ازمة الاعلام العربي من على مقهى لندني
خالد الشامي
لا اعرف عدد السجائر التي دخنها استاذنا حمدي قنديل في جلستنا الممتدة على ذلك المقهى اللندني. ضاع مني العدد بعد ان تشعبت ‘الدردشة’ التي كان الاعلام العربي محورها الرئيسي، لندخل في موضوعات وحكايات كثيرة لايمكن نشرها. الا ان عدد المرات التي ضحكنا فيها على حالنا وحال هذا الاعلام كان اكبر بكثير، ربما لأن شر البلية ما يضحك.
عمق الازمة التي يعانيها الاعلام العربي المستقل على ندرته وما يواجهه من تضييق ومحاصرة موضوع لا يلقى ما يستحق من بحث ودراسة سواء اعلاميا او حتى على الصعيد الاكاديمي.
وقد فوجئت اثناء مشاركتي في مؤتمر جامعة لندن مؤخرا حول الاعلام العربي بأن الباحثين غير العرب، ومنهم مارك لينش وناعومي صقر على سبيل المثال، كانوا اكثر اهتماما ومتابعة لهذه القضية من بعض الزملاء العرب الذين ينظرون الى الاعلاميين المستقلين وكأنهم مصابون بانفلونزا الخنازير(…).
ويكفي لنتعرف على عمق هذه الازمة ان نعرف ان المنظمة المصرية لحقوق الانسان، والتي يحاول النظام اغلاقها حاليا، اعتبرت ان العام الماضي كان الاسوأ على الاطلاق بالنسبة لحرية التعبير والاعلام في مصر.
الا ان هذا لايفاجئ من سمع عن العدد القياسي من احكام السجن التي صدرت بحق الصحافيين، واغلاق قناة فضائية اسمها ‘البركة’، وطبعا حذف قناة ‘الحوار’ من قمر النايلسات، الى آخر القائمة الطويلة من الانتهاكات.
ما حدث مع برنامج ‘قلم رصاص’ للاعلامي الكبير حمدي قنديل ليس حالة منفردة او شاذة كما حاول البعض للاسف ان يصور الامر، حتى انهم حملوه بسبب (انتقاده لانظمة مهمة) مسؤولية اغلاق القناة الليبية (..)، بعد ان اممها العقيد القذافي بيده (لا بيد عمرو) في ساعة مبكرة جدا من صباح يوم اخر حزين في تاريخ الاعلام العربي.
وكأننا يجب ان ننتقد الصومال وجزر القمر فقط، او كأن انظمتنا وبعض ابواقهم تقلد سياسات الاعداء التي تدين الضحية.
ومن حق اي مسؤول او اعلامي او مشاهد الا يتفق مع ما يقوله برنامج ‘قلم رصاص’ او الا يعجبه الاسلوب الذي يقال به. ولكن من واجب كل مؤمن بحرية التعبير ان يدافع عن حق هذ القلم وكل قلم اخر في ان يعبر عما يراه ويعتقده.
ويمكن تفهم بعض الانتقادات التي وجهت لصاحب (قلم رصاص) لقبوله العرض الليبي اصلا، الا ان هذا لايجب ان يحرف النظر عن القضية الاساسية: لماذا تضيق ارض الله الواسعة وفضاؤه الرحب باصحاب الرأي المستقل في هذا العالم العربي؟
وكيف ان انظمة تملك امبراطوريات اعلامية، مدججة بقنوات وصحف ذات ميزانيات مفتوحة تسبح بحمدها ليل نهار، لا تستطيع ان تتحمل اصواتا قليلة تغرد خارج السرب؟
وما الذي يضير نظاما يوظف في قنواته التلفزيونية ستة واربعين الف شخص ( اي اكثر من عديد جيوش السويد وسويسرا وسلطنة عمان) ينتجون مئات البرامج يوميا ان يحمل الاثير عدة برامج مختلفة من هنا اوهناك؟.
وهل لدى هذه الانظمة، المفترض ان تكون منشغلة بقضايا الامة المصيرية، كل هذا الوقت والفراغ اصلا لتتابع كل برنامج ينتقد سياستها سواء كان يذاع من ادنى الارض او اقصاها؟
ومن الادلة على اتجاه مأزق الاعلام المستقل الى مزيد من التعقيد، مشروع قانون البث الاعلامي الذي يستعد البرلمان المصري لاقراره، وهو يشبه استعانة النظام بقنبلة نووية في مواجهة اعلاميين لا يتسلحون اصلا الا باقلام او اصوات شريفة.
ولقد كان التضييق على الحريات دائما من علامات نهاية العهود في مصر. واذا كان هناك من ناصح مخلص قريب للرئيس مبارك لطلب منه التدخل فورا ومنع اقرار هذه المذبحة المرتقبة للاعلام المستقل.
اذ ان نظام مبارك مدين جزئيا في طول بقائه الذي لا ينافسه فيه الا عهدا رمسيس الثاني ومحمد علي باشا الى هامش من حرية الاعلام اكتسبه الشعب المصري عبر كفاح طويل وبشجاعة صحافيين شرفاء مستقلين. ولو لم يجد الناس متنفسا اعلاميا لما تحملوا كثيرا مما عانوا ويعانون.
واذكر اني سمعت مسؤولا امريكيا رفيعا، يقول لعدة صحافيين عرب التقاهم في لندن قبل سنوات بشرط عدم ذكر اسمه: ‘لو كنت شقيق الرئيس المصري لنصحته بأن يسمح بتشكيل الاحزاب واصدار الصحف، لأن هذا يمثل دعما كبيرا للنظام واستقراره’.
ان ازمة الاعلام العربي المستقل تعود لسببين اساسيين : اولا الحرب الشعواء التي تشنها ضده انظمة متهاوية ومتهاونة لا تريده شاهدا على ما ترتكب في حق شعوبها من اخطاء وخطايا. وثانيا الاستقطاب الاعلامي الحاد والعاكس لحالة من الانقسام والتشرذم العربي.
رفع تكلفة بث القنوات الفضائية على بعض الاقمار الصناعية، التدخل لحذف قنوات مزعجة على النايلسات، بورصة التوريث التي تزدهر في غير بلد عربي، التقلصات والتنافسات داخل العائلات الملكية والجمهورية و’الثورجية’ الحاكمة، استخدام المصالح واغراءات ‘البيزنس’ في التأثير على سياسات وسائل الاعلام، كلها عوامل تحاصر الاعلام المستقل.
وللأسف فان من بين ادوات الحصار ايضا، اعلاميين يطلون علينا عبر قنوات وصحف ومراكز بحثية تتمتع بتمويل سخي للغاية من اجهزة مخابراتية لا تخفي سعيها الى تحسين صورة بلادها، ويتضمن ‘وصف الوظيفة’ الذي يوقع عليه هؤلاء، بالاضافة الى ‘فلسفة الانبطاح السياسي وتسويقه’، العمل على تشويه صورة الاعلاميين المستقلين حتى لا يصدق الناس ما يقولونه لهم.
اما حالة الاستقطاب فأدت الى خلق بيئة اعلامية عربية طاردة لأي’فريق ثالث’ يريد ان يرى سوءات الوضع العربي سياسيا واعلاميا بعينين، لا بعين واحدة، ما اسهم في تهميش قيمة الاستقلال الاعلامي الذي هو الرصيد الحقيقي للصحافي، وهو الذي يبقيه طويلا بعد ان يرحل من كانوا يسعون لاسكاته.
صحيح ان اغلب الاعلاميين المستقلين في هذه اللحظة يقفون اقرب الى ما يسمى بمعسكر الممانعة الا ان هذا لا يجب ان يمنعهم ابدا من انتقاد بعض سياساته، كما لا يجب ان يمنعهم ابدا من التنويه ببعض سياسات المعسكر الاخر.
وفي ظل حرب اعلامية عربية مستعرة بين معسكرين، لم تعد الصحافة والقنوات الفضائية مجرد ساحة لتداول آراء ورؤى فكرية او سياسية مختلفة، بل ساحة حرب اهلية اعلامية عربية تدار بعقل اجهزة امنية محلية واجنبية، او بايديها في بعض الحالات.
واخبرني صديق يعمل في ‘جيش الاعلام’ الحكومي المصري، معلومات بدت وكأنها اسرار حربية وهو يتلوها، حول استعدادات تجري في هدوء وراء الكواليس لاطلاق قناة اخبارية جديدة من القاهرة لن تزيد مساحة الشأن المصري فيها عن خمسة بالمئة، وسيخصص الباقي لفضح من يهاجمون مصر في قنواتهم(…). وستكون لديها ميزانية مفتوحة تستطيع توظيف اعلاميين ومعلقين كبار من جنسيات عربية عديدة.
وليست حملة ‘التغييرات بالجملة’ التي شهدتها المناصب العليا في امبراطورية الصحف الحكومية المصرية مؤخرا الا تعبيرا عن حنق النظام على الفشل في مواجهة ‘فئة قليلة’ من الصحافيين والاعلاميين المستقلين.
فالى اين تتجه الحرب على الصحافة والاعلام المستقل في بلاد العرب التي اصبحت اوطان من يحكمونها واوطان ابواقهم فقط، اما من يخالفهم الرأي فعميل خائن ومحروم من صكوك الوطنية التي يوزعونها مثل الاراضي والهبات على المحظوظين؟
وما معنى قصف ‘قلم رصاص’ واغلاق’ البركة’ ومنع ‘الحوار’ بالنسبة لمستقبل الحريات، ومستقبل انظمة تقول انها قوية ومستقرة؟ وهل سيشفع للساكتين عن هذه الانتهاكات سكوتهم؟
ربما تعرفون غدا وهو لناظره قريب.