صفحات سورية

الحسابات الخاطئة في التعامل مع النظام السوري

null
بابليسوك حسين
المتابع للمسار السياسي العام للنظام في سوريا منذ بداية السبعينات من القرن المنصرم ، سيلاحظ ثلاث مراحل مختلفة الخطوط والتضاريس ، ويبقى بينها دوماً ، وعلى طول المسار ، مايربط المراحل بعضها ببعض بإحكام .
المرحلة الأولى :وتمتد مابين عامي 1970 و 1980م ، وفيها استطاع الرئيس الراحل حافظ الأسد أن يؤسس القاعدة السياسية ـ الثقافية ـ الشعبية ـ ـ الحزبية ـ العربية المؤيدة والمساندة له ، وتغلغل بهدوء وتأن بين مفاصل وجزئيات الواقع السوري الإجتماعي ـ الإقتصادي ـ الثقافي . وبدا في نهاية عقد السبعينات ، وكأنه الجنرال الذي لايجارى في تاريخ سوريا السياسي الحديث .
المرحلة الثانية : وتمتد مابين عامي 1980 و 2000م . وهي التي تأسست على أشلاء القتلى ، فمنذ الحدث الدموي في مدرسة المدفعية بمدينة حلب ، والإغتيالات الفردية لكثير من الكوادر العلمية ، والفكرية ، والثقافية ، والتي تبنت مسؤوليتها ” الطليعة المقاتلة ” لجماعة الأخوان في سوريا ، والتي اتخذتها السلطة ذريعة لتشن حملة مسلحة إجتثاثية ضد الأخوان ، شملت الآلاف من الآبرياء الآمنين في حماة وحلب وغيرهما من المدن السورية .
وهو الأمر الذي دفع بالرئيس وقادته المقربين إلى إستشعار ” الخطر المحدق ” ، فصعدوا من سياساتهم الجهوية والمتمثلة بغربلة المراكز الحساسة ، واستبدال الكوادر الكفؤة في مجالات العلوم ، والفكر ، والثقافة ، والدفاع بأقل كفاءة ومردودية من أبناء الطائفة . وبذلك تحولت السلطة السياسية التي كان من المفترض بها أن تعكس الواقع الإثني ، والطائفي ، والإجتماعي في البلد إلى نظام أسري ، طائفي ، يسور نفسه داخلياً بالعسكر ، والأجهزة الأمنية ، والمنظمات الشعبية المدربة عسكرياً . أما على الصعيد الخارجي فعمق علاقاته مع نظام الملالي المتخلفين في إيران على أسس طائفية لم تكن تخفى آنذاك على العين البصيرة .
وفي الحقيقة عدت هذه الأحداث والتحالفات نقطة تحول بارزة في مسار النظام ، لجهة أنه لم يكد يتجاوز حدود محنته ، حتى فتح أبواب سوريا الداخلية على مصاريعها أمام طيفين ، أو تيارين متوازيين ، اقتحما الواقع السوري اقتحاماً .
الطيف الأول : وهو الذي انتهز الوضع المحتقن ، فتفاعل معه ، وتماهى مع أجندة السلطة ، وكان يتكون من : ضباط ـ وبورجوازيين طفيليين ، وفقراء انتهازيين متسلقين ـ ومكولكين ـ ومساحي جوخ ـ وقوادين ـ وسماسرة ، تسلقوا الشجرة السورية الخضراء ، ونزلوا فيها قرضاً وقضماً وقرطاً والتهاماً حتى أضحت ذابلة ضامرة مغبرة باهتة اللون .
الطيف الثاني : وهو الطيف الديني المتطفل التابع والذيلي لأولياء الأمر ، والذي أسرع ـ منذ بداية الأحداث الدموية ـ في الإختباء تحت ” عباءة ” السلطة خوفاً وهلعاً مما حصل على الأرض ، فتلقفهم الرئيس والمقربين إليه ، ووضعهم في عهدة الأجهزة الأمنية ، يتلقون منها الهبات والعطايا والمكارم ، مرفقة بالتعليمات والتوجيهات اللازمة . . فأسرعت تلك المرجعيات إلى تحويل العقد الثامن والتاسع إلى ورشة عمل لبناء المساجد ، والتكايا ، والزوايا التي شملت المدن بحاراتها وشوارعها ، والقصبات ، والقرى . وراح الأئمة ، والشيوخ ، والفقهاء يتلون نشراتهم أيام الجمعات يمجدون فيها الأب القائد ، و يبثون من جهة أخرى القصص الخرافية الباعثة على اليأس والخوف والهلع من عذاب الآخرة ، و تعود المسلمين على روح اليأس ، والكسل ، والإتكالية ، والتبعية لأولياء الأمر .
وعلى نفس الخط  تحرك تنظيم البعث ، وتحت عناوين براقة ، لينشأ النقابات ، والمؤسسات ، والإتحادات ، والمنظمات بهدف تجييش المجتمع . وتبعاَ لذلك أصبحت ظاهرة المحسوبية السمة البارزة في الواقع السوري ، فتغلل الفساد بين مفاصل الهياكل السياسية ، والإجتماعية ، والإقتصادية ، والتعليمية ، والقضائية ، وتعمقت ظاهرة الرشوة ، وكثرت حالات النهب والسلب والسرقات ، وذلك في ظل قبضة أمنية حديدية .
المرحلة الثالثة : عهد الرئيس بشار الأسد الذي استلم السلطة في حزيران عام 2000 م ، وحاول في بداية عهده أن ينفتح على الداخل السوري ، ولكن سرعان ماأزال النقاب عن وجه النظام ، فأصدر أوامره بإغلاق المنتديات الثقافية والإجتماعية ، وبدأت أجهزته الأمنية بحملات اعتقالات جائرة ، وخاصة بعد سقوط النظام العراقي المقبور ، فكانت دمشق في ذلك الحين موئلاً لكل الفصائل الفلسطينية والإسلامية المتطرفة ، بل أكثر من ذلك فقد تحولت إلى ملجأ آمن لمجرمي البعث وأيتام صدام الفارين من وجه العدالة ، ومركزاً للتدريب وتخريج الإرهابيين القادمين من معظم الدول العربية ، وممراً لهم إلى العراق ، بهدف تفجير الوضع فيه ، وإجهاض المساعي الأمريكية والقوى الوطنية اديمقرطية العراقية في إقامة مشروع سياسي ديمقراطي تعددي ، يصبح فيه العراق مثلاً يحتذى به في منطقة ” ثقافة الدم ” .
وفي الداخل العراقي تمكن الكثير من مريدي المقبور ، وأتباع النظام المتخلف في إيران ، وفاشيي البعث الهامدين النائمين بين نسيج المجتمع العراقي من الإستيقاظ بفعل أوكسجين الديمقراطية ، ليتحولوا إلى كوابح ” تفرمل ” عجلة التجربة الفتية ، وتسعى بقوة على تفجيرها من الداخل . وظل الصراع ومازال قائماً بكل أشكاله .
وعلى الرغم من تعاطي إدارة أوباما مع النظام في دمشق ، والتلويح له باستحقاقات كبيرة ، فيما إذا أقدم على قطع صلاته مع الأجندة الإيرانية في لبنان ، ووقف دعمه ومساندته لحركة حماس ومثيلاتها ، والكف عن إرسال الموت والخراب إلى العراق . وفي خضم ذلك تحرك الوسيط التركي بمباركة أمريكية ، ومساندة أوربية ، بهدف إحياء مباحثات السلام بين الطرف الإسرائيلي ـ والسوري .
وتوافدت على دمشق جحافل الوفود من المراكز الرفيعة المستوى أمريكية ، وأوربية ، وأقبلت الأنظمة العربية والإسلامية تولي اهتماماً غير مسبوق بالنظام ، وكأنها بذلك تعزز لديه الثقة ليقدم على الخطوة المأمولة ، ويقطع صلاته مع الحليف الإيراني . ولكن وكما يبدو أن الحسابات الأمريكية لم تتطابق مع إنتاج البيدر السوري . ففي كلمته أمام وزراء خارجية الدول المشاركة في المؤتمر الإسلامي المنعقد في دمشق في آواخر شهر أيار قال الرئيس بشار الأسد بالحرف : ” نرفض أن تفصل الحلول في الخارج لكي تطرح علينا جاهزة ، وما علينا إلا التنفيذ ” . وأضاف : ” إذا أردنا النجاح علينا التركيز عل تطوير الواقع ، لأن لغة الشكوى ، والإستجداء ، والتوسل لن تحقق لنا شيئاً . . وأن إسرائيل دولة عدوانية المنشأ والنيات . . وأن فشل العمل السياسي في استعادة الحقوق الشرعية لأصحابها سيعطي الحق للمقاومة في القيام بواجبها من أجل استعادتها ” .
وبعد الجلسة مباشرة أعلن وزير الخارجية السعودي في مؤتمر صحفي تأييده ، وداعياً أن تكون كلمة الرئيس الأسد ورقة منهجية لأعمال المؤتمر ، وأن يأخذ الجميع بنصائحه . وفي وقت متزامن أعلنت إيران رفضها للمفاوضات مع مجموعة { 5 + 1 } الدولية . وصرح الرئيس الإيراني في الوقت ذاته : ” بأن القضية النووية قضية منتهية بالنسبة لنا ” . إن مثل هذه الأنظمة المستبدة المدمنة على العنف ، والتصفيات ، والقتل ، وكم الأفواه ، والمداهمات ، والملاحقات ، والإعتقالات ، وفبركة المؤامرات ، وتفخيخ الأجساد البشرية بالموت ، لايمكنها التماثل للشفاء إلا باستخدام مايوازي إدمانها على العنف ، والدموية ، وذلك في التعامل المعلن والشفاف مع المعارضات الحقيقية في كل من سوريا وإيران تأييداً ومساندة ودعماً . وهي تتمثل في قوى ” إعلان دمشق ” . والأحزاب والقوى الديمقراطية الممثلة للشعوب الإيرانية .
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى ماكانت تمارسه الإدارة الأمريكية السابقة من سياسات إستعلائية مع حلفائها وأصدقائها الحقيقيين ، قد باءت بالفشل ، كما وأن تحول إدارتها الحالية ـ في ظل المائة يوم من عملها ـ إلى حالة ” رسولية ” تذرف الدموع على خطايا وعثرات الإدارة السابقة ، واعدة ” رعاياها الأشرار ” الخارجين عن دائرة الطاعة بالحياة السعيدة ، إن تخلت عن نزعاتها الدموية . ماهي إلا ” تخبطات ” تمزج السياسة فيها بالأحلام الكنسية الرومانسية ، ستؤدي ـ إن استمر الوضع على ماهو عليه ـ إلى ، سقطة مهولة ، ستكون نتائجها ـ في هذه المرة ـ كارثية . لأن دائرة العنف مستمرة في الإتساع والتعاظم في الشرق الأوسط المنكوب ، وقوى الظلام والظلامية مصرة على ” نخر ” جدران السدود الهشة والمتداعية في المنطقة التي تتجه بخطى حثيثة نحو ” تسوناميات ” حروب أهلية حتمية لن تغرق المنطقة فحسب ، بل ستصل شظاياها لتحرق مناطق كثيرة في العالم .
موقع اعلان دمشق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى