البابا يقرأ من كتابه
حسام عيتاني
خاب أمل المسؤولين الإسرائيليين من الكلمات التي ألقاها البابا بنديكت السادس عشر أثناء زيارته إلى إسرائيل. انتظروا أن يتلو عليهم خطابات تشبه ما يكتبون، إلا أنه فضل اختيار عباراته بدقة دبلوماسية جعلت الفتور سمة سلوك السياسيين والمراقبين الإسرائيليين حيال الزيارة.
كانوا يتوقعون منه إدانة صريحة للمحرقة اليهودية واعتذاراً عن تأييد قسم من الكنيسة الكاثوليكية للقوى النازية والفاشية قبل الحرب العالمية الثانية وفي أثنائها، وعن انضمامه في أعوام فتوته إلى حركة الشبيبة الهتلرية. دافع بعض أساقفة الفاتيكان الذين رافقوا بنديكت عن مواقفه أثناء زيارته إلى الأراضي المحتلة بالقول إن كل ما صرح به الإسرائيليون أو ألمحوا إليه، تناوله البابا بالفعل في الكلمة التي ألقاها في المطار لدى وصوله أو في تلك التي قالها في نصب المحرقة ‘ياد فاشيم’.
إلا أن آذان الإسرائيليين كانت تنتظر أصواتا أخرى تشبه تلك التي أسمعهم أصداءها سلف البابا الحالي، يوحنا بولس الثاني الذي اعتبر مناهضة السامية ‘خطيئة ضد الرب’ والذي أعاد تطبيع العلاقات بين الفاتيكان وإسرائيل وندد بكل الأعمال المعادية لليهود التي قام بها المؤمنون الكاثوليك عبر القرون، مشدداً على الترابط بين اليهودية والمسيحية.
المفارقة في التوقع الإسرائيلي أن أصحابه انتظروا نسخة معادة من مواقف أعلنت بالفعل في ظروف سياسية وتاريخية مختلفة. لقد اتخذ يوحنا بولس الثاني خطواته المذكورة والتي كانت ذروتها زيارته إلى الأراضي المحتلة، بعد بدء عملية السلام العربية- الإسرائيلية في مطالع التسعينيات. بكلمات أخرى، لقد انتظرت الكنيسة الكاثوليكية عقوداً من الزمن انهار خلالها الاتحاد السوفييتي (الخصم الإيديولوجي للفاتيكان وحليف العرب) وتسليم الدول العربية، بما فيها الأكثر صخباً وترديداً للشعارات النضالية، بضرورة التوصل إلى سلام مع إسرائيل عن طريق التفاوض، قبل أن تقوم الكنيسة بسلسلة من المبادرات التاريخية على مستوى العلاقة بينها وبين إسرائيل واليهود.
لم تكن المسألة في تلك الأعوام مقتصرة على موقف الفاتيكان من الصراع العربي- الإسرائيلي، بل كانت ومازالت تشكل عنصراً مكوناً من عناصر الانسجام الثقافي والسياسي بين الكنيسة الكاثوليكية و’الغرب’ بمعناه العام الذي يشتمل على منظومة من القيم التي لا مكان فيها لمعاداة السامية لأسباب تتعلق بالتراث والتاريخ الغربيين أكثر من صلتها بأحداث الشرق الأوسط.
اختلف الوضع في العالم وفي المنطقة اختلافاً واضحاً بين تسعينيات القرن الماضي والأعوام الحالية. وما قاله البابا يوحنا بولس الثاني وما فعله جاء في سياق مختلف عن هذا القائم اليوم. لكن ذاكرة الإسرائيليين ظلت معلقة عند ما حققه البابا السابق، رافضين الانتباه إلى أن إقدام بندكيت السادس عشر على أي خطوة من عيار ما قام به سلفه قبل عقد ونيف، كفيل بإثارة عواصف من الانتقادات في العالمين العربي والإسلامي اللذين سيعتبران أن الفاتيكان يؤيد حكومة غلاة المتطرفين في إسرائيل التي تصر على توسيع المستوطنات في الضفة وترفض حل الدولتين في حين أن الحصار على غزة مازال على أشده. ومن نافل القول إن موقفاً محابياً لإسرائيل في الظروف الراهنة سيلحق أضرارا جسيمة بالعلاقات الإسلامية- المسيحية على الصعيد العالمي.
في المقابل، بدا أن الفلسطينيين غير ساخطين ‘على الأقل’، على مواقف البابا التي أعلنها أثناء زيارته إلى الضفة الغربية على الرغم من أنهم لم يسمعوا الكلمات التي كانوا يرغبون بسماعها. لقد امتنع بنديكت الذي زار مخيم عايدة قرب بيت لحم عن الإشارة إلى حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، مكتفيا بالتعبير عن تعاطفه مع معاناتهم. كما لم يدن الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال في حربها الأخيرة على غزة في شهري ديسمبر ويناير الماضيين.
بيد أن ذلك لم يحل دون تقدير الفلسطينيين لمشاعر البابا المتعاطفة. يكمن السبب في أن القضية الفلسطينية تعيش اليوم واحدة من أصعب لحظاتها منذ تأسيس منظمة التحرير قبل خمسة وأربعين عاماً. ويدرك الفلسطينيون حجم الخسائر التي منيت قضيتهم بها في الأعوام الماضية على الساحة الدولية بحيث بات كل تعبير عن تأييد القضية، مهما كان متواضعاً، يستحق التنويه.
أما الأصوات التي أظهر أصحابها الاعتراض على ليونة مواقف البابا من الاحتلال وعدم حزمه في التنديد بالارتكابات الإسرائيلية، فالأرجح أنها تصدر عن تصور وعقل مختلفين.
* كاتب لبناني