ياسر عبد اللطيف: ما من لغة عربية فصيحة نقية السلالة كالخيل. الأنبياء أنفسهم كانوا أكثر تواضعاً من بعض شعراء الحداثة العربية
عناية جابر
ياسر عبد اللطيف، شاعر مصري شاب، كــتب في القصة القصيرة والرواية والنصـوص والسـرديات. عمل في التلفزيون وفي صناعة الأفلام التسجيلية. أحدث إصداراته الشعرية «جولة ليلية» (2009)، صدر عن دار «ميريت». عنه وعن قضايا ثقافـية أخرى كان هذا الحديث:
^ «جولة ليلية» إصدارك الشعري الجديد جاء بعد إصدارات تنّوعت ما بين شعر ورواية وسرديات ونصوص. السؤال البديهي التقليدي: أين تجد نفسك أكثر؟
بدأتُ كتابة القصص القصيرة في مطــلع التسعــينيات، ومنها جنحت نحو كتابة القصائد في وقت كان الشعر المصري يشهد تحولاً نحو قصيدة اكثر انفتاحا على السرد، بتقليص النفس الغنائي المجازي ولعبة التشــكيل اللغوي. وقتها صارت المسافة بين القصيدة والفنون السردية الأخرى أقرب مما كانت عليه. أو لنقل إن القصيدة صارت في متناول «الغلابة» من كُتاب السرد. عموما، لا أحب صورة ذلك الكائن «اللامع» الذي يعمل شاعراً.. الأنبــياء أنفســهم كانوا بالتأكيد أكثر تواضعا من بعض شعراء الحــداثة العربية ممن يسيرون بحزمة من ضوء مسلطة على رؤوسـهم أينما حلوا. وأفضل أن أُعَرٍّف نفسي ككاتب يقترف الشعر أحياناً على أن أكون شاعرا يكتب السرد. الشعر دائما هو الاستثناء. اعترافي ليس نهائيا، وتواضعي قد يكون نوعاً من الغرور المقلوب.
^ قصيدتك وإن قصيرة، ذات نفس سردي حكائي مع إضاءات محض شعرية، تعتني بخواتــيم القصائد، هل هذا النوع من الكتابة هو وجهة نظرك في القـصيدة الحديثة؟
قلت في اجابتي السابقة إنني جئت لأرض الشعر من أرض السرد، وهذا بالتأكيد يطبع قصائدي بطابع حكائي، وإن لم يحصرها في تلك الأسلـوبية. في ديواني الــجديد «جولة ليلية» قصائد تقارب الغنائية على طريقتي، منها مثلا قصائد «لحن جديد» و«الجوع» و«اتفاق ضمني». وما تسمينه الاضاءات الشعرية هو ما يفرق بين كون النص السردي القصير المحكم قصيدةً أو أي شكل آخر، هو القفز فوق منطق السببية التقليدي للسرد عبر علاقات لغوية مختلفة. وكتابة القصيدة عندي تخضع للحظة مختلفة عن لحظة كتابة السرد؛ لحظة يشوبها شيء من الحدس بهذه العلاقات المختلفة التي تتجلى لغوياً. ربما كان منطق السرد أكثر وعياً بلحظته. أما عن الخواتيم، فأي نص مهما كانت قوته، يفقد الشيء الكثير إذا ضعفت خاتمته. وربما تستدعي الخاتمة تدخلاً أكثر وعياً لـ«تقفيل» النص عند لحظة حاسمة، دون الانجراف دائما لمنطق المفارقة.
المهمش واليومي
^ ثمة أفكار كبيرة تسند قصيدتك الصغيرة، كما ونبرتك نقدية وتهكمية تطاول أمكنة عيشك القاهري، والتبّدل السريع الذي يطاولها. هل يحتمل الشعر الحديث الأفكار الكبيرة؟
أي أفكار مهما تناهت في الصغر إذا خضعت لعدسة الفن ستأخذ حجما جديدا. وقد دأب النقاد على تعريف الأدب الذي يتناول قضايا كالصراع الطبقي أو الحضاري أو التحرر الوطني بأدب القضايا الكبيرة في مقابل نوع آخر من الأدب أو الشعر يحفل بالفردي والصغير والمهمش واليومي. وأنا لا أعرف أيها القضايا الكبيرة وأيها الصغيرة، والحقيقة أن القضايا الأولى تكمن دائما في الأخيرة، سواء تعمد الكاتب ذلك أم لا. وبالنسبة إلي أنا لا انطلق من فكرة عندما أكتب قصيدة. في الأغلب يكون دافعي مشهد غائم في ذاكرتي أحاول محاصرته بالكلمات، ثم قد تأتي الفكرة بعد ذلك.. قديما قال مالارميه: «الشعر يصنع بالكلمات. أنا لو أردت معالجة فكرة ما لكتبتها في شكل آخر بالتأكيد غير القصيدة. وقد كتبت عن موضوع تحولات المدينة المشار إليه أكثر من نص هي أقرب إلى المقالات الممزوجة بالسرد الذاتي، أما قصائدي فقد تلتقط لحظات من ذلك المشهد المديني، أشبه بما نراه منفلتا من نافذة سيارة منطلقة.
