صفحات العالم

سياسة إطلاق الأسماء: هل هي حرب تطهير؟ أم إبادة جماعية؟ أم تمرد؟

محمود ممداني
ترجمة: الدكتور رفيق عبد السلام
بين يدي النص
يسلط هذا التقرير الضوء على مجريات الحرب في دارفور، ويكشف النقاب عن العناصر والقوى التي تقف خلف تحويل الحرب في دارفور إلى قضية كبرى تتصدر رأس أجندة مجلس الأمن الدولي والقوى الغربية عامة، ومن ذلك الدور النشيط الذي لعبه متحف واشنطن لذاكرة الهولوكوست، وبعض الأقلام الصحافية المتحيزة، مثل نيكولاس كريستوف المعلق الصحفي بجريدة نيويورك تايمز، في تهويل الأمور وتضخيم الحقائق.
جوهر المشكل في دارفور، وعلى نحو ما يقول محمود ممداني، يعود إلى وجود تمرد مسلح وتمرد آخر مضاد مدعوم من الدولة السودانية، أكثر مما يمكن إرجاعه لاعتبارات إثنية. لقد بدأت حركة التمرد في دارفور سنة 2003، بينما كانت النخبة السياسية السودانية منشغلة بنزاعاتها الداخلية حول السلطة في الخرطوم، مع اهتمام ضئيل بالغرب السوداني المنادي بالإصلاح في المركز. وإذا كان من المسلم به أن جماعة الجنجويد المدعومة من حكومة الخرطوم قد تورطت في العديد من الفظاعات، فإن جماعات التمرد المسلح لم تكن أقل تورطا وعنفا.
أما من جهة أخرى فإن التقرير يكشف اللثام عن لعبة استخدام الأسماء والأوصاف التي تضفى على هذا الصراع، وما تخفيه هذه العملية من رهانات ومصالح كبرى. فرغم وجود مساحة تشابه كبير بين ما يجري في العراق والسودان، على ما يقول الكاتب يلاحظ اختلافا كبيرا في استخدام النعوت والأسماء في دوائر السياسة والإعلام في مختلف العواصم الغربية، إذ تسمى هذه الحرب في العراق بالتمرد، بينما يطلق عليها في دارفور صفة حرب تطهير وإبادة جماعية.
ويضيف التقرير أن أكثر عمليات التعبئة العامة تجري اليوم في نيويورك على خلفية قضية دارفور السودان وليس العراق، بينما كان من المفترض أن تتركز حول العراق حيث يتساقط الجنود الأميركان.
ومن المفارقات العجيبة هنا أن الكثير من الهيئات والمنظمات الأميركية التي تدعو إلى الانسحاب من العراق هي نفسها التي تطالب بالتدخل العسكري في دارفور تحت ذريعة وجود حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي يقودهما العرب ضد الأفارقة في دارفور.
ويقول التقرير خلافا لذلك إن دلالة العربي والأفريقي في السياق السوداني بالغة التركيب والتنوع، وعلى هذا الأساس من التضليل القول إن هذا الصراع يجري بين عرب من جهة مقابل أفارقة من جهة أخرى على نحو ما هو شائع في الخطاب السياسي والإعلامي الغربي.
وينبه التقرير في نهاية المطاف إلى خطورة تكرار المشهد العراقي المرعب في السودان تحت عنوان التدخل الإنساني هذه المرة، مع ما يحمله هذا التدخل من مخاطر على استقرار البلد واحتمال توسيع نطاق النزاع، ويدعو مقابل ذلك مختلف الأطراف الدولية الفاعلة إلى تشجيع مسار السلام والوفاق الأهلي بين مختلف القوى المتنازعة في السودان.
وفيما يلي نقدم للقارئ ترجمة لأهم ما ورد في هذا التقرير.
الأسماء المتغيرة
يبدو التشابه بين العراق ودارفور جليا، فعدد الضحايا الذين سقطوا بين المدنيين في السنوات الثلاث المنصرمة في البلدين يبدو متقاربا إلى حد كبير. ومن المعلوم هنا أن الذين يمارسون القتل في كلا البلدين ينتسبون غالبا إلى مجموعات مسلحة ذات صلات وثيقة بعساكر رسميين يقال إنهم المصدر الرئيس لتزويدهم بالسلاح، أما الضحايا فهم في الغالب الأعم محل استهداف لكونهم أعضاء في جماعات مسلحة أكثر مما هم أفراد.
إلا أن ما يلفت الانتباه هنا أن حالة العنف الجاري تطلق عليها أسماء مختلفة في البلدين، ففي العراق توصف بأنها دورات من التمرد والتمرد المضاد، أما في دارفور فإنه يطلق عليها اسم حرب إبادة جماعية.
لماذا هذا الاختلاف هنا؟ ومن يطلق هذه الأسماء؟ ومن الطرف الذي تطلق عليه مثل هذه الأسماء؟ وما الفرق الذي يتولد عن مثل هذا الاختلاف في إطلاق الأسماء؟
إن عملية التعبئة الأكثر قوة تجري اليوم في مدينة نيويورك، وهي ذات صلة بدارفور وليس العراق، بينما من المتوقع أن تكون هذه التعبئة حول العراق، لسبب رئيس هو كون سكان نيويورك مواطنين أميركيين قبل كل شيء، وكان من المفترض أن يشعروا بالمسؤولية المباشرة عن العنف الذي يجري في العراق المحتل، بيد أن العراق يظل في المخيال الأميركي أرض الاضطراب والفوضى، فضلا عن كونه محكوما بسياسة معقدة.
وبحكم هذه التعقيدات التي تحكم الوضع العراقي ينشغل الأميركيون بما يمكن أن تفعله حكومتهم في العراق، وما إذا كان عليها أن تنسحب من هناك أم لا؟ وما الذي سيجري في حالة إذا ما تم هذا الانسحاب؟
خلافا لذلك لا يوجد شيء معقد في دارفور يحول دون التدخل العسكري، إذ ينظر إليه على أنه أرض من دون تاريخ ومن دون سياسة، إنه مجرد موقع يوصف فيه مقترفو الجريمة بأنهم عرب، في مواجهة ضحايا يوصفون بأنهم أفارقة.
ظهرت صفحة دعائية كاملة في جريدة نيويورك تايمز تطالب بالتدخل الفوري في دارفور، وهي إلى جانب ذلك تريد من القوات المتدخلة أن توضع تحت إمرة سلسلة قيادية تتيح اشتغال الآلة العسكرية بصورة ناجعة وناجحة دون انتظار موافقة الهيئات السياسية والمدنية البعيدة، فهم يطالبون ألا يخضع التدخل في دارفور للاعتبارات السياسية والمدنية، ومن ثم ينادون بمنح القوات المتدخلة الحق في إطلاق الرصاص والقتل دون انتظار تفويض من الأماكن القصية، ويقال هنا إن هذه مطالب إنسانية نبيلة.
في السياق كتبت صحيفة نيوربيبليك New Republic في عمودها التحريري عن دارفور منادية “القوة هي الحل الأول”. وما يجعل من الوضعية ملغزة أكثر أن بعض أولئك الذين يدعون إلى إنهاء التدخل في العراق هم أنفسهم الذين يطالبون بالتدخل في دارفور، أو على نحو ما يقول أحد الشعارات المرفوعة “اخرجوا من العراق، ادخلوا دارفور”.
الأسئلة المطروحة هنا: ماذا سيحصل لو أننا اعتبرنا دارفور، مثل العراق، مكانا ذا تاريخ وسياسة يطبعهما التعقيد والفوضى جراء التمرد المستمر؟؟ ما الذي يمنع من أن يتحول التدخل في دارفور إلى حالة مغذية للعنف بدل أن يكون مقلصا لها، على نحو ما نتج عن التدخل في العراق؟ ولم لا يتولد عن هذا التدخل حالة من التطهير العرقي فعلا وواقعا، وليس افتراضا فحسب؟
من الناحية الأخلاقية يمكن القول إنه لا يوجد شك في الطبيعة الفظة لممارسة العنف ضد المدنيين في دارفور، بيد أن الغموض يتعلق بحالة العنف في السودان التي هي في أصلها تمرد مضاد مدعوم من الدولة، مقابل تمرد آخر منظم تقوده جماعات مسلحة بما يشبه حالة العنف في العراق.
تمرد وتمرد مضاد
بدأت حركة التمرد والتمرد المضاد في دارفور سنة 2003، وقد كان كل منهما مدفوعا بتوترات داخلية مركبة ومتداخلة بينها، وذلك في أجواء محيط دولي مثير للاضطراب، ولدته الحرب الدولية على الإرهاب. فمن ناحية أولى كانت هناك حرب تجري بين الطبقة السياسية السودانية نفسها حول مركز السلطة في الخرطوم، مع اهتمام ضئيل بالغرب السوداني المنادي بالإصلاح في المركز، ومن ناحية أخرى كانت هناك حالة انقسام بين أهل دارفور أنفسهم بين المزارعين المستقرين، والآخرين من الرحل الذين فرض ارتحالهم تقاسما في استخدام أرض شبه قاحلة، في موسم جاف.
ومع طول مدة القحط الذي استمر منذ أواخر السبعينيات، استحال التعاون بين المزارعين المستقرين وأولئك الرحل إلى ضرب من التنازع الشديد حول المصادر الطبيعية للثروة الآخذة بدورها في التضاؤل.
مثلما أخذ التمرد طريقه بين القبائل الزراعية المنعمة بعض الشيء من أهل دارفور، انخرطت الحكومة السودانية في عملية تدريب وتسليح فقراء البدو الرحل وكونت منهم مليشيا الجنجويد الذين سيصبحون فيما بعد رأس الحربة في التمرد المضاد.
من المؤكد هنا أن أسوأ حالات العنف تلك الصادرة عن الجنجويد، إلا أن ما لا يمكن نكرانه في الوقت نفسه هو كون حركات التمرد كانت متورطة بدورها في تجاوزات كبيرة. من هنا فإن أيا كان يرغب في وضع حد لانتشار العنف عليه أن يشجع على المشاركة في السلطة على صعيد الدولة، والمشاركة في مصادر الثروة بين أهل دارفور، ومن المعلوم هنا أن الأرض تظل المصدر الأهم للثروة هناك.
منذ بداية أحداث العنف صدر قراران حول دارفور، الأول كان عن الولايات المتحدة، والآخر عن الأمم المتحدة. ومما يجدر تسجيله في هذا الصدد أن القرار الأميركي كان واضحا في قوله “إن دارفور هي مكان لحرب إبادة مستمرة”.
إشكال الإبادة الجماعية
وقد بدأت سلسلة الأحداث التي أدت إلى إصدار هذا القرار بإطلاق صيحة إنذار إلى وجود حرب تطهير صادرة عن مجلس إدارة متحف واشنطن لذاكرة الهلوكوست، وحسب ما ورد في الجريزاليم بوست Jerusalem Post فإن مثل هذا التحذير يعد الأول من نوعه يصدر عن متحف الهلوكوست، وقد تبعها فيما بعد مجلس الكونغرس الأميركي، علما بأن وزير الخارجية الأميركي كولن باول كان آخر المنظمين لهذه الحملة وقتها.
أما اللجنة الأممية التابعة للأمم المتحدة التي كونت لهذا الغرض، واستجابة للضغوط الأميركية فقد كان وضعها أكثر التباسا. ففي سبتمبر/ أيلول 2004 زار الرئيس النيجيري السابق اوليسيجون أوباسانجو، الذي تولى رئاسة الاتحاد الأفريقي فيما بعد، مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وحينما سئل في ندوته الصحفية في مقر الأمم المتحدة عما إذا كان العنف الذي يجري في دارفور يدخل تحت طائلة حرب الإبادة الجماعية أم لا؟ كان جوابه واضحا وقاطعا “قبل أن نتحدث هنا عن حرب إبادة جماعية أو تطهير عرقي، علينا أن نعرف هل ثمة فعلا قرار قاطع، وكذا مخطط واضح في القضاء على مجموعة محددة من الشعب، ففي هذه الحالة فقط يمكن أن نتحدث عن حرب إبادة جماعية أو تطهير عرقي، وما نعرفه عن دارفور لا يدخل في هذا الصنف من الحروب. ما نعرفه هو أن هناك انتفاضة وتمردا، والحكومة عملت على تسليح مجموعة أخرى من الشعب لإيقاف هذا التمرد، وفي تقديرنا هذا لا يرتقي إلى مستوى حرب الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي، بطبيعة الحال هذا الأمر يدخل في خانة ما يمكن تسميته بالصراع والعنف”.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول من السنة نفسها شكل مجلس الأمن لجنة من خمسة أعضاء لإجراء تحقيق حول موضوع دارفور، على خلفية تقديم تقرير تفصيلي في غضون ثلاثة أشهر عن الانتهاكات الجارية من مختلف أطراف النزاع للقانون الدولي وحقوق الإنسان، إلى جانب تشخيص الأمور بدقة على الأرض، وما إذا كانت هناك أعمال إبادة جماعية فعلا. ومن المعلوم هنا أن من بين أعضاء هذه اللجنة رئيس الادعاء العام في جنوب أفريقيا دوميزا تسبيزا Dumiza Ntsebeza.
وقد خلصت اللجنة في تقريرها الذي قدمته يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2005 إلى القول “إن حكومة السودان لم تتبع سياسة الإبادة الجماعية، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو عن طريق المليشيات التابعة لها”، إلا أن اللجنة ذكرت أيضا أن “عنف الحكومة كان متعمدا وموجها ضد المدنيين دون تمييز، وحتى في الحالات التي كان يتمركز فيها المتمردون بالقرى، فإن استهداف المدنيين من طرف الحكومة السودانية يشير إلى استخدام مفرط للقوة العسكرية لا يتناسب مع حجم التهديد الذي يمثله المتمردون” وخلصت اللجنة إلى القول “إن العنصر الرئيس المتعلق بمواصفات حرب الإبادة يبدو معدوما هنا، فالذين خططوا لعمليات استهداف القرى وقاموا على إنفاذها كانوا ينوون إخراج الضحايا من بيوتهم بهدف إدارة حرب مضادة للتمرد أساسا”،
وقد حملت نفس اللجنة الحركات المتمردة، وعلى رأسها جيش التحرير السوداني، وحركة العدل والمساواة المسؤولية عن حصول انتهاكات خطيرة للقانون الدولي والقانون الإنساني، وهي انتهاكات ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب. وفي نهاية المطاف قدمت اللجنة الأممية قائمة مغلقة تتضمن 53 اسما من الجناة، من بينها مسؤولون في الحكومة السودانية وأعضاء في قوات المليشيات وعناصر من المجموعات المتمردة، فضلا عن عدد من الضباط العسكريين الأجانب المتورطين في الحرب.
دعوى التطهير العرقي
يعد نيكولاس كريستوف المعلق الصحفي بجريدة نيويورك تايمز، أكثر من ركز الاهتمام على قضية دارفور، كما عرف بحماسته الشديدة لهذه القضية.
فالمتابعة الدقيقة لما كتبه هذا الصحفي على امتداد السنوات الثلاث المنصرمة تكشف عن عملية اختزال لسياق سياسي بالغ التعقيد، وتحويل مشكلة دارفور إلى مجرد “مروية أخلاقية” تتلخص في عالم مسكون بالأشرار من جهة، مقابل عالم مسكون بالضحايا من جهة أخرى.
إنه عالم تتصاعد فيه الفظاعات بصورة متزايدة، حيث يبدو المجرمون بالغي القسوة والشر مقابل ضحايا بالغي العجز والاستضعاف، بما يجعل من الحل الممكن والوحيد هو استدعاء إنقاذ خارجي، يحبذ أن يكون على شاكلة تدخل عسكري.
لقد قام الصحافي الأميركي كريستوف بست زيارات إلى دارفور أحيطت بحملة دعائية واسعة، كانت أولاها في مارس/ آذار 2004، أما بقية الزيارات الست فقد امتدت على طوال السنتين المواليتين. بدأ كريستوف بالكتابة حول هذه القضية باعتبارها ضربا من التطهير العرقي، إذ ورد في أحد مقالاته “لقد أجبر حكام السودان العرب 700 ألف من السود الأفارقة من السودانيين على الهروب من قراهم” (24 مارس/ آذار 2004)، ثم بعد ثلاثة أيام فقط هول الأمور أكثر، بحيث لم يعد الأمر مجرد حرب تطهير عرقي بل ارتقى إلى صنف حرب الإبادة الجماعية.
كتب بعد ثلاثة أيام من ذلك (27 مارس/ آذار 2004) قائلا “إلى يومنا هذا تنخرط حكومة السودان في حرب إبادة جماعية ضد ثلاث قبائل أفريقية كبيرة تقطن منطقة دارفور”، ويضيف الصحافي “إن عمليات القتل تشرف عليها الحكومة السودانية التي يغلب عليها العرب، أما الضحايا فهم السود من غير العرب من بين قبائل الزغاوا ومصاليات وفور”، متوقعا بلوغ عدد الضحايا إلى ما يربو عن الألف أسبوعيا.
وبعد شهرين فقط رفع الصحافي الأميركي العدد المتوقع للضحايا بصورة هائلة، وذلك استنادا إلى توقعات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية قائلا “في أحسن الأحوال سيموت هذه السنة 100 ألف من البشر في دارفور، نتيجة سوء التغذية والأمراض، أما إذا سارت الأمور نحو الأسوأ فسيصل عدد الضحايا إلى نصف مليون”.
أصدرت لجنة الأمم المتحدة تقريرها حول دارفور يوم 25 فبراير/ شباط 2005 ، وقد أكد هذا التقرير حصول عمليات تهجير جماعي لعدد كبير من الأشخاص (أكثر من مليون مهجر داخليا و200 ألف لاجئ في تشاد المجاورة)، كما أكد أن تقويض مئات من القرى أمر لا يمكن إنكاره، بيد أنه لم يعط نسبة محددة لعدد الضحايا. بعد نشر هذا التقرير (الذي لم يذكر عدد القتلى) اضطر كريستوف إلى تخفيض توقعاته لعدد الضحايا، ففي يوم 23 فبراير/ شباط2005، ولأول مرة، اضطر للاعتراف بأن عدد القتلى يظل غامضا، بل ذهب أكثر من ذلك إلى القول بأن هذا العدد يتراوح بين 70 ألفا و220 ألفا.
كان لإصدار تقرير الأمم المتحدة صدى بالغ، فعلى الصعيد الدولي دعم الشكوك فعلا حول ما إذا كان ما يجري في دارفور تنطبق عليه فعلا صفة الإبادة الجماعية. بل إن المسؤولين الأميركيين أنفسهم ما عادوا يرغبون في الذهاب بعيدا في سقف توقعاتهم لعدد القتلى في دارفور إلى الحدود التي رسمها التحالف الموسع للمنظمات الأميركية الناشطة في تنظيم حملة حول قضية دارفور، فقد كان لهذا التقرير تأثير ملموس على الدبلوماسية الأميركية نفسها.
وهكذا بعد ثلاثة أشهر فقط (يوم 3 مايو/ أيار) سجل كريستوف بامتعاض قائلا “لقد رفض روبرت زوليك نائب سكرتير الدولة وبوضوح إعادة إطلاق الحكم السابق الذي استخدمته الإدارة الأميركية، في أن ما يجري في دارفور يرتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية، ثم ذكر فيما بعد عددا منخفضا وغير معقول للضحايا يتراوح بين 60 ألفا و160 ألفا”، وبديلا عن ذلك سجل كريستوف، واستنادا إلى “التحالف من أجل العدالة الدولية” أن عدد القتلى يبلغ 400 ألف، وهو يرتفع بمعدل 500 قتيل كل يوم. وهكذا يلاحظ المتابع لما يكتبه كريستوف أن العدد ينخفض ويصعد ثم يصعد بطريقة اعتباطية وغير مستقرة.
أما في أبريل/ نيسان 2005 فقد وسع كريستوف من قائمة الجناة لتشمل قوة خارجية اسمها الصين، التي هي، على حد قوله، “بصدد اقتراف حرب إبادة جماعية ثانية في العقود الثلاثة الأخيرة، الأولى كانت في كمبوديا بال بوت، أما الثانية فهي في دارفور السودان اليوم”. ويصيف الصحافي الأميركي “إن مشتريات الصين من النفط تمول عملية نهب السودان لدارفور، كما أن السلاح الصيني AK 47، هو السلاح الرئيس المستخدم في قتل مئات الألوف من أهل دارفور حتى الآن، وهي فضلا عن ذلك تتولى حماية السودان في مجلس الأمن الدولي”. المنطقة المغيبة فعلا في مقالات كريستوف هي كون ما يجري في السودان يدخل تحت طائلة الحرب الأهلية، ولذلك من الصعب عليه أن يقول كلمة واحدة عن جرائم المتمردين، أي عن أولئك القتلى المدنيين الذين سقطوا على أيدي المتمردين، أو تلك الأعمال التي تقترفها الجماعات المتمردة، التي وصفتها لجنة الأمم المتحدة بجرائم حرب.
من المؤكد هنا أن الصحافة تقدم لنا عالما أخلاقيا مبسطا، حيث يواجه فريق من المجرمين فريقا آخر من الضحايا، ولكن دون تفكير أصلا في التاريخ والدوافع المحركة لهذا الصراع، حتى كأن كلا الطرفين يتموضعان خارج التاريخ والسياقات العامة.
وحتى في الحالات التي تبرِز فيها الصحف العنف باعتباره ظاهرة اجتماعية، تفشل في الغالب الأعم في فهم دوافع المجرم ومحركاته، إنهم يبحثون بدلا من كل ذلك عن ضرب من التصنيف الأخلاقي الواضح والمبسط الذي يصف الضحية بالطهورية والنقاء، والمجرم بالشر المستطير.
أزمة تم تسييسها
إن الصراع في دارفور قد سيِّس على نطاق واسع، وكذا هو الأمر بالنسبة للحملة الدولية المرافقة. إن واحدة من المقولات الثابتة في هذه الحملة الدولية هي أن ما يجري من “حرب إبادة” في دارفور هي من طبيعة إثنية، حيث يحاول العرب القضاء على الأفارقة. ولكن ما يتوجب التنبيه إليه هنا هو كون كلمتي عربي وأفريقي على السواء لهما دلالات متعددة في السودان.
فهناك ما لا يقل عن ثلاثة معان لكلمة عربي مثلا. فعلى الصعيد المحلي تحمل كلمة عربي معنى قدحيا، وذلك دلالة على نمط الحياة البدوي الفظ. وعلى الصعيد الإقليمي الجهوي تحيل كلمة عربي إلى كل من كانت العربية لغته الأولى، وبهذا المعنى فإن مجموعة معينة يمكن أن تصبح عربية بعامل الوقت في إطار ما يعرف عادة بالتعرب (أي اكتساب العربية لغة وثقافة)، وهذا الأمر ليس حالة شاذة أو خاصة بالسودان بل تشاركه فيه بعض دول المنطقة، فهناك حركة أمهرة في إثيوبيا، كما هناك عملية سوحلة (نسبة إلى اللغة السواحلية) في الساحل الشرقي لأفريقيا.
أما المعنى الثاني للعربي فهو يدل على الوجاهة الاجتماعية، وهو ذو منحى استبعادي. العربي يحيل هنا إلى تلك النخبة السياسية الأرستقراطية القاطنة على ضفاف النهر (نهر النيل) التي حكمت السودان منذ الاستقلال، وهنا يتطابق معنى التعرب مع التمدن والتحضر من جهة أولى، والانحدار من نسب عربي من جهة ثانية.
أما الأفريقية فهي كذلك هوية ملازمة تحمل بدورها طابعا مزدوجا استيعابيا واستبعاديا في وقت واحد، علما بأن هذين البعدين ليسا متضاربين فحسب، بل هما أكثر من ذلك ينحدران من سياق تجربة ضربين مختلفين من التمرد.
فالدلالة الاستيعابية لكلمة أفريقي هي ذات منحى سياسي أكثر منها عرقيا أو حتى ثقافيا لغويا، الأفريقي يشمل كل شخص عازم على صنع مستقبل له في القارة السمراء، وهذا هو المعنى الذي نافح عنه جون قرنق زعيم الجيش الشعبي لتحرير السودان في جنوب السودان، قاصدا بذلك توحيد السودان الجديد المنقسم على نفسه، الذي يحلم برؤيته يوما ما. وعلى الضد من ذلك فإن المعنى الاستبعادي لكلمة أفريقي ينحدر من مصدرين اثنين، واحد عرقي وآخر لساني لغوي.
الأفريقي يقصد به هنا البانتو، (أي المصدر الأصلي لجذع اللغات الأفريقية، وما يربو عن 400 مليون من المجموعات العرقية القاطنة شبه الصحراء الأفريقية). الأفريقي بهذا المعنى يدل على هوية حصرية تشمل من يتحدث اللغات الأصلية الأفريقية. أما الدلالة العرقية لمعنى الأفريقية فإنها شديدة الصلة بحركة التمرد والتمرد المضاد في منطقة دارفور.
إن الحملة الدولية لإنقاذ دارفور التي تصور العنف ضربا من صراع العرب ضد الأفارقة تتناسى كون العنف لا يصدر عن جانب واحد فقط، كما أنها تتجاهل ما يطبع معنى العربي والأفريقي من تنازع، وهو تنازع بالغ الحيوية، لأنه يتعلق أساسا بمن ينتسب ممن لا ينتسب للمجموعة السياسية المسماة بالسودان.
إن عملية نزع البعد السياسي وتطبيع مفهوم العربي (أي تحويله إلى شيء بيولوجي وطبيعي ولا علاقة له بالثقافة والتاريخ)، ثم بصورة أشد شيطنته ووضعه مقابل الأفريقي لها نتائج مدمرة وقاتلة، بغض النظر ما إذا كان هذا الأمر متعمدا من القائمين على حملة إنقاذ دارفور أم لم يكن متعمدا؟
من المؤكد هنا أن تجريد الصراع في دارفور من بعده السياسي من شأنه أن يحقق الأهداف التالية:
أولا: إنه يمنح المنخرطين في هذه الحملة احتلال موقع أخلاقي رفيع، وهكذا تقدم هذه الحملة نفسها باعتبارها ذات صبغة أخلاقية نبيلة، ولا علاقة لها بالسياسة من قريب أو بعيد، وأن اهتمامها يتركز بالأساس على إنقاذ حياة البشر وليس أكثر من ذلك.
ثانيا: إن حملة أحادية القضية، مثل هذه، بمقدورها أن تجمع قوى كثيرة في جوقة موحدة، وهي قوى ليس ثمة ما يجمع بينها إزاء أكثر القضايا أهمية في الوضع الراهن. فعلى الطرف الأول نجد اليمين المسيحي واللوبي الصهيوني، وعلى الطرف الثاني نجد حركة السلام التي تمتد قواعدها أساسا في المعاهد والجامعات. ومن المؤكد أن مثل هذا التحالف سيتفسخ لو تم تحويل مركز الاهتمام من دارفور إلى العراق.
ثالثا: لكي نفهم البعد الثالث في المسألة لا بد من إعادة طرح سؤال مهم كنا قد بسطناه قبل ذلك، وهو كيف نفهم أن أولئك الذين يدعون إلى إنهاء التدخل الأميركي والبريطاني في العراق هم أنفسهم من يطالب بالتدخل في دارفور؟
إنه لأمر مغر بالاعتقاد القول إن عنصر السبق في دارفور يتمثل في كونه بلدا صغيرا وقصيا جدا، بما يوحي بأن أولئك الذين يقودون حملة الحرب على الإرهاب ليس لهم من مصالح أو رهانات وراء مطالبتهم بالتدخل في دارفور.
بيد أنه من الصعب هنا تصديق هذا الادعاء، إذا ما قارن المرء الاستجابة الأميركية لقضية دارفور مع ملازمة الصمت إزاء الكونغو، رغم اتساع نطاق الصراع في هذا البلد مقارنة بدارفور، حيث يقدر عدد القتلى هناك بالملايين وليس بمئات الألوف.
الواضح هنا أن كلمة حرب إبادة أصبحت بمنزلة علامة يمكن إلصاقها بسهولة بمن نعده العدو الأسوأ، إنها بمنزلة نسخة محرفة لجائزة نوبل، وهي جزء من ترسانة خطاب دعائي يتيح لك قدح خصومك وضمان الحصانة الكاملة من العقاب لحلفائك في آن، أو حسب كلمات الصحافي الأميركي كريستوف “لا يتعلق الأمر هنا بالمعاناة الإنسانية بقدر ما يتعلق بالشر الإنساني”.
وفعلا فإن دارفور، وخلافا للكونغو، يمكن إدراجها بسهولة ضمن الحرب على الإرهاب، وهي بهذا المعنى تمنح فرصة ذهبية لأولئك الذين يشنون حربهم على الإرهاب ويسعون إلى شيطنة عدو محدد، حيث من اليسير القول هنا إن ما يجري في دارفور هو حرب إبادة جماعية يرتكبها العرب ضد الأفارقة.
وهكذا كلما أدرجت قضية دارفور ضمن صنف الحرب على الإرهاب أكثر فأكثر، اكتسب الصراع المجرد من بعده السياسي وصفا اثنيا، فالحرب الجارية في دارفور توصف بأنها حرب إبادة جماعية يرتكبها العرب ضد الأفارقة، إذ يزعم هنا أن الاختلاف العرقي هو الدافع الرئيس الذي يقف خلف عمليات القتل الجماعي. والمفارقة العجيبة هنا أن ما يكتبه الصحافي الأميركي كريستوف يعكس بدوره أيديولوجيا الاستعلاء العربي في السودان من خلال شيطنته مجموعات بكاملها.
لم يتردد كرستوف في توبيخ الشعوب والصحافة العربية لأنهما لا تمتلكان ما يكفي من الحس الأخلاقي للرد على هذا العنف الذي يرتكبه مسلمون ضد مسلمين، لا لشيء إلا لأنه عنف يرتكبه عرب مسلمون ضد مسلمين غير عرب، على حد تعبيره.
ففي أحد أعمدته المبكرة التي كتبها سنة 2004 عبر عن امتعاضه مما يعده صمت الزعماء المسلمين قائلا “ألا يهتمون بضحايا المسلمين إلا حينما يكون القتلة من الأميركيين والإسرائيليين فقط”. وفي مقال آخر كتبه بعد سنتين يقول “أين هي الصحافة العربية اليوم، أليس قتل 300 ألف أو ما يزيد من المسلمين حدثا مستفزا يضاهي تماثيل الكارتون؟”
لا شك أن ديناميكية الحرب الأهلية في السودان تتغذى من مصادر كثيرة، أولها احتكار السلطة بعد الاستقلال من طرف نخبة معربة صغيرة تنحدر من ضفاف نهر النيل شمال الخرطوم، وهو احتكار قد ولد مقاومة متزايدة من طرف الأغلبية المهمشة من الشعب في الجنوب، وفي الشرق والغرب. أما على الجهة الأخرى فإن حركة التمرد قد أفرزت زعماء طموحين امتنعوا عن الانخراط الجدي في ترتيبات تقاسم السلطة، ومن ثم شكلوا هم بدورهم عقبة كأداء أمام مسار السلام. ثالثا القوى الخارجية التي تستمر في تشجيع أولئك المعنيين باحتكار السلطة أو الحصول عليها فحسب. لقد تمخضت حركية السلام في السودان عن سلسلة من اتفاقات تقاسم السلطة في الجنوب أولا، ثم في الشرق ثانيا، بيد أن هذا المسار قد توقف في دارفور. لقد رعى الاتحاد الأفريقي مفاوضات، نجحت فعلا في الوصول إلى إجراءات تقاسم السلطة في هذا البلد، بيد أن هذه الاتفاقات لم تصمد طويلا، ومرد هذا الفشل يعود، وعلى النحو الذي بيناه سابقا إلى سياق الحرب على الإرهاب التي أعطت السبق للأطراف الممتنعة عن الدخول في مسار السلام عن الراغبة فيه، وهو ما يفرض أن يكون دعم مسار السلام وحمايته اليوم التزاما جديا من كل الأطراف المعنية بقضية بدارفور.
يتوجب اليوم على خندق السلام التفكير جديا في كون السلام لا يمكن بناؤه عن طريق ما يسمى بالتدخل الإنساني، أي تلك اللغة التي تتبناها القوى الكبرى عادة. إن تاريخ الاستعمار يعلمنا بأن كل تدخل واسع كان يبرر بطابعه الإنساني، وبكونه مهمة تمدينية. لم يكن محض مصادفة تلك الحماسة التي استبدت بالكثير من الضباط العسكريين ورجال الأرشيف لتدوين تفاصيلهم عن الحياة “البربرية” التي تطبع أولئك الخاضعين للاحتلال، سواء تلك التي تتعلق بتقليد ساتي (أي قتل المرأة لنفسها في مراسم حرق جثة الزوج)، ومنع النساء الأرامل من الزواج، أو ممارسات زواج الأطفال في الهند مثلا، أو تلك التي تتعلق بالعبودية وختان الإناث في أفريقيا.
ما أريد قوله هنا أن هذه الأمور لم تكن محض افتراء واختلاق ، بيد أن ما لا يمكن إنكاره هو أن تسجيل هذه الفظاعات كان له غاية عملية محددة، وهي توفير الأرضية الأخلاقية المساعدة على التدخل. فالقوى الإمبريالية اليوم، كما هو شأنها بالأمس، تدعي أن لها مهمة مزدوجة، فهي من ناحية أولى تعمل على إنقاذ الضحايا بين الأقلية المضطهدة، وعلى الجهة الأخرى تعمل على تأهيل الأغلبية عن طريق تمدينها وتحضيرها.
وهنا يجب لفت الانتباه إلى أن العراق يجب أن يشكل ناقوس تحذير، فأسوأ ما يمكن أن يحصل في دارفور هو أن يتحول حقلا للتدخل الخارجي على الطراز العراقي، وإذا ما جرت الأمور على هذا النحو فإن الحرب الأهلية ستمتد وقتها إلى مناطق أخرى من السودان، كما أن مثل هذا التدخل سيؤدي قطعا إلى تعطيل مسار السلام في الشرق والجنوب، ومن ثم يدفع البلد نحو متاهات الحرب الكونية ضد الإرهاب.
_______________
أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة كولومبيا الأميركية في نيويورك
باحث بمركز الجزيرة للدراسات
مصدر النص لندن رفيو أف بوكس London Review of Bo

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى