تزوير الوعي
خالد غزال
من المفترض وفقا لأبسط القواعد الديموقراطية ان تشكل الانتخابات النيابية مناسبة يتقدم فيها المواطن سائلا من سبق واقترع له قبل اربع سنوات عما حققه من وعود وما قدمه الى المصلحة العامة. من البديهي ايضا ان تكون المناسبة عنوانا يستغله المرشح لاعادة تقديم نفسه وخطابه السياسي وبرنامجه الانتخابي. هذه المساءلة هي اكثر ما تفتقر اليه الانتخابات النيابية الراهنة والمزمع اجراؤها بعد اسابيع. ما سر غياب هذه المساءلة وانكفاء الجميع عن المطالبة بها وتفويت فرصة لن تتكرر الا بعد سنوات، وما العوامل التي تؤدي الى تعطيل الوعي عند الجمهور الانتخابي؟
يمكن رصد انهيار الوعي وتهميشه في حالة “الجماهير اللبنانية” من خلال ما يقدمه المرشحون من خطاب، سواء جرى التعبير عنه في برامج انتخابية ام من خلال الإطلالات الاعلامية التي لا تنتهي، او من خلال ما يطرح خارج الاعلام من خطاب هادف الى تعبئة الجمهور وراء هذا المرشح او ذاك، او خلف هذه الكتلة السياسية الطائفية. تتمحور الخطب على الشحن الطائفي والمذهبي واثارة الغرائز والعصبيات واستحضار الرمزيات المؤججة للعواطف والدافعة الى العنف في وجه الاخر. واذا كانت الديموقراطية تُختصر بأنها “اعتراف بالآخر” وفق تعريف الباحث الاجتماعي الفرنسي آلان تورين، فإن “الديموقراطية اللبنانية” لها تعريفها الخاص هو “نبذ الآخر” والسعي الى ابادته معنويا وماديا. وهو قول تشهد عليه الوقائع اليومية في وسائل الاعلام المتعددة ومنها على الاخص ما يطرح على شبكة الانترنت.
إذا نظرنا الى البرامج الانتخابية، فلن تصعب ملاحظة تشابهها وتناسلها بعضها من البعض، سواء منها ما يصنّف نفسه في خانة الموالاة ام في خانة المعارضة. حتى ان بعض البرامج تعود في نصوصها واقتباساتها الى عقود خلت ولم يعد يربطها بالحاضر اي صلة في ظل الانهيار البنيوي الذي اصاب البلد ومعه الكتل الشعبية، لصالح هيمنة الطوائف والعصبيات المنسلخة عنها في وجه الحد الأدنى من المساحة المشتركة التي كانت الدولة تقدمه بصفتها تمثيلا للمجال العام. تحمل هذه البرامج شحنات ظاهرة من التحريض الطائفي والمذهبي، الذي لا يزال في حدوده الدنيا قياساً بـ”أدب” المخاطبة.
يتدرج تشويه الوعي وتزويره عندما ننتقل الى خطاب القيادات الانتخابية عبر شاشات التلفزيون خصوصاً، اضافة طبعا الى وسائل الاعلام المسموعة والمكتوبة، حيث يجري الافصاح بشكل اكبر عن تغييب المساءلة عن الماضي الذي ليس بعيدا، ويجري التركيز على الهويات الطائفية والمذهبية ومصالح هذه الفئة او تلك واستعادة الصلاحيات من هنا وهناك. ويجري التجييش استنادا الى المصلحة الضيقة. فإذا كانت البرامج مضطرة الى مراعاة كلام يطال اللبنانيين جميعا، فإن المقابلات والخطابات المحلية تنحدر الى مستوى هائل من الشطط في التعبير التحريضي.
يتحول تزوير الوعي الى فضيحة تعبّر عن “القاع الاجتماعي” لجمهور الطوائف، في السهرات المحلية والاتصالات بالمفاتيح الانتخابية والجمهور الطائفي. لا يعود للحشمة في الكلام مكان، فتنفلت الغرائز ويتحول الكلام الى غرائز تنجح بمقدار ما تتوسع رقعة المتأثرين بها. تستكمل الانترنت هذا التحريض الحاصل على الارض، بحيث يجري تقديم اقصى ما يصل اليه “سقط المتاع” من خطب الطوائف وادبياتها البعيدة كليا عن الادب. ما يحصل على الأرض وما تقدمه هذه الشبكة هو حرب اهلية ساخنة بامتياز، لا ينقصها سوى اطلاق الرصاصة لتندلع في كل اتجاه.
ليس من قبيل المبالغة وصف النتائج المترتبة على الخطاب الطائفي العام لدى الجميع بأنه “إهدار للوعي” وفق تعبير لمصطفى حجازي. يتسبب هذا الإهدار بانعدام العقلانية والتفكير الحر والمساءلة او المحاسبة، ما يؤمّن لقيادات الطوائف والمذاهب جمهورا انتخابيا اشبه بـ”القطيع” الذي ينفذ الاوامر ويطيع من دون استفسار او تردد. هكذا تنتصب اليوم كتل جماهيرية غاضبة مشحونة بالتعصب والاستبداد بالرأي، خاضعة لنزوات العواطف، مبتعدة عن اي روح نقدية، مستسهلة اطلاق الاتهامات والتشنيعات يمينا ويسارا من دون اي تدقيق. انه الجمهور المثالي للقيادات الطوائفية ولزعماء العصبيات المذهبية السائدة اليوم على “الساحة” اللبنانية ¶
النهار