^جملتك تبدو لي كما لو متأثرة بقراءة الشعر الأجنبي المترجم الى العربية. أعني من ناحية صياغة الجملة عندك والتراكيب الفنية التي تعتمدها، هذا مع التأكيد على روح قصيدتك المحلية العربية؟
هذا سؤال يحمل اتهاما ضمنــيا بالركاكة، ويفـترض في المقابل لغة عربية فصيحة نقية السلالة كالخيل، وهو ما يصعب تصوره بالنسبة إلى اللغة في واقعها المعــاصر. فاللغة كأي كائن عضوي لن تتــطور ســوى بالاحتكاك بخبرات الآخرين. والأصعب هو التحرك بين هــذين القطبين، أي الاتهام بالركاكـة، والدفع بحــجة التطوير. واعــتقد أن هذا الاتهام لاحق كتــابا كثرا، ولا ضرر من أن انضم لهذه القائمة. ولكن أصدقك القول حين أدعي أن قراءاتي في الشعر المترجم قليلة للغاية. واتشــكك كثيرا في امكانية ترجمة الشــعر من الأصل، إلا في حــالات نادرة، كــكفافيس مثلاً الذي نجحت ترجماته بدرجة كــبيرة لغلــبة الطابع الحكائي على شعره. وبعد هــذه المقدمة يبــقى أن أقول إني أنا نفــسي أعمل كمترجم وأحيانا كمــدقق للتــرجمات لكسب العيش. وربما كــان لذلك العمل أيضاً تأثير على لغتي.
المصادرة والتكفير
^ تلعب لعبة جذابة في قصائدك، كأن تقترب من الأشياء، تلمّح إلى المواضيع تلميحاً (الحب، الأمكنة..)، من دون مكاشفات علنية وتسميات، تكاد تكون الآن عنصراً جامعاً في كتابة الشعراء الشباب. ما رأيك؟
عودة لعقد التسعينيات؛ ربما يصح كلامك عن «المكاشفات العلنية والتسميات» على القصيدة التي سادت وقتها، الآن اعتقد أن الوضع صار مختلفاً، لا سيما لدى الشعراء الأحدث والأصغر سناً. اما في فترة التسعينيات فكان هناك ميل نحو كتابة تحريضية تتعمد كسر التابو. لم أكن من مناصري تلك القصيدة، كنت أراها نوعاً من الكــتابة «الأخــلاقية». بعض هذه النصوص اعتمد الهرطقات السلــوكية، والأكثر حنكة استند على «أفكار» تحررية كبرى، بحسب تعبيرك. والأغرب أن الأمر وصل إلى تقييم الكتابة وفقا لدرجة اختراقها للتابو. كان ذلك هو الوجه الآخر لحملات المصــادرة والتكـفير، لكنه كان يتم في نطاق ضيق، في حيز الكتب التي تطبـع من خمسمئة نسخة والمجلات الشعرية المتخصصة، وكانت هناك حملة عنيفة مضادة لهذه الكتابة من قبل نقاد وشــعراء تعاملوا كأدوات للضبط الاجتماعي، وأحيانا الوطني. وكنت أعتقد أني خارج هذه المعركة نظرا إلى أنني من البداية أكثر انحيازا للتجريب الجمالي، ولم اضع يوما فــكرة التحــريض أو كسر التابو غرضا لكتابتي. لكن شظايا هذه المعارك قد طالتني، نظرا إلى أن كل أصدقائي كانوا أطرافا فيها، والمزاج العام يميل لمعاملة الأفراد ككتلة صماء بلا تمايزات. الآن هدأ غبار هذه المعركة وربما ينتقل الخلاف إلى أرض الجمالي مرة أخرى.
^ في قصيدتك تقاطعات تنحو نحو السينما أحياناً، كما أن الموسيقى والغناء موجودان بقوة. هل هذه العناصر الفنية موجودة في حياتك، أم أن استخدامها في الشعر لمجرّد تشكيل مشهد أو صورة شعرية؟
في فترة من حياتي اهتمــمت بالــسينما اهتماما مكثفاً، لكن لم يعــد لدي هذا الاهتــمام الآن بنفس الكثــافة. ولا أعد نفسي مميزا في الوقوع تحت تأثير سحر الفنون البصرية المعاصرة. وإن كان التأثير الأكبر على وعيي من عالم السينما يرجع إلى فترة عملي في التلفــزيون، ولعــملي أحيانا في مجال صناعة الأفلام التسجيلية.. ما سحرني في هذا المجال هو تقنية «المونتاج اللاخطي» في وســيط الــفيديو الرقمي السائد الآن، كنت وأحد اصدقائي المخرجين نتــشارك في صناعة أفلام تسجيلية بشكل مستقل وبمنطق متحرر من إيقاع العمل الإلزامي.. الأكثر امتاعا في ذلك العمل بالنسبة إلي كانت عملية المونتاج. إعادة تركيب المادة المصورة بعد أن تحولت إلى مادة رقمية في ذاكرة الكــومبيوتر بالقرص الصلب، وذلك بوضع خط افتراضي لمسار الفيلم وتسلسله الزمني على الذاكرة القريبة للكومبــيوتر، ستنطبع على اساسه المادة المصورة على هيئة الفيلم مكتملا بعد ارتدادها مرة أخرى من ذاكرة الكومبيوتر البعيدة بالقرص الصلب إلى شريط الفيديو.. أما عن الموسيقى فأنا مجرد مستمع لي قائمة مفضلاتي الخـاصة التي تتسع وتضــيق حــسب المزاج، وربما قضيت سنة كاملة أستمع لأغنية واحدة أو اثنتين بشكل متكرر ومهووس، وأحيانا أترك نفسي لمؤشر الراديو ليبث ما يشاء.
السفير