إقـــرار متأخـــر
عباس بيضون
اعتبر المرشح الايراني المحافظ لرئاسة الجمهورية محسن رضائي دعوة الرئيس الحالي نجاد الى مؤتمر عالمي لنفي الهولوكست خطأ. الآن نسمع، ولو متأخراً، كلمة للعقل. كان رضائي قائداً للحرس الثوري ويوصف بأنه محافظ ومع ذلك لم يفهم دعوة نجاد ولم يجد لها سبباً. في الواقع لا يمكن لاي شخص عادي، محافظاً كان أم اصلاحياً، أن يفهم هذه الدعوة. فهي بالتأكيد خارج أي تصنيف. لا بد أن جموحاً بلا اسم او شعوراً خاماً او مجرد شطح غير مفهوم أدى إليها. يقول رضائي انها مسألة تاريخية، ونقول مع رضائي انها مسألة تاريخية. هل يكفي تعجب رضائي من ان يكون نجاد اقحم نفسه في مسألة تاريخية واقحم الدولة معه أم ان في الأمر شيئاً آخر، شيئا يقارب الجنون الايديولوجي. الهولوكست اقترن باليهود لكن اليهود لم يكونوا وحدهم في المحرقة، كان معهم الغجر وكان معهم ايضا من ليسوا غجراً ولا يهوداً. لكن نجاد الذي يرفع الصراع مع اسرائيل الى زمن يوم خيبر لا يمانع في ان يبدأ معركته معهم منذ فجر البشرية فيكون مع الملك البابلي ومع الحاكم الروماني ومع محاكم التفتيش الاسبانية ومع… ومع هتلر. سيكون مع هتلر ولا يمانع في ان يعقد مؤتمراً لنفي الهولوكست. مؤتمر كهذا ليس في الحقيقة لنفي الهولوكست فهذه كما يقول رضائي مسألة تاريخية ولكن للموافــقة على الهولوكست في ما يشبه تحية لهتلر على انه قـام بــها، ولتحــمل أوزارها معه وربما عنه.
ليست المسألة فقط تاريخية كما يقول رضائي، وليس خطأ نجاد انه اقحم نفسه في مسألة تاريخية. المسألة هي ان نجاد يريد ان يشارك النازية في احراق اليهود فلا يكون لها وحدها ذلك المجد ومفاعيله. هكذا ومجاناً وبدون سبب على الاطلاق، لم يكن نجاد ولا كان الايرانيون ولا كان المسلمون ولا كان الشيعة شيئاً في الحرب الثانية ولم تكن لهم، من قريب او بعيد صلة بمجرياتها، وها يأتي احدهم في القرن الواحد والعشرين ليشارك هتلر في مسؤولية ولتحمل عنه بعضاً من جرائره، فيشترك بالنية في الهولوكست بعد ان فاته ان يشترك فيها بالفعل، وليسلم اعداء ايران قرينة اتهام مجانية، فلا بد ان كثيرين ينتظرون من الرئيس الايراني ان يسلمهم إقراراً متأخراً بالمساهمة في جريمة لم يكن حاضراً فيها وحدثت قبله بقرن من الزمان.
كانت الحجة الاكثر بداهة هي ان فلسطين ليست مسؤولة عما عاناه اليهود لتكون تعويضا لهم عما جرى ضدهم. فقد اجرم العالم مرتين، مرة حين اضطهدهم ومرة حين ألقى تبعة اضطهادهم على شعب لا يد له فيها. حجة كهذه لا تناسب الكثيرين من اصدقاء اسرائيل فهي مع الوقت تضّر اسرائيل وتجعل شرعيتها التاريخية موضع سؤال دائم، لذلك نجد برنار هنري ليفي في (لو بوان) يكرر ان ما من بلد ولا شعب في العالم بريء من دم اليهود واضطهادهم، وفلسطين مثلها مثل غيرها. يذكّر ليفي في هذا السياق بمفتي فلسطين الحسيني الذي هرب الى المانيا الهتلرية ويخترع على ألسنة «مؤرخين» ذلك الفيلق العربي الذي كان ينتظر وراء خطوط رومل انتصار هذا الاخير ليدخل الى فلسطين ويذبح اليهود المقيمين فيها. لا تهّم ليفي بالطبع المحاكمة التاريخية. سيقبل أي شاهد صحيح او غير صحيح ليقول ان فلسطين هي الاخرى مذنبة بحق اليهود وتستحق ما جرى لها. لقد اذنبت في حق اليهود ويجوز لهؤلاء ان يعاقبوها بهذا الذنب وسيكون طرد اهلها واقامة دولة يهودية على أراضيهم جزاء عادلاً. النازية داء عالمي والفلسطينيون ليسوا بمنجى منه. لا بد ان ليفي رحب كثيراً بمؤتمر نجاد فهذا بدون انتظار ولا توقع انتساب متأخر الى الهولوكست. في وسع ليفي بعد ذلك ان يدعم اطروحته القائلة بأن كل اعداء اسرائيل نازيون. لقد ذهب نجاد بقدمه الى هذا الفخ، انتظر ستين عاماً تقريباً على سقوط هتلر ليبرئه. بوسعنا ان نهلل للحذاقة.
ليست ايران أي بلد، ان لها تاريخاً في التحديث وفيها نخب عريقة وتقليد في الدولة والسياسة. لذا نعجب ايما عجب من شطحات كهذه تدل، ليس فقط على غفلة كل رقابة وكل ميزان، بل على انجرار الى عزلة وغيبة عن العالم. لا نستغرب شطحات مماثلة من شيوخ السعودية فهؤلاء نشأوا وعاشوا ولا يزالون في العزلة. اما ايران فلها تاريخ آخر ولا شيء يدل على ان ساستها ونخبها لا يحفلون بالعالم ولا يحسبون له حساباً. المؤتمر الذي دعا إليه نجاد غياب مستغرب عن العالم، هذا ما فهمه رضائي الذي قال ما معناه ان المؤتمر جر على ايران ردوداً وتبعات عالمية لا قبل لها بها.
ما دمنا في ايران فإن القانون الذي سنّه رئيس افغانستان كرزاي لارضاء الشيعة الافغان يثير عجباً آخر. خلاصة القانون، الذي قصد به الرئيس اجتذاب الشيعة الى دعمه في انتخابات الرئاسة، احتقار المرأة او المزيد من احتقار المرأة وتجريدها من أي حق في مواجهة رجلها وحرمانها من ارثها. قانون عجيب اذ يتعارض وخاصة في مسألة الارث مع التعليم الديني وفقه المذهب الشيعي. هنا يبدو ان دواعي القبيلة تغلب دواعي الدين، كذلك هي الحال في السعودية التي لا نعرف الى أي قاعدة دينية يستند فقهاؤها في تحريمهم على المرأة قيادة السيارة. في افغانستان التي تسير فيها النساء في ثياب ولكن في اقفاص منسوجة تطالب شيعتها بمزيد من السجن والطاعة والحرمان للنساء. العشيرة هنا وهناك تضيق الدين او تكيفه مع مطالب تزداد مع الزمن ضيقا. وفي النهاية فإن دين العشيرة هو الذي يغلب. أليست هذه مسألة تستحق نظراً من علماء الشيعة، الا يحتجون على حرمان المرأة من الارث خلافاً للشرع، الا تستحق نظراً من ايران، جارة افغانستان التي يحق للمرأة فيها ان تصوّت وتترشح للانتخابات وتكون نائبة لرئيس الجمهورية ويكاد الدستور يحرم فيها تعدد الزوجات. ألا تستحق من ايران عاصمة التشيّع ان تحتج على قانون كرزاي وعلى مطالب الشيعة الافغان، وان تصوّب بذلك من وجهتها نظر الشيعة الافغان ونظر العالم الى الشيعة.
كان اليهود والغجر هدف عدوانية هتلر. اعتبر اليهود شراً والغجر قذارة وتخلص من هؤلاء واولئك في المحرقة، لكن النساء هدف عدوانية الجماعات الدينية المتعصبة التي تدمج ما بين العنف الذكوري والعنف السياسي. في سوات الباكستانية كان تطبيق الشريعة ايذانا بذبح النساء المتمردات والحجر على الباقيات وبالطبع حرمانهن من العمل والتعليم، قانون كرزاي يكلف الدولة بفرض الطاعة الجنسية على النساء ويحرمهن من الإرث، لا اعرف إذا كان هناك اسم لهذا سوى الجحيم، سوى المحرقة، كان على الرئيس نجاد ان يعرف ان الهولوكست حقيقة وعندنا ما يعادله.
السفير الثقافي