة جديدة رهيبة تتعلّق بالخوف من انتشار وباءٍ يعمّ كوكب الأرض، فرحين أيضاَ بكونهم لا يتعاطون مع تربية الخنازير ولا أكلها.
وأكثر ما فرحوا به دائماً خصوصيتهم ومناعتهم على تفشّي وباء الحرية والديمقراطية، وقدرتهم على حجب فيروسات سيادة القانون واستقلال والمواطنة وحرية الرأي والتعبير، أو حجب السياسة عن المجتمع عموماً. لم يدركوا أن الوباء الرئيس هو ما هيّأت له الحرب الباردة والنظام الدولي بعد الحرب والنفاق الغربي من استبداد عربي مستدام وراحة بال وهناء.
كأن اليوم لا يتصّل إلى الغد، وكأن المكان هنا لا يتصّل إلى كلّ مكان، في هذا العصر خصوصاً.
في كلّ حالة هم كذلك. من آخر الأنباء إفراج المحكمة الدولية الخاصة بلبنان عن ضباط الأمن اللبنانيين الأربعة المحتجزين منذ حوالي أربع سنوات بعد اغتيال رفيق الحريري، الآن ننقسم مرة أخرى بين مبتهجين ومكتئبين، وعلى خطأ غالباً من الطرفين، كما في كلّ مرة.
فمثلما يتعلّق الغريق بقشة لن تنقذه، استسلم لبنانيون وسوريون وغيرهم لفكرة أن اعتقال الضباط الأربعة؛ عماد الحكم في لبنان أيام الهيمنة السورية ووجوهه الثابتة؛ هو دليل قاطع على اتجاهات الاتهام ومآلاته اللاحقة، التي تتضمن وقف مسيرة العنف والاغتيال السياسيين، ومن ثمّ تعزيز الحرية والسيادة والاستقلال في لبنان، والتحول إلى مسار الديمقراطية في سورية.
وذلك، إن كان حقاً للمكلوم والمتأذّي لا يمكن إنكاره في باب المشاعر والرغبات، فهو ليس حقاً حين يتحوّل إلى وسادة حريرية ينام عليها من يريد فعلاً تحقيق أهدافه الأكبر، ووعاءً للماء الدافئ تسترخي فيه الأقدام المتعبة. يتكئ أولئك عندئذً على العوامل العَرضية والخارجية، وينتظرون الفرج الذي عجزوا عن تحقيقه بأنفسهم.
بالمناسبة، كان هؤلاء ممن اكتأب لهزيمة إدارة بوش وفوز أوباما وبرنامجه في الانتخابات الأميركية. فكأن المزيد من التراجع في أوضاع الولايات المتحدة الداخلية- لو حدث- ومن فرص التوتر والحروب ورفض مبدأ الحوار لحل الأزمات الدولية كان قوةً لآمالهم، وتحسيناً لإمكانية تحققها. هم أنفسهم أصابتهم الكآبة مع انتهاء مرحلة رئاسة ميليس للجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري، وهو المقاتل في تحقيقاته والذي كان يطلق تصريحاتٍ مستفزة لمن يشكّ بتورطه في الجريمة.
على الطرف الثاني، المشكلة أكبر، ومنعكساتها الفعلية أشدّ وأنكى، فهم يضحكون في سرائرهم من الأزمات الدولية التي تشغل العالم عنهم، فيحافظون على «استقلالهم». ويهتفون لباراك اوباما وانعطافه إلى سياسة الحوار بدلاً من الشدّة، باعتبارها دليلاً على انهزام أعدائهم وتعزيز قوتهم واستمراريتهم.
فتزداد «الانتصارات» واحداً بالإفراج عن الضباط الأربعة، ويجري الاحتفال والاحتفاء بهم، كأنهم مناضلون سياسيون غابوا وراء قضبان الاحتلال أو الطغيان، وعادوا لينضموا إلى الركب الذي كان على رأسه سمير القنطار… مؤقتاً.
في لبنان، الانتخابات النيابية على الأبواب. وربما يحوّل هؤلاء عملية الإفراج إلى مناسبة للتجييش وتوتير الأوضاع إلى مستوى يؤثّر لا على نتائجها وحسب، بل على الاستقرار اللبناني ومسار تعزيز مقومات الدولة الوطنية. في ذلك يحلمون بعودة الزمن إلى وراء، وهو بالتأكيد لا يعود.
وفي سورية، قد يكون ذلك مناسبةً لتقوية السياسات الأمنية، وصَمّ الآذان عن المطالبات بإنهاء حالة الطوارئ والإفراج عن السجناء السياسيين. وبعد أن كانت التهديدات الخارجية ذريعةً لتأجيل أيّ إصلاح سياسي أو اقتصادي وتقديم هدف المحافظة على الأمن والاستقرار وحيداً إلى الواجهة، تأتي الأخبار الأخيرة بما «قد» يعزّز العضلات الأمنية ويقويها ويركّز عليها على حساب الرأس والرؤية والحسابات المدروسة.
في حين أن الأمر ينبغي أن يأتي بنتائج معاكسة. فهو؛ أول ما هو؛ برهان في لبنان على دقة العدالة الدولية- اللبنانية وفاعليتها واستقلالها، بل هو وضع للأمور في نصابها النظامي، ووقف لاحتجاز طال أمده خارج الأصول العادية، رغم احتمائه ببنود قانونية تتيحه تحت الظروف الطارئة التي تهدد أمن الدولة. فلا بدّ له أن يعزز الثقة بالعدالة ويبعث على التسليم بمجراها، ويُطمئن الجميع إلى ضرورة الدخول إلى الانتخابات بتنافس سياسي حضاري، تحت مظلة اتفاق الطائف واتفاق الدوحة وسيادة القانون وروح الدولة التي للجميع مصلحة فيها.
وهو في سورية دافع للتخلّص من حالة التوتر في السلطة والركود في المعارضة، والتوجه مباشرة نحو الإصلاح والتحول الديمقراطي، ولو بخطوات متدرجة، تبدأ بالإفراج عن رياض سيف وفداء الحوراني ورفاقهما.. مع ميشيل كيلو الذي تنتهي سنواته الثلاث بعد أيام!
* كاتب سوري