إلى من يقرأ الحروف بالمقلوب “الدين لله والوطن للجميع”
ميشال شماس
تكاد لا تخلو المقالات التي كتبتها من الدعوة إلى إضفاء الطابع المدني الديمقراطي على وطننا وتنشئته وتنميته على هذا الأساس، وطناً يرتكز أولاً وأخيراً على مبدأ المواطنة الكاملة، والمبنية على الحقوق المتساوية لكافة المواطنين وتمتعهم على وجه الخصوص بحرية الفكر والعقيدة وسائر الحريات العامة والخاصة بصرف النظر عن الجنس أو العرق..أو اللون أو أي انتماء سياسي أو ديني. ومع ذلك يأتي من يتهمني بالطائفية.
فقد تحدثت عن الحرية في المنظور الإلهي وكيف أن الله لم يشأ أن يكون الإنسان عابداً له بالإكراه، بل منحه حرية الاختيار في القرآن الكريم : “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”(الكهف29) وجاء أيضاً ” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” ( يونس 99).وما أكد عليه الإنجيل المقدس : ” وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن به فأنا لا أدينه لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم” (يوحنا 12/47) ” كما أن الله كما ورد في القرآن لم يشأ أن يجبر أحداً من الناس، ولم يكره أحداً أيضاً على الالتزام بدين أو مذهب معين، بل ترك للناس حرية الاختيار كما يشاؤون “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” ( البقرة :256 ).ومع ذلك اُتهمتُ بالطائفية.
وبعد ذلك نبهت من خطورة استرضاء التيار الديني “القبيسيات على سبيل المثال”، واعترضت على ازدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين، فمن جهة يسمحون بالنشاط للحركات ذات الطابع الديني.ومن جهة أخرى يحجبون هذا الحق عن الحركات والجمعيات التي تمارس نشاطاً مدنيا تهتم بحقوق الإنسان والمجتمع المدني، وقلت فلماذا لايتركون الحرية لجميع أطياف المجتمع وألوانه أن تعبر عن نفسها، وأكدت أن التاريخ علمنا ومازال يعلمنا -إذا أردنا أن نتعلم – إنه إذا كان ليس بالاستبداد تُبنى الأوطان، فإنها لم ولن تُبنى أو تتطور أيضاً بسياسة استرضاء الحركات والمدارس الدينية، ومنع منظمات المجتمع المدني من النشاط. وما يجري في العراق والباكستان والصومال ولبنان إلا دليل على ما نقول . فاتهموني أيضاً بالطائفية.
في العام الماضي طالبت بتوحيد مقرر التربية الدينية يجمع بين دفتيه القيم الأخلاقية والروحية الإسلامية والمسيحية ، نعلمها لأولادنا منذ الصغر ونربيهم عليها حتى يكبروا، بدل أن نفرق بينهم على مقاعد الدراسة، وأكدت أن المشكلة ليست في الكتب السماوية المتقاربة في مضمونها إلى حد التماثل، بل المشكلة هي في تلك الاجتهادات والتفسيرات التي تباعد بين الأديان، والمشكلة الأكبر تتمثل في عدم رغبة البعض بعكس ذلك التقارب والتماثل في عقول الناس وممارساتهم اليومية.ومع ذلك اُتهمت بالطائفية أيضاً.
وبعد التفجير الإجرامي الذي استهدف حي القزاز بدمشق وبعد أن تبين أن مرتكبي ذلك التفجير كانوا يدرسون في أحد المعاهد الدينية” معهد الفتح الإسلامي” قلت :”كفانا معاهد ومدارس دينية” فما نحتاجه في سورية اليوم بالتأكيد ليس إلى تلك المعاهد والمدارس الدينية سواء كانت مسيحية أم إسلامية، بل إلى مدراس ومعاهد تهتم بالتربية والتعليم وتحسين نوعيته خاصة في مجال العلوم الحديثة كالتقانة والمعلوماتية والحاسوب والإلكترونيات، التربية الوطنية، وحدة المجتمعات وسلامتها واستقرارها،البيئة و التلوث و تدهور الموارد الطبيعية، التربية السكانية، الصحة و الجنس و الأمراض المصاحبة ” مثال الإيدز”، المخدرات… وذلك بدءاً من المرحلة الابتدائية مروراً بمرحلة التعليم الأساسي والثانوي وصولاً إلى التعليم الجامعي والعالي، وربط ذلك بسوق العمل وبما يتناسب ومتطلبات التنمية الوطنية القادرة على المنافسة..فاتهموني أيضاً بالطائفية.
واتهموني بالطائفية أيضاً عندما ضممت صوتي إلى صوت الذين حذروا من خطورة تهجير المسيحيين من دولنا وفي مقدمتهم سماحة مفتي الجمهورية الدكتور أحمد حسون الذي طالب في تصريح لكلنا شركاء” بقيام دول عادلة تجمع كل أبنائها، فالمسيحية والإسلام ستبقيان في المنطقة، ولن نرض بأن تُحول إلى دول دينية مغلقة على نفسها، فالمسيحي والمسلم يصلون إلى جانب بعضهم، ولن يكون هناك وطن إسلامي و وطن مسيحي”.
واتهمونا بالطائفية أيضاً عندما استشهدت بما قاله الصحفي العربي الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه “عام من الأزمات- كلام في السياسة”: “أشعر، ولابد أن غيري يشعرون، أن المشهد العربي كله سوف يختلف حضاريا وإنسانيا وسوف يصبح على وجه التأكيد أكثر فقرا واقل ثراء لو أن ما يجرى الآن من هجرة مسيحيي المشرق ترك أمره للتجاهل أو التغافل أو للمخاوف. أي خسارة لو أحس مسيحيو المشرق أنه لا مستقبل لهم أو لأولادهم فيه، ثم بقي الإسلام وحيدا في المشرق لا يؤنسه وحدته غير وجود اليهودية الصهيونية– بالتحديد أمامه في إسرائيل”
وعندما طالبت بتفعيل دور المسيحيين العرب وإعادة الاعتبار لدورهم الحضاري الرائد في نهضة مجتمعاتهم في هذا الشرق، يعيد الألق من جديد لدور العرب المسيحيين في نهضة بلدانهم من براثن التخلف والتطرف إلى جانب إخوتهم العرب المسلمين، وعلى المسلمين أيضاً أن يساعدوهم في ذلك. فهذا هو قدرنا الذي لا مفر منه في هذه المنطقة من العالم. اتهمونا أيضاً بالطائفية.
حتى عندما طالبت بإلغاء ما يسمى بجرائم الشرف واعتبار مرتكبها مجرماً ، وعندما تحدثت عن الانتهاكات التي تتعرض لها النساء،وعندما طالبت بمنع تزويج الصغيرات وتحديد سن الزواج للفتى والفتاة بسن الثامنة عشرة اتهمت بالطائفية.
وعندما تسرب خبر وجود مشروع للقانون الأحوال الشخصية في سورية، كتبت عنه وقلت فيه أنه مشروع فتنة لما احتوى من أحكام فيها امتهان واضح لحقوق المرأة والطفل وفيها انتقاص لحقوق المسيحيين. وسألنا هل يتحمل الوطن هكذا مشروع ؟ فإذا كان متعذراً في الوقت الحالي قيام تشريع زواج مدني على أساس قانون مدني واحد فوق الطوائف مع ترك حرية الاختيار لمن يرغب من المواطنين مباركة زواجهم عن طريق المحاكم الشرعية والروحية والمذهبية،فلماذا لا نترك المفاعيل الدينية للزواج كما في شروط عقده وانحلاله وفسخه للمحاكم ذات الصلة؟. ثم نعمل معاً على سن قانون أحوال شخصية موحد لجميع الأديان والطوائف ينظم مسألة الآثار والمفاعيل المدنية المتعلقة بالزواج وما ينتج عنه من أثار تتصل بالحضانة والمسكن ونفقة الزوجة والولد الصغير والكبير ونفقة الأقارب والولاية والوصاية والإرث والوصية والأشياء الجهازية ..الخ وذلك على أساس المساواة التامة بين الرجل والمرأة سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين أم دروز أويهود وفقاً لما نص عليه الدستور السوري ولاسيما المادة 25 منه فقرة 3 ” المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات. وكذلك المادة 35 فقرة 1- حرية الاعتقاد مصونة وتحترم الدولة جميع الأديان”، وبما ينسجم مع العهود والمواثيق الدولية ذات الصلة. ومع ذلك جاء أيضاً من يتهمنا بالطائفية. والله لقد حيرونا من وين بدنا بوسهم.!!
وفي النهاية أعيد التأكيد مجدداً على إننا في سورية لا نطلب الحق في ممارسة الشعائر الدينية فقط ، بل نطلب حق التمتع بمبدأ المواطنة الذي يساوي بين المواطنين على اختلاف مشاربهم السياسية والدينية والمذهبية والعرقية..الخ. فنحن السوريين بجميع أطيافنا وانتماءاتنا كنا ومازلنا شركاء في هذا الوطن منذ آلاف السنين، شركاء في الحلوة والمرة، شركاء في الدفاع عنه،وسنستمر كذلك.. فما الذي يمنع بعد كل ذلك من أن نشارك في بناء هذا الوطن على أساس الكفاءة وعلى أساس الاعتراف بالآخر وحق الاختلاف معه…وعلى أساس القبول بهذا الآخر وحقه الإنساني دون حدود فقهية وتشريعية.؟؟
إننا نطمح في الحاضر والمستقبل إلى بناء وطنٍ يكون لجميع أبنائه، يرتكز أولاً وأخيراً على مبدأ المواطنة الذي يتيح لجميع المواطنين التمتع على وجه الخصوص بحرية الفكر والعقيدة وسائر الحريات العامة والخاصة بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو العرق أو اللون..ونطمح أيضا إلى نظام يحمي المعتقدات الدينية والفكرية والسياسية، وإن اختلفت، نظام يكون على مسافة واحدة من جميع مكونات الشعب دون تفضيل فريق على أخر.. .
فالأوطان والمجتمعات لا تسير على رجل واحدة، وإن سارت، ستكون مسيرتها عرجاء، ولن تستقيم المسيرة إلا إذا سارت بمساعدة كل من الرجل والمرأة ويداً بيد.
“الدين لله والوطن للجميع” صرخة أطلقها الأفغاني في عصر النهضة ،ونعيد إطلاقها الآن.
كلنا شركاء
للاطلاع على كامل مواد مشروع القانون الجديد يمكنك الذهاب الى الرابط التالي
https://alsafahat.net/blog/pdf/Syrian_safahat001.doc