صفحات الحوار

الشاعرة المصرية نجاة علي لـ”الرأي”: ..يحاولون اقصاء الشباب ليظلوا متصدرين المشهد، انها معركة وجود لا شعر

null
بيروت – حسين بن حمزة: تكتب الشاعرة المصرية نجاة علي قصيدة تبدو بسيطة وسلسة لأول وهلة، ولكنها، في الوقت نفسه، عميقة ومتشعبة المعنى. ثمة مكونات عديدة تتدخَّل في صياغة هذه القصيدة. مكونات مجلوبة من السيرة الشخصية أو إيهام هذه السيرة، ومن الحياة اليومية والمشهديات العابرة والمهملة. قد تبدأ القصيدة من تفصيل صغير أو فكرة مدهشة، واقعية أو متخيلة، ولكن نجاة علي تبرع في البناء عليها وتحويلها إلى مادة شعرية جديرة بالقراءة. هناك دوماً فلسفة داخلية في نصوصها. الحياة اليومية ونثرياتها ومشاهدها المتكررة تتحول إلى مادة للتأمل الشخصي. وغالباً ما يُبتكر الشعر واستعاراته وصوره وحساسيته من خلط هذا التأمل بالواقع.
نشرت نجاة علي مجموعتها الأولى “كائن خرافي غايته الثرثرة” عام 2002، ثم مجموعة ثانية بعنوان “حائط مشقوق” عام 2005 وهي المجموعة التي حازت مؤخراً جائزة “طنجة” للشعر في دورته الثامنة. وتستعد حالياً لإصدار مجموعتها الشعرية الثالثة “مثل شفرة سكين”.
“الرأي” اتصلت بالشاعرة عقب خبر حصولها على الجائزة، وكان هذا الحوار:

* لنبدأ من خبر فوزك بجائزة “طنجة” مؤخراً. ما هو شعور الشاعر بمكافآت كهذه؟ وماذا تعني لك الجائزة نفسها؟
– لا تعرف مدى فرحتي بهذه الجائزة رغم قيمتها المادية المتواضعة، وذلك لسببين: السبب الأول أن الجائزة جاءت من المغرب، وهو بلد له مكانة خاصة في قلبي. أي جائزة من مصر أو المغرب، مهما كانت قيمتها، سيكون لها معنى خاص عندي وسأفرح بها أكثر من جوائز النفط التي أفسدت الشعراء في عالمنا العربي وأرجعتنا للعصر الجاهلي. أما السبب الثاني فيتعلق بنزاهة اللجنة التي تحكّم في الجائزة، والتي لا أعرف أحداً من أعضائها. اللجنة قرأت الاعمال بنزاهة من دون أخذ الحسابات الشخصية أو المجاملات في الحسبان، واستطاعت، عكس معظم الجوائز العربية النفطية التي تحارب قصيدة النثر، أن تنحاز لتجارب الشباب.
وقد نال هذه الجائزة اثنان من الشعراء من أبناء جيلي هما: زهرة يسري وعماد فؤاد.

* بعد “كائن خرافي غايته الثرثرة” و”حائط مشقوق”، يصدر لك قريباً ديوان ثالث بعنوان “مثل شفرة سكين”. السؤال هو: هل يتجاوز الشاعر نفسه من كتاب إلى آخر؟ وما هي النقلات الأسلوبية أو المسافات التي يصنعها كل ديوان ننجزه عما سبقه؟
– أعتقد أن الشاعر أو الفنان بحاجة كلما أنجز عملا أن يتوقف قليلا قبل أن يبدأ في إنجاز عمل آخر. عليه أن يتأمل كتابته جيدا، وأن يكون على وعي ودراية كاملة بما يكتب حتى لا يكرر نفسه، وألا ينسحق أمام إعجاب الآخرين بكتابته أو أن يقع في فخ النرجسية مثلاً. بالتأكيد أنت لن تنزل النهر مرتين لأن وعيك بالعالم وبالشعر في حالة صيرورة دائمة. أظن أن محمود درويش كان صادقاً مع نفسه حين حاول أن يتأمل تجربته بموضوعية، وأن يطوِّر نفسه. هذا هو الفارق بين شاعر وشاعر آخر، وعيه بكتابته والاشتغال على موهبته. والثقافة لها دور مهم في تطوير تلك الموهبة ومنحها الادوات اللازمة. في الراوية مثلا كان نجيب محفوظ فارقا عن كل كتّاب جيله. كان صاحب مشروع كبير، وكان أكثر حرصاً من غيره من الكتّاب على التجريب والمغامرة، ولم يستلب أمام الكتابات السائدة التي رُوِّج لها في عصره. لذلك أصبح نجيب محفوظ.
طبعا أنا أكتب الشعر منذ أكثر من عشر سنوات. بالتأكيد وعيي تغير كثيراً بمفهوم الشعر وبأساليبه. وعيي أصبح أكثر ضدية، بمعنى أنني كل فترة أتوقف أمام قصيدتي وأضعها موضع المساءلة لأطور نفسي. ولا أخشى من النقد الجاد لكتابتي لأنني سأستفيد منه حتماً مستقبلا.
طبعا في ديواني الاول كنت أقل نضجاً من الآن. كنت أخشى الرقابة في كتابتي، وهناك قصائد لم أضعها في الديوان خوفاً من المبالغة في تأويلها. وكان أبي وعلاقتي به تحتلّ النصيب الأكبر من الديوان. الآن أصبحت أكثر تحرراً. لم أعد أخاف أية رقابة داخلية أو خارجية. تخلصت من الغنائية التي كانت موجودة بدرجة ما في كتاباتي الأولى. أصبحت أميل أكثر الى الكتابة الاعترافية التي تعيد قراءة علاقاتي بالعالم وبالأشخاص بدرجة ما من الحياد الممزوج بالسخرية الباردة. صرت أنفر من الصوت العالي في الشعر.
اللغة طبعا هاجس مهم عندي. كيف أجدد في معجمي. كيف تكون اللغة بسيطة وعميقة في الوقت نفسه.
يمكنني أن أقول انني أعتبر الكتابة مسؤولية وأرهبها بجد. بعد كل ديوان أتوقف وقتا طويلا قبل إصدار ديوان آخر، ولك أن تعرف أني أكثرأبناء جيلي تمهلا في إصدار الدواوين. ديواني الأخير”مثل شفرة سكين” ظل في الدرج عامين ونصف. أنا أخاف النشر فعلا، وليس لدي هوس الوجود إعلاميا مثل كثيرين. متعتي الكبرى أن أجلس لأكتب قصيدة ترضيني.

* بعض من كتبوا عن تجربتك أشاروا إلى عالم أو مناخ شعري واحد. هل توافقين على هذا التوصيف؟
– الناقد الشاب الذي كتب عن ديواني، وأنت تقصده على الأرجح، لم يكن يعني هذا. كان يقصد، وأتمنى ان
تكون ثقته في محلها، أن لدي مشروع شعري خاص أعمل عليه بصبر ودأب، لأن هناك شخصيات مثل شخصية الأب مثلا وهي من التيمات التي اشتغل عليها في القصيدة كل مرة بطريقة فيها إعادة نظر لمفهوم الاب نفسه الذي يخرج إلى مفهوم أوسع للأب باعتباره في بعض التأويلات مثلاً قريناً للسلطة. وأعتقد أن عالم ديوان “حائط مشقوق” أكثر عنفا من ديواني الأول الذي تعلو به نبرة الالم، وهو ما حاولت أن أتخفف منه في الديوان الثاني، وفي ديواني الثالث “مثل شفرة سكين” الذي سيصدر قريباً. في الحقيقة انا استفدت كثيراً من القراءات النقدية لكتابتي لأنها كشفت لي عن مناطق يشتغل عليها اللاوعي عندي. استفدت من نقاد كبار من أمثال الناقدة والمترجمة الراحلة الدكتورة فاطمة موسى، وما كتبه الناقد الكبير إبراهيم فتحي عن ديواني الأول. وطبعا ينبغي أن أشير إلى أن أغلب الذين تناولوا ديواني الثاني “حائط مشقوق” كانوا أما مبدعين أو نقاداً من جيل الشباب، وقد وجدوا فيه اختلافا عن “كائن خرافي غايته الثرثرة” وأنه يحمل رؤية أكثر عمقا بالعالم .
في النهاية أنا احترم كل قراءة نقدية موضوعية حتى لو اختلفت معها. ومن الطبيعي أن علاقتي بالنص تنتهي بعد نشره ولا وصاية لي عليه ولا على قارئه.

* يقال إن الشعر أو الكتابة عموماً هي تعويض أو بديل للحوار مع الذات والحياة والوجود. ما هو الشعر بالنسبة لك؟
السؤال يبدو شائكا وصعبا. أعتقد ان جزءاً من علاقتي بالشعر هو مسألة قدرية، فأول درجات الطريق الى الشعر هو وجود درجة عالية من الوعي بالذات. أظنك ستضحك اذا قلت إن أول سبب دفعني للشعر هو خجلي من الآخرين، ورغبتي في التعبير عن هواجسي تجاه العالم دون خوف.
ربما مثلت الكتابة لي في أول الامر الأب الذي أحكي له كل شيء دون خجل، لكن مع تطور مفهومي لمفهوم الشعر لم تعد الكتابة مجرد فضفضة، بل تجاوزتها إلى أفق آخر هو الرغبة في اللعب أحيانا وفي إعادة قراءة للعالم أحياناً أخرى، ولعلاقتي بكثير من الاشياء. صارت الكتابة الان جزءا مهما في تكويني. غالبا ما تعري الكتابة المناطق المحظورة في اللاوعي. تخيل انا أصاب بالاكتئاب وهذا يحدث بين وقت وآخر. إذا شعرت ان الكتابة هجرتني. هنا فقط أشعر بالوحدة وبفقد أبي، لأن جزءاً مهماً من دور الكتابة هو مقاومة محنة الاغتراب التي يعيشها الإنسان عن طريق إيجاد عالم بديل يرضيه.

* يُلاحظ القارئ أن الحالة السردية أوالقصصية متوفرة في معظم قصائدك. السرد هنا هو جزء من نبرة وحساسية شعرية. متى يبطل السرد أن يكون شعراً، ومتى يظل يحتفظ بطاقة شعرية كامنة؟
– أعتقد ان هذا عائدٌ لتشبعي بنصوص سردية أكثر من الشعر. أنا مسكونة بالسرد بسبب حكايات “ألف ليلة وليلة” الذي قرأته في طفولتي وانبهرت به، ثم بعد ذلك الروايات التي قرأتها لفكتورهوجو وطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف ادريس ودستويفسكي وغيرهم من الروائيين وكتاب القصة.
أما متى يبطل السرد أن يكون شعراً، ومتى يظل يحتفظ بطاقة شعرية كامنة، أعتقد ان هذا الامر يعتمد بشكل أساسي على حرفية الشاعر ووعيه بأدوات الشعر، فأنت لا تستعين بالسرد مثلا في الشعر وأظن ان السرد الشعري لم يكن أبدا من محدثات قصيدة النثر، كل ما هنالك أن ترسيخه كأداة لها حضورها الكبير هو ما تم ترسيخه في قصيدة النثر.

* هذا يأخذنا إلى بداياتك الشعرية. قلت في شهادة لك إن من فتح أمامك الطريق إلى الشعر هم كتّاب قصة ورواية، وأن ذلك جعلك تنحازين إلى قصيدة النثر؟
– صحيح. أعتقد أن قراءتي المبكرة لنجيب محفوظ ويوسف إدريس وطه حسين وتشيخوف وغيرهم من الكتاب جعلتني أدرك أن العالم مجموعة من المتناقضات. كتابات هؤلاء وغيرهم من الكبار جعلتني أزادد قلقا. القلق الذي يقودك حتما إلى الأسئلة، ومن ثم إلى فعل الكتابة.

* على ذكر قصيدة النثر. هناك ازدهار لها لدى الأجيال الجديدة في مصر. إلى ماذا تعيدين هذا الازدهار، ولماذا هناك حرب عليها من المؤسسة الرسمية وجماعة الستينات؟
– بالفعل هناك عدد كبير من الشعراء الجيدين في مصر مثل ابراهيم داود وعماد أبو صالح وعاطف عبد العزيز ومحمود قرني وجرجس شكري.
أيضا لدينا ربما لاول مرة عدد كبير من الشاعرات المبدعات: فاطمة قنديل وايمان مرسال وزهرة يسري وهدى حسين وجيهان عمر … وغيرهن.
بالفعل يوجد ازدهار حقيقي في المشهد الشعري الراهن من الاجيال الجديدة،
ربما يكون سببه هو حالة المثاقفة والانفتاح على الآخر، وهو ما لا نجده في المشهد النقدي الذي يبدو أكثر بؤساً من أي وقت مضى. فالنقاد الكبار تكلست ذائقتهم بفعل الزمن، كما أن المؤسسات الاكاديمية أصبحت في وضع يرثى له. أتصور أن موقف المؤسسة الرسمية من قصيدة النثر ليس موقفا واحدا ومحددا مسبقا كما يرى الكثيرون بدليل مثلا أن أنها تطبع دواوين شعراء قصيدة النثر. وهناك من هؤلاء الشعراء من يتولون رئاسة بعض هذه السلاسل. المؤسسة أفراد في النهاية، وليس هناك حرب منظمة من جانب المؤسسة على قصيدة النثر. أعتقد أن لجنة الشعر هي السبب في إشاعة هذا التصور لأن لا علاقة لهم بالشعر الجديد. معظمهم من الأجيال القديمة المحافظة، ومن الطبيعي إلا يعترفوا بنا ويحاربونا. هم يحاولون أن يوقفوا عجلة الزمن بإقصاء الشباب عن المؤتمرات حتى يظلوا وحدهم متصدرين المشهد. هي معركة وجود بالأساس بالنسبة إليهم وليست معركة على شعر.

* هل توافقين أن ثمة تشابهاً لدى العديد من تجارب قصيدة النثر المصرية الراهنة. البعص يقول إنكم تكتبون قصيدة واحدة تقريباً؟
– هذه تهمة باطلة وغالبا ما تطلقها الاجيال القديمة أو من لا يتذوقون قصيدة النثر أو من لا يقرأونها بشكل واعٍ. مسألة أن هناك عددا كبيرا من الشعراء يكتبون قصيدة واحدة هو أمر موجود في كل وقت. الزمن يقوم بعملية انتخاب وانتقاء لكل هؤلاء الشعراء، فتحدث غربلة لهذه الكتابة. الشعراء المتميزون هم وحدهم المختلفون ويمتلك كل واحد منهم صوته الخاص. والكثرة الرديئة لها دور مهم جداً في أنك تقيس عليها تفرُّد الشعراء المتميزين.
موقع الراي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى