العرب وإيران واللعبة الأمنية الخليجية
نبيل شبيب
من المستغرب في التصريحات الرسمية المرافقة لحدث من قبيل مناورات مشتركة، أو صفقة سلاح ضخمة، أو إنشاء قاعدة عسكرية كالقاعدة الفرنسية في الإمارات، أن يقال كما ورد على لسان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بهذه المناسبة: “هذه القاعدة ليست موجهة ضد أحد”!
هل يعني ذلك أنها تمثل “ديكورا عسكريا” فحسب؟ وكيف تتلاءم هذه المقولة مع الإشارات المتكررة تجاه إيران في كلمة الرئيس الفرنسي نفسه في حفل افتتاح القاعدة وهو يتحدث عن دعم الإمارات إذا تعرض أمنها للخطر؟
أو كيف تتلاءم مع ما نسبته جريدة “الشرق الأوسط” لمصادر رئاسية فرنسية حول القاعدة الجديدة أنها “رسالة مزدوجة إلى أصدقاء فرنسا في المنطقة، وإلى الأطراف الأخرى، وأولها إيران.. وللقاعدة وظيفة ردعية من أجل المحافظة على السلام، خصوصا على ضوء تطورات الملف النووي الإيراني”؟
أو كيف تتلاءم مع ما نسبته جريدة “الجريدة” إلى مصدر في قصر الرئاسة الفرنسية أن “الهدف من وراء إنشاء القاعدة العسكرية هو أننا نريد أن نبعث رسالة تقول إنه إذا شنت إيران هجوما على أصدقائنا فهذا سيكون بمنزلة هجوم علينا أيضا”!
هل السياسة الإيرانية استفزازية؟
بغض النظر عن العلاقات الإيرانية الإماراتية وكيفية تعامل الجانبين معها، لا ريب أن القاعدة الفرنسية على مضيق هرمز موجّهة ضدّ إيران، أو تستهدف “ردع” إيران، ولا ينفي هذا وجود أهداف فرنسية عديدة أخرى، بدءا بتطلع فرنسا إلى تضخيم دورها العالمي، مرورا بالحرص على الوجود المباشر في منطقة الخليج النفطية، وانتهاء بتعزيز قدراتها العسكرية فيما تقوم به من مهام عسكرية في البحر العربي وخليج عدن.
وإذا أمكن إيجاد همزة وصل بين هذه الأهداف الفرنسية وأمنٍ خليجي أو عربي، فمن الثابت أنه لا يشمل ما يرتبط بقضية فلسطين، والخطر الإسرائيلي القائم من خلالها على المنطقة بمجموعها.
ولكن ما المنظور الأمني المحلي، الإماراتي والخليجي والعربي والإسلامي، لتعزيز الوجود العسكري المباشر للدول الغربية، بدءا بالولايات المتحدة الأميركية وانتهاء بفرنسا، في المياه والأجواء والأراضي العربية والإسلامية؟
في الماضي تركز التعليل على الخطر الشيوعي، ثم على الخطر الإرهابي، والآن على الخطر الإيراني.. وإذا وضعنا الخطر الإسرائيلي جانبا، لا يمكن القول إن الإمارات تستضيف هذه القاعدة الفرنسية إضافة إلى سواها، دون أن تستشعر بصورة جادة وجود خطر خارجي يهدد أمنها ولا تجد نفسها قادرة على مواجهته اعتمادا على قوتها الذاتية، لا سيما في غياب سياسات أمنية خليجية أو عربية مشتركة، وهذا الخطر الخارجي في نظر الإمارات هو الخطر الإيراني.
ودون الدخول في التفاصيل يمكن التأكيد أن السياسة الإيرانية -لا سيما تجاه الإمارات كما هو معروف عن قضية الجزر الثلاث- لا تساهم في انتزاع أسباب المخاوف القائمة في الإمارات نفسها وفي دول خليجية أخرى، إن لم نقل إنها تساهم في تعزيزها.
صحيح أن عروض إيران للعمل من أجل التوصل إلى تصورات أمنية إقليمية مشتركة لم تنقطع، على أن العروض وحدها لا تكفي دون أن تقترن بخطوات عملية للتخلص من الهوة الفاصلة بين الطرفين على ساحلي الخليج المشترك، والمتنامية لأسباب عديدة، مثل ما يصدر بين الفينة والفينة من مواقف أو تصريحات كالتشكيك في استقلال البحرين وسيادتها مؤخرا، ناهيك عن السياسة الإيرانية في العراق، وفي الميادين ذات العلاقة بالخلافات الطائفية بين السنة والشيعة.
هل السياسات الخليجية استفزازية؟
واضح أن جميع ما سبق لا علاقة له بالملف النووي الإيراني الذي تسعى الدول الغربية إلى أن تجعله محورا للمخاوف في دول عربية عديدة، ولا علاقة له أيضا بتنمية القدرات العسكرية الإيرانية الذاتية، فهذا وذاك من الحقوق الأساسية في سياسات أي دولة مستقلة، ولا جدوى هنا من تبني مواقف الغرب تجاه إيران بهذا الصدد، فالدول الغربية لا تريد لأي دولة من خارج نطاق هيمنتها -وليس إيران فقط- أن تكون لها قوة ذاتية، لا عسكرية ولا تقنية أو اقتصادية.
إنما جميع ما يمكن قوله عن سلبيات السياسات الإيرانية عبر السنوات الماضية يمكن قول ما يماثله عن سلبيات السياسات العربية في الخليج وخارج نطاقه تجاه إيران. ومن ذلك، دون حصر ودون تثبيت المسؤولية عما وصلت إليه العلاقات على أحد الطرفين دون الآخر:
من قبل أن تتحول شعارات الثورة الإيرانية من “إسلامية.. لا شيعية ولا سنية” و”إسلامية.. لا شرقية ولا غربية” إلى شعارات “تصدير الثورة”، مالت المواقف العربية عموما، والخليجية خصوصا، إلى إظهار العداء تجاه الثورة التي أسقطت الشاه.. الذي كان يوصف بشرطي الخليج على حساب الدول الخليجية العربية!..
وإذا كانت السياسة الإيرانية الحالية في العراق استفزازية ومرفوضة دون ريب، فقد كانت السياسة الخليجية على امتداد ثماني سنوات من الحرب بين العراق وإيران، استفزازية ومرفوضة أيضا!
كذلك فإن انزعاج دول الخليج من امتداد سياسات إيران حتى لبنان تحت عنوان قضية فلسطين مع ما يشوب ذلك من أبعاد شيعية، تقابلها استجابة دول الخليج للأطروحات الغربية حتى من قبل تفاقم الأوضاع بعد الحرب الإسرائيلية ضد لبنان عام 2006، أي أطروحات تحويل جبهة “العداء” نحو إيران بديلا عن العدو الإسرائيلي وهو في منتهى ممارساته العدوانية!..
وسيان بعد ذلك هل تحمل السياسات العربية المعنية أبعادا “سنية” أم لا تحمل، فمنذ فترة بعيدة لم يعد “الدفاع عن الإسلام”، بمنظور طائفي أو دونه، هو مصدر تحديد السياسات الأمنية وسواها في معظم البلدان العربية والإسلامية.
أما دعم إيران لقوتها الذاتية العسكرية وقدراتها النووية والتقنية والعلمية فلا يؤخذ عليها قدر ما يؤخذ على الدول الخليجية والعربية عموما أنها لا تسعى سعيا مخططا وجادا لتعزيز قوتها العسكرية الذاتية وليس المستوردة، ولا قدراتها النووية والتقنية والعلمية، الذاتية وليس في صورة خبراء أجانب واستثمارات أجنبية، بينما تخصص النفقات الكبرى لميادين “الترف الاقتصادي” إذا صح التعبير.
تنقية الأجواء الإقليمية
تبقى العلاقات الإمارات الفرنسية مثالا للتأثير المتبادل ما بين العلاقات الدولية لبلدان المنطقة من جهة، والأوضاع الإقليمية فيها من جهة أخرى. ويلاحظ في هذا السياق:
– يتنامى التعاون العسكري بين الإمارات وفرنسا بما يتجاوز إقامة القاعدة الفرنسية الجديدة، فقد بلغت حصة وارادات السلاح من فرنسا أكثر من 43% من مجموع وارادت السلاح في الإمارات، التي تحتل في هذه الأثناء المرتبة الثالثة عالميا بين مستوردي السلاح بعد الصين والهند.
– كما يتنامى التعاون التجاري الثنائي وقد بلغ في هذه الأثناء ما يعادل 9 مليارات درهم إماراتي ولكن بفائض يناهز 7 مليارات لصالح فرنسا، وبلغ عدد الشركات الفرنسية العاملة في الإمارات أكثر من 550 شركة.
– وليس مجهولا تطلع فرنسا لاحتلال المركز الرئيسي في تنفيذ مشاريع بناء الطاقة النووية لأغراض سلمية في الإمارات، مع ما يعنيه ذلك من واردات مالية ضخمة لصالح فرنسا.
رغم عدم التوازن الواضح للعيان في هذا التعاون الثنائي، يمكن القول إنه يدخل في إطار حرص الإمارات على تنويع مصادر السلاح وتعدد مسارات العلاقات الخارجية على المستوى الدولي، وهذا التنوع والتعدد أفضل من الاعتماد على طرف دولي واحد، إنما لا يساهم قطعا في نزع فتيل التوترات الإقليمية، فهذا ما يحتاج إلى خطوات أخرى تشمل العلاقات المباشرة بين دول المنطقة، بما فيها إيران.
ومن فضل القول التأكيد أن المطلوب من الجانبين، وفي وقت واحد، ممارسة سياسات بناء الثقة المتبادلة، وممارسة سياسات البناء الذاتي مقترنا بالتعاون الإقليمي، وكما أن ذلك لا يتحقق من خلال سياسات إيران الانفرادية إقليميا -وليس على مستوى تنوع العلاقات بالقوى الدولية فقط- فإنه لا يتحقق أيضا من خلال سياسات عربية تعتمد على الاتفاقات والقواعد العسكرية والوجود الأجنبي على أراضيها، وعلى سياسات انفرادية على المستوى الإقليمي.
إنما يمكن أن يتحقق نزع فتيل التوترات بالشروع في ميادين تعاون إقليمية لا تخضع في الأصل لمفعول الخلافات والنزاعات ولا إلى العلاقات بالقوى الدولية، ويمكن أن تحقق مصالح مشتركة، سواء في الميادين التجارية، أو المشاريع الاستثمارية، أو عالم المواصلات والاتصالات المباشرة، إضافة إلى ضرورة اللقاءات السياسية الدورية، وإلى العمل بصورة متبادلة من أجل نزع فتيل المشاحنات الطائفية.
إن إيران قوة إقليمية موجودة في المنطقة، وقد بدأت القوى الدولية بما فيها الولايات المتحدة الأميركية تتعامل معها على هذا الأساس، رغم استمرار الصخب الكبير حول الملف النووي الإيراني، وليس في صالح دول الخليج العربية أن تجد نفسها أمام واقع جديد للعلاقات الإيرانية الغربية مستقبلا، دون أن تكون هي طرفا مؤثرا عليها بصورة مباشرة، وليس عبر العلاقات مع الدول الغربية فقط، لا سيما أن إيران لا يردعها تعاون دول أخرى في المنطقة مع دول أجنبية بل يزيد تشبثها بالعمل على تنمية قدراتها الذاتية في مختلف الميادين.
ولم يسفر التباعد الإقليمي من جانب الدول العربية في الفترة الماضية إلا عن مزيد من التوتر، وهو ما ساهمت فيه سياسات إيران من قبل الحرب مع العراق وحتى الآن، فأثار من التساؤلات أضعاف ما يمكن أن يثيره من الاطمئنان، وأوجد لدول الخليج وسواها مزيدا من الذرائع لزيادة تمسكها بما ترفضه إيران على صعيد الاستعانة بالقوى الأجنبية.
وأخطر ما في المسيرة اللولبية المتصاعدة لهذه التوترات أو الحلقة المفرغة لتناميها وزيادة خطورتها، أنها جارية دون حوار مستديم ومباشر بين الأطراف الإقليمية صاحبة العلاقة المباشرة.. وهذا بالذات ما ينبغي أن يكون نقطة البداية للخروج من الحلقة المفرغة وتجنب مخاطر مواجهات مستقبلية.
الجزيرة نت