يوسف بزي: الحرب قتلت الغناء والأناقة اللغوية في قصائدي
بيروت – حسين بن حمزة: يكتب الشاعر اللبناني يوسف بزي قصيدة يتحرَّر فيها الشعر من التجريد اللفظي والغنائية المائعة والعاطفة المفرطة والتهويم البلاغي والفصاحة العالية… إنها قصيدة خارجة من جحيم الحرب الأهلية، ولكنها لا تزال تتغذّى من العنف الاجتماعي والمديني الذي يسود حتى في الأيام العادية.
بدأ بزي مسيرته بديوان “المرقَّط” الذي حاز جائزة “يوسف الخال” للشعر عام 1989. كان الديوان إعلاناً اقتحامياً عن نبرة، ومحاولة، في الوقت نفسه، لتقاسم هذه النبرة مع تجارب مجايلة وأخرى من أجيال أخرى. نبرة كانت حصيلة انعطافة حاسمة للشعر الذي بات عليه أن يتمرَّغ في وحل وفضلات وعنف الواقع الحقيقي، وأن يكون سؤالاً وجودياً ومزاجاً لغوياً وطريقة لتذوّق الحياة.
دواوينه التالية: “رغبات قوية كأسناننا” و”تحت المطرقة” و”بلا مغفرة” … هي بمثابة خريطة تفصيلية لمعجم شخصي وسيرة شخصية، المعجم والسيرة يحتكّّان بضرواة مع معجم المدينة وسيرتها العنيفة والقاسية. الضراوة، على أي حال، هي جزء أساسي في عبارة بزي.
“الرأي” التقت يوسف بزي، وكان هذا الحوار حول محطات أساسية في تجربته:
إذا عدنا إلى البدايات، كنت محظوظاً، بطريقة ما، بالدخول إلى المشهد الشعري بديوان “المرقَّط” الذي حاز جائزة “يوسف الخال” للشعر عام 1989، التي كانت تنظمها “شركة رياض الريس للكتب والنشر”.
– بهجتي بالجائزة كانت مجرد تسجيل أهداف في مرمى أصدقاء. قبلها كنا شلة من الشبان الآتين من مناطق ومشارب مختلفة، يجمعنا الشغف بالشعر. كان فوزي أشبه بمفتاح لولوج عالم الصحافة، أي أن أجد وظيفة لائقة. أيضاً كي تُقرأ قصائدي أكثر. والأهم أن الديوان كان محظوظاً بصدوره عن دار نشر معروفة مع هالة الدعاية التي وفَّرتها الجائزة. أذكر، وهذا ما بقي راسخاً في ذهني، أن الياس خوري كتب مقالة صغيرة عن معنى نيل الجائزة مرتين على التوالي من قبل شاعرين لبنانيين جديدين، وكان سبقني يحيى جابر في العام السابق، ما يدل أن بيروت حتى في زمن الحرب لا تزال تحاول طرح شيئ جديد في الكتابة. بصراحة، وبشيئ من الابتذال، حمَّلني ذلك مسؤولية أن أصبح شاعراً “طليعياً”، مسؤولية أخذتها بكثير من الجدية. وبسببها ارتكبت أخطاءً في السلوك أو في الكلام. أصابني شيئ من الثقة، فتلقيت، مجازياً، بعض الصفعات لتأديبي. حصل ذلك كله سريعاً. وسريعاً طولبت بإنجاز ديوان آخر للتخلص من آثار الجائزة، مطالبة كانت أشبه باضطهاد، وهذا أفضل ما حصل لي، وأفضل ما تلقيته من قساوة أهل الثقافة في بيروت.
* دخولك إلى الصحافة جاء ضمن مغامرة مجلة “الناقد” مع الناشر المشاكس رياض نجيب الريس. ماذا أعطتك تلك التجربة، وكيف تراها الآن؟.
– دخولي إلى “الناقد” وضعني مباشرة بمواجهة أو بموازاة أنسي الحاج ونزار قباني ومحمد الماغوط… مع كامل الاحترام، مع حيتان وعمالقة الثقافة والشعر. حصل ذلك بخفة رائعة وبجرأة تُحسب لرياض الريس. هذا لا يحصل عادةً في المجتمعات العربية الخاضعة لتراتبيات قمعية، يُعطى فيها الاعتبار للقديم والمكرس، وازدراء ما هو مقبل وجديد، والتحفظ على أي مغامرة. مع “الناقد”، كانت فرصة نادرة لا يحصل عليها أي كاتب شاب. مع ذلك، لم تُسكِرني التجربة، لكنها كانت أشبه بدروس مكثفة لطفلٍ مدلل مع أبواب مشرَّعة، مع حق في التجريب دون رقابة. أنظر إلى التجربة الآن باعتبارها فرصة لشطح الشباب وحماسته. كانت المجلة تنشر ما هو جديد وتجريبي واستفزازي وجريء ونَضِر، وأحياناً متسرع ومتهور. هذه الخلطة كانت منعشة، واستقبلها القارئ العربي بإعجاب وتعجب. بكل الأحوال، ليس سهلاً أن تكون في أوائل العشرينات من عمرك، وتجد مقالتك إلى جانب مقالة صادق جلال العظم، مثلاً، وأن تتلقى المديح ذاته. المجلة أعطتنا سلطة مؤثرة في صورة الثقافة العربية وجرياتها إلى حد ما. الحصيلة لا تخلو من الأخطاء بطبيعة الحال، لكنها كانت دالة على حيوية الثقافة العربية في تلك المرحلة. إنها أخطاء من النوع الذي يرافق أي تجربة جدية ومجازفة. الآن، لا يوجد ما يماثل “الناقد”. هناك عالم لثقافة تقليدية ومنابرية، وهناك ثقافة جديدة بالكامل وفنون جديدة لها نشراتها الهامشية. الصلات بين ما هو مكرس وما هو جديد مقطوعة ألا عبر زواريب ضيقة وغير مرئية. هذا ما دفعني، وبشكل متعمد، في السنوات الأخيرة إلى العمل مع جمعية “أشكال ألوان”، كي لا أفقد صلتي بالشبان، وكي أبقى في مضمار الماراثون الراهن.
* أنت مصنف ضمن “جيل الحرب” في الشعر اللبناني. هل كانت هذه التسمية صحيحة؟ ماذا بقي منها؟
– هي تسمية صحيحة بغض النظر عن سوء فهم البعض الذي يستعملها على سبيل الشتيمة. ما بقي منها هو أثرها في كل تجارب الشبان الجدد اليوم. حسم الخيار نحو قصيدة النثر المتشظية والتي تشوبها الركاكة بالمعنى الايجابي للكلمة. أما شعراء الحرب أنفسهم… اختفى فادي أبو خليل، والباقون بين الاستراحة واليقظات الفجائية، وأنا منهم.
* الحرب هي مكون أساسي في تجربتك وتجربة جيلك. كيف تسرّبت الحرب إلى الشعر بتلك الطريقة التي كانت ملائمة لتأسيس نص؟
– كان طبيعياً أن يكون العنف الحربي، وبالتالي العنف الاجتماعي للغة اليومية بين البشر، مكوناً أساسياً في الكتابة، فأنا قضيت كل طفولتي ومراهقتي في الحرب. الحرب فرضت خرابها في الأبنية وفي تفتيت النسيج المجتمعي، في تخريب العمران بالمعني الخلدوني، في تشظية اللغة وتسفيلها، في قتل الأناقة والغنائية، في تهفيت ما هو سويّ وكسر التوازنات وخلق الاضطرابات النفسية… حتى جريان الزمن تحول إلى فوضى. الانتقالات العنيفة والقسرية… هذا كله نبَّهنا إلى أنه لم يعد في الإمكان الكتابة مثل أمين نخلة أو سعيد عقل أو حتى أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا. لم يعد في إمكاننا أن نكتب نصاً ينزّ منه العسل، ما عاد في