فشل المقاومة العراقية
بقلم محمد سيد رصاص
كانت خسائر الجيش الأميركي في غزو عام 2003 حتى احتلاله بغداد أقل بكثير من خسائر الجيش البريطاني الزاحف أيضاً من الجنوب عام 1917 نحو عاصمة الرشيد. وفي مدينة الكوت جنوبا وحدها رفات خمسمئة جندي انكليزي من تلك الحملة، فيما اشترك أصحاب العمائم بالنجف في ثورة العشرين (التي هزت أركان البريطانيين بالعراق) مع جد الشيخ حارث الضاري بالفلوجة، ومع أسلاف الملا مصطفى البارزاني في أقصى الشمال.
لم يوجد شيء من هذا في الفترة التي تفصلنا عن يوم سقوط بغداد في التاسع من نيسان 2003. قد يعزو البعض هذا الوضع العراقي المستحدث إلى مافعله صدام حسين بالعراقيين جميعاً، وخاصة الشيعة والأكراد. إلا أن ما قام به الأتراك العثمانيون من تمييز ضد الشيعة، في وقت أحس فيه الأكراد بعدم الرضا عن انضوائهم في الإطار العراقي الجديد الذي كان في طور التشكل بين 1917 و 1921، لم يدفعهم، مثلهم مثل أي مواطنين أوقاطنين في أرض معينة تعرضت للغزو والاحتلال، إلا إلى مقاومة الغزو وعدم القبول بالواقع الجديد.
من هنا، كان ماجرى في عام 2003 يمثل سابقة من حيث تعامل الشعوب مع الغازي المحتل. ولوأن الأفغان أعطوا في عام 2001 ارهاصات عن ذلك أمام الغازي الأميركي حيث كانت كتل اجتماعية كبرى (الطاجيك – الأوزبك – الهازارة) في وضع المرحب بالغازي والمتعاون معه (من خلال محاربي”تحالف الشمال”) للتخلص من حكم حركة “طالبان” التي كانت تستند إلى أكثرية قومية الباشتون، فيما لم يكن الأفغان في هذا الوضع المنقسم حيال الدبابات السوفياتية التي اجتاحت بلادهم يوم 27 كانون الاول 1979.
في عراق 2003 كان الوضع أكثر قبولا، وهناك غالبية في كتل اجتماعية كبرى تمثل أكثرية السكان(الشيعة والأكراد)، وقسم من النخب السياسية والثقافية السنية، كانت ترى لها مصلحة في الغزو، ثم في الاحتلال، وهؤلاء لم يكن رأيهم في ذلك الوقت من شهر آذار2003، ثم في مرحلة مابعد 9 نيسان 2003، مطابقاً أومتقاطعاً مع ما رآه سكان الرمادي والفلوجة وتكريت وسامراء والموصل أو حي الأعظمية ببغداد.
المقاومة العراقية، خلال السنوات الأربع الأولى من عمر الاحتلال الأميركي، استندت الى هذه الاماكن أومثيلاتها من حيث التركيب الاجتماعي، ولم تكن ذات طابع عراقي شامل، حيث اقتصرت على فئات اجتماعية محددة، وإذا تجاوزتها إلى أطر أخرى فقد كان هذا محدوداً، وأحياناً فردياً، ضمن بعثيين أو يساريين رافضين للإحتلال. وقد كانت بعض استراتيجيات قوى المقاومة، مثل تنظيم “القاعدة”، تتجه إلى اشعال حرب أهلية من “أجل جعل النار مشتعلة تحت أرجل الأميركان”، ما دفعها إلى أعمال، مثل تفجير المرقدين في سامراء بشباط 2006، كادت تجر العراق نحو تلك الهاوية، فيما لم تكن قوى المقاومة الأخرى في موقف مضاد، على الأقل في بياناتها العلنية. ولم تضع برنامجاً وطنياً يوضح رؤيتها لعراق الغد، أولعراق الماضي، يمكن أن تغري فئات اجتماعية للإنزياح عن القوى التي شكلَت مستنداً عراقياً للغزو (الحزبين الكرديين، و”المجلس الأعلى للثورة الاسلامية”) أوالقوى التي كانت ظهيراً رئيسياً لـ”مجلس الحكم” الذي شكله بول بريمر (حزب الدعوة) بعدما نأى هذا الحزب بنفسه عن الأميركيين في مرحلة ماقبل سقوط بغداد.
في انتخابات برلمان 2005 توضح الحجم الكبير للقوى الاجتماعية العراقية التي تقف وراء هذه القوى السياسية الأربع، التي شكَلت عماد “العملية السياسية” خلال السنوات الاولى للاحتلال، وقد كان واضحاً من ترددات الحزب الاسلامي، الذي مثَل القوة الرئيسية لسنة العراق العرب في السنوات التي أعقبت سقوط بغداد، ادراكه مدى الخسارة والعزلة التي قادت إليها استراتيجية المقاطعة (المصاحبة لنمو المقاومة) على الجسم الاجتماعي الذي يستند إليه هذا الحزب، وأيضاً المقاومة العراقية، التي لم تكن بعض قواها الرئيسة ببعيدة عن هذا الحزب الذي يمثل حركة الإخوان المسلمين في العراق. هذا إذا لم يكن ممكناً القول إن غالبية الكتلة الاجتماعية السنية العربية العراقية أصبحت ضاغطة على ذلك الحزب وقوى المقاومة العراقية وعلى شيوخ العشائر من أجل المشاركة في”العملية السياسية” وأخذ حصة إسوة بالشيعة والأكراد.
توضح الشيء الأخير عام 2007 لما تشكلت ظاهرة “الصحوات” بالتزامن مع حسم الحزب الاسلامي (وأيضاً شخصيات فاعلة مثل صالح المطلك) خياراته نحو الإنخراط في نظام المحاصصة الذي أقامه بريمر منذ صيف2003 لما تشكل “مجلس الحكم”، لتبقى خلافاته مع الآخرين، ليس حول مبادىء”العملية السياسية” التي أنشأها ورعاها الأميركيون في العراق، وإنما حول مدى حصة السنة العرب.
بدون الامر الأخير لايمكن تفسير الضعف النوعي المتزايد للمقاومة العراقية بدءاً من النصف الثاني لعام2007، وخلال مجرى 2008 وأيضاً النصف الأول من 2009، وهو ما لم يشمل فقط تنظيم “القاعدة” وإنما كل تنظيمات المقاومة كذلك، ماجعل العراق، يتحول إلى الهدوء التدريجي المطرد في العامين الماضيين، حتى أتت انتخابات مجالس المحافظات (31-1-2009) لتبين مدى قابلية الجسم الاجتماعي العراقي، الذي شكل حضناً فئوياً خاصاً للمقاومة العراقية، للإنخراط في”العملية السياسية” وللركوب في مركب كان من الواضح قبل الإنتخابات أن ربانه لن يكون غير نوري المالكي.
السؤال الرئيسي الآن: لماذا أعطى عراق 2003-2009 نموذجاً مختلفاً عن عراق 1917-1920؟ ثم: لماذا فشلت المقاومة العراقية، ولم تنجح مثلما نجحت الجزائرية والفيتنامية، وحتى مثلما نجحت المقاومتان مقاومة “طالبان” التي تدفع الرئيس أوباما إلى اعتبار الوضع في افغانستان أخطر بكثير من الوضع في العراق، فيماكان بوش يعتبر العراق في عام 2006 “موضوع المواضيع”؟
(كاتب سوري)