صفحات العالمما يحدث في لبنان

نعم! المحكمة جزء أساسي من انتفاضة 14 آذار

بول شاوول
في المراحل الأخيرة من النظام الأمني السابق، قبل انتفاضة 14 آذار، كُوّنت، وعلى هَدْي البنى التوتاليتارية المشهودة، ظاهرة قضائية سمّاها الاستاذ الكبير غسان تويني في احدى مقالاته في جريدة النهار “الظاهرة العضومية”، أو “العضومية”. ولم تكن هذه الظاهرة سوى وجه من وجوه تفتيت النظام اللبناني، وتحويله كله، مستتبعات أمنية. وعلى هذا الأساس جُعِل القضاء، بين هذه المستتبعات، مؤسسة “أمنية” بواجهة قضائية، ككل المؤسسات من رئاسة الجمهورية وخصوصاً أيام غير المأسوف عليه اميل لحود، وصولاً الى مجلس النواب، فالحكومة، فالاقتصاد، وحتى الجامعة اللبنانية الوطنية نفسها. فالعضومية كانت سمة من سمات ما آل اليه النظام اللبناني، الذي تحولت فيه “الديموقراطية”.. نفسها فرعاً من فروع الأمن، وكاد الاعلام يتحول بدوره مجرد جهاز رسمي على طريقة ما اورثتنا اياه النظم الشمولية والتوتاليتارية. بهذا المعنى كان كل اللبنانيين متهمين من دون أن تثبت براءاتهم. أو على الأقل موسومين بالشبهة لكن الشبهة السياسية أو حتى المذهبية. أو الاجتماعية وميزان العدالة كان في مكان والقانون ودالوز في مكان والحقوق في أمكنة. والناس عزّل امام طغيان هذه العضومية المستشرية والمفروضة المحروسة بالحديد والنار.وكلنا يذكر انه كان يمكن ان يُلَفّق اي ملف، أو اي اتهام، أو اي “حقائق” او اي فضائح.. تبعاً لارادة الأجهزة الأمنية الخارجية ذات الواجهات البلدية. كان زمن الترويع، والترهيب وخطف الناس وسجنهم بلا محاكمة ونفيهم وقتلهم، بلا حسيب أو رقيب، نتذكر اغتيال القضاة الأربعة واذا كان ثمة “رقيب” فلكي يكرس التواطؤ والظلم والضغط: الجنرال ميشال عون كان من ضحايا تلك الملفات: اتهم بالخيانة وبسرقة الأموال العامة والاتصال بالعدو، والعمالة لاسرائيل. عندما كان يُعارض ومن موقعه المعروف وفي فترة محددة، الوصاية السائدة. (الآن عسل بعسل يا شهر العسل!). عال! والرئيس الشهيد رفيق الحريري كان اكثر المتعرضين لهذه الضغوط والابتزازات والتشويه؛ ونتذكر بعض الكتب الملفقة كمثل “الأيدي السود”، الذي اختلقته المخابرات المشتركة وذُيّل بتوقيع معروف. ونتذكر التهديدات المباشرة بسيف العدالة “العضومية” للرئيس الشهيد ولغيره من الزعماء، كل ذلك برسم ان القضاء ليس بأيدي القضاء. والعدالة شيء والقانون شيء آخر. ونظن ان هذا الوضع الملتبس للقضاء من العوامل التي سهلت اتخاذ قرار اغتيال الحريري باعتبار ان كل ما كان قائماً، يمكن توظيفه لتمويه الوقائع، وتمرير الاغتيال، بالطرق التي كانت سائدة. اذاً نقتل والقضاء يختلق. اذاً نرتكب ما شئنا من الجرائم ولا حسيب قضائياً. هذه كانت حسابات الذين قرروا ودبروا ونفذوا اغتيال الحريري وكأنه اغتيال بالمصادفة، او كأنه مجرد حادث بلا تحقيقات، ولا من يحققون. لكن فوجئوا بانتفاضة 14 آذار التي طلعت من رحم شهادة الحريري؛ واستكملت تحت شعارات ابرزها: الحقيقة والعدالة والسيادة والاستقلال.
ومع هذا كان المتضررون يسعون الى منع قيام المحكمة. ثم قامت، ثم الى منع قيام المحكمة وها هي، من دون ان ننسى لجوءهم الى مختلف الأساليب لتمويه الوقائع وابعاد الشبهات وصرف الأنظار.. كل ذلك لم ينفع في وجه الاصرار على معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة وصمود المحققين وكذلك القضاة اللبنانيين. فالقضاء اللبناني، وبرغم كل شيء خلع “العباءة” العضومية، ليرتدي “روب” العدالة.. ونتذكر كم تلقى بعض القضاة تهديدات وخضعوا للترهيب، ظناً ان الزمن العضومي “الجميل” يمكن استعادته! لكن الجريمة كانت اكبر، خصوصاً ان قتلة الحريري عالجوا الداء بالداء: اي استكملوا ادواتهم القاتلة باغتيال عدد من رموز 14 آذار. من دون ان ننسى مختلف الانقلابات التي دبرت: من حركة العبسي (المعروفة) الى تعطيل البرلمان، الى محاصرة الحكومة.. بالقوة والترعيب. لكن الجريمة كانت اكبر. ووسائلهم القديمة لم تعد صالحة. وعلى امتداد مراحل المحكمة حتى تكريس مقرها في لاهاي. كانت تستنفر اصوات معروفة في حملات مسعورة ضد المحكمة باعتبارها مسيسة وموجهة..! انها سيرة خرافية لكن مُحققة على الارض. وهذا ما جعلها الوسواس الأول لدى هؤلاء. الوسواس الذي حملهم على بناء مواقفهم من الدولة، ومن البرلمان ومن الحكومة، ومن الأمن، رهناً بهذه المحكمة. اي فعل اي شيء، وحيثما كان، واينما كان، في محاولة منع المحكمة من القيام بواجباتها، او حتى ضرب مفاعيلها والتأثير في احكامها. وما الحملة التي نُظمت قبل اسبوعين، وابان تأليف الحكومة سوى فصل من فصول محاولات التعطيل: فالفرقاء الذين ناصبوا العداء للمحكمة (فعلياً) ها هم اليوم يعلنون استمرارهم مع اقتراب (كما يقال) اصدار بعض التحقيقات الأولية: هجمة شرسة على المحكمة! وعلى المحققين. وعلى كل من يدعم هذه المحكمة. واذا كان جميل السيد، “ايفان الرهيب” في عصر الوصايتين والذي كان اداة من ادوات “الزمن العضومي” يضرب بعصا الأجهزة ويهدد بذراع غيره (كموظف مستقوٍ بقوة تواطئه مع القمع ومشاركته فيه. وكلنا يتذكر ما ارتكب من موبقات مع الشهيد سمير قصير، من مطاردات صبيانية وتافهة وصولاً الى اغتياله!) واذا كان السيد (قلت السيد! يا للخطأ!) قد مدح المحكمة يعيد صدور قرار باخلاء سبيله مع الضباط الآخرين، مركزاً على براءته (وهو لم يُبرّأ) بالاستناد الى حكمها، ها هو اليوم في مونودراما بعد النهاية، يوزع شتائمه واتهاماته في كل اتجاه: من القضاء وبعض القضاة، الى الجيش، فإلى رئيس الجمهورية، فإلى وإلى..! صرخة مسعورة بصوت سواه، يفجرها، لينضم الى جوقة المشككين بنزاهة المحكمة، والقضاء اللبنانية. وما كان ينقص جميل اللاسيّد سوى أن يتباهى بذلك القضاء العضومي الذي كان يحرسه بالحراب والأسلحة والقمع (والسيّد جزء من الظاهرة العضومية). إنه هنا، “تشي غيفارا” “الوصايات”، يدعو الناس الى الثورة، وقد نسي “غيفارا” القمع والتبعية، أن الثورة قد قامت فعلاً واقتلعته، وأن هذه الثورة السلمية الحضارية أظهرت مدى سواد “زمنه” الدموي، والسؤال: ماذا يمثل هذا “المدير” (المُدار) حتى يسمع لنفسه بهذه الأحكام؟ لا يمثل شيئاً. لا أحد وراءه سوى الأجهزة. والوصايات. لا أحد وراءه سوى المنقلبات. لا موقع له إلاّ كأداة طيّعة في أيدي الذين كانوا أكبر منه ووراءه، يتحكمون بإرادة اللبنانيين! تريد أن تعمل “بطلاً”! لكن من سمات الأبطال يا جميل هو النُبل، والوطنية، واحترام الشعب، والوطن والعدالة، والحقيقة، والديموقراطية، والسيادة، والدولة: وأنت كنت على امتداد تاريخك ضد كل ذلك؛ فهلا نظرت لحظة الى المرآة يا جميل! فانظر! وأخبرنا ماذا ترى: الرعب! والقسوة! والتواطؤ! واستضعاف الناس. والتمرجل على “الأدوام”! هذا هو تاريخك! ولا شيء سوى برغي صغير من براغي ذلك النظام الأمني المشؤوم الذي دانته أكثرية اللبنانيين وما زالت! (وهنا أود أن أورد ملاحظة: إنني قررت أثناء وجودك في السجن ألاّ أتعرض لك بأي كلمة لسبب بسيط: أنك كنت في السجن. وضعيف. ونحن لسنا مثلك نستضعف الضعفاء! فهذه من سمات النبل يا جميل! وكذلك احتراماً للقضاء والتحقيقات). وأجمل ما نطقت به (أو أُنطِقتَ به) إعلانك سقوط المحكمة بكل تقاريرها وأبحاثها (وهي أفرجت عنك. رائع ومدحتها آنذاك. رائع)، أنت الموظف الأمني تعلن سقوط المحكمة الدولية لكشف ومحاكمة قتلة الشهيد الحريري! برافو! وأنت توزع الاتهامات وترميها في كل اتجاه. برافو! وقد وُقّتَ لك الموعد. وأبليت سوءاً لا حسناً. ذلك أن الناس تعرف جيداً أن “الجوقات” المفبركة والجاهزة، تُحرك بكبسة زر أو أحياناً من تلقائها بلا زر. والكل يعرف أن ما “أُنطِقَت” به لم يكن منفصلاً عن مختلف العراقيل التي تقام في وجه تأليف حكومة وحدة وطنية، بشروط “مستوردة” طبعاً، وبقامات مستوردة، وبأصوات مستعارة، تهتف بكل ما أُوتيت من دفع خارجي، لا يهدف فقط الى تعطيل المحكمة، بل، وفي طريقها تغيير النظام. أف! أف! تغيير النظام، يدعو إليه من تحتاج أنظمتهم الى تغيير. برافو! تغيير النظام عن طريق الانقلابات كما جرت العادات السيئة عند أنظمة قامت بانقلابات بالقوة وبالحديد والنار… ومن يغير النظام يا جميل؟ العسكر! بعض الضباط وبعض الدبابات! الديماغوجيا! الإرادة الخارجية! أنت تعرف أن مآسينا العربية (أخبروني أنك عروبي أيضاً رائع! لكن أين؟) هم أهل المنقلبات، الذين هم أهل الهزائم العميمة منذ نصف قرن وحتى الآن. هؤلاء الذين اقتحموا السلطة، وأحاطوا من أحاطوا، وتربعوا على الجماجم! وسفكوا الدماء وانتهكوا الكرامات، وفتحوا السجون. هؤلاء الذين وصل بهم الأمر الى أن يعتبروا أنهم هم الذين ينتخبون الشعب، وليس الشعب هو الذي ينتخب. وهم الذين يحاكمون لا القضاء، وهم الذين دمروا الدولة العربية الديموقراطية، والمؤسسات المدنية، والمجتمع… والتنوع، والأفكار… فهل تريد يا جميل، أن تكرر هذه “الأهزوجة”، من جديد؟ أنت ومن وراءَك ومن حولَك؟ أتريد نظاماً يُشبهكَ؟ رائع! لكن الكل يعرف أن “ثورتك” هذه المستعارة من الأقبية ليست أكثر من تهويل كلفت القيام به، للضغط على أحكام المحكمة، وعلى نتائج التحقيق في لاهاي! أي النظام كله مقابل المحكمة. حياة الناس مقابل المحكمة، الحكومة برمتها مقابل المحكمة… الأمن مقابل المحكمة… إذاً، إبرة اسطوانتك متوقفة، برغم نشازها، على المحكمة، ولو مُوّهت بصراخ، وبويل وبثبور… أنت لست من مقاسها كلها. بل أكثر: مصير البلد كله، بحسب ما نسمع وما لا نسمع، متعلق بهذه المحكمة! لكن هؤلاء لا يعرفون أن المحكمة تعني أيضاً الدولة. والأفراد. والديموقراطية. والسيادة. وأن الإخلال بهذه المحكمة الدولية سيؤدي الى انتهاك استقرار الناس، والسياسة، والصحافة، والحرية، وعودة استباحة حياة الناس، بلا محاسبة ولا محاكمة. صحيح أنها محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وشهداء 14 آذار… وصحيح أن هذه الجرائم لا يمكن أن تمر مرور الكرام. ولكن الصحيح أيضاً أن المحكمة تعني القضاء في لبنان (معظم الأنظمة العربية ليس عندها قضاء مستقل، بل قضاء أمني مرتبط بالمخابرات وأهل السلطة)، وتعني كل ما يتصل بالدولة، والنظام، وأن أي خلل يصيبها يصيب الهيكل كله. على هذا الأساس، نقول أن تأليف الحكومة لا يمكن أن يتم على المحكمة الدولية (أو القضاء اللبناني)، ولا يمكن أن تقوم أي حكومة تنفي فاعلية المحكمة أو تتواطأ لإفشالها. ولا تنسَ يا جميل أن الانتخابات الأخيرة التي فشل فيها حلفاؤك، كانت العدالة من شعاراتها… في المستوى الواحد مع السيادة والديموقراطية والحرية. والتخلي عن المحكمة يعني التخلي عن المكوّنات الاستقلالية كلها، بأدواتها ومضامينها. وهكذا نفهم تصريح الرئيس المكلّف أول من أمس من أن لا مساومة أو مقايضة في التأليف، أي لا تنازل عن ثوابت الأكثرية (هل تفهم يا جميل ما معنى الأكثرية والأقلية)، ولا الثوابت اللبنانية والكل يعرف أن لسان حال اللبنانيين يقول “إذا استبيح القضاء من جديد وتأمنن وتعسكر فمن يحمينا، ويحمي أرزاقنا وحياتنا وممتلكاتنا وديموقراطيتنا وحريتنا… والعدالة والحقوق المدنية والقوانين! هذا ما يقوله اللبنانيون وأنت و”رفاقك” تفرطون بكل ذلك وتعارضون هواجس اللبنانيين، ومخاوفهم من عودة “الظاهرة” العضومية في كل المجالات، وأنت يا جميل منها كمثل الصدى من الصوت!
فهل ينتظر من ينتظر، بذريعة هذه المطالب والشروط التعجيزية لتأليف الحكومة، أول من خلال التهديدات بالحروب والترهيب بأن يتخلى اللبنانيون عن هواجسم… ويتنازلوا عن مكتسباتهم التي استردوها بانتفاضة الاستقلال، ومنها المحكمة الدولية، كرمى لمن “سفحوا” القضاء اللبناني والعدالة أكثر من أربعة عقود بقي فيها سيف السياسة مصلتاً فوق ميزان العدالة؟
نقول هذا، لا رداً على من لا يملك رأياً، إذ هو “مُحمّل آراء” و”رسائل”، أي بوسطجي عند من يُبَسطِجونهُ وسبق أن “بسطجوه” علينا، لكن وهنا نُحيل “السيّد” (قلت السيّد إسماً لا شيء آخر)، ما “استنطقه”، وما استنطق الآخرون على ما صرّح به الرئيس المكلّف سعد الحريري في إفطار أول من أمس “أريد أن أؤكد أنني لن أجعل رئاسة الحكومة ورقة للمساومة وأن المصلحة العامة ستبقى عندي أغلى من كل المراكز”. مفهوم! مفهوم! وقائل هذا القول رئيس أكبر كتلة نيابية، ومُنّضَمّ لأكثرية نيابية وشعبية (ونشدد يا جميل على “شعبية”) مليونية!
بول شاوول
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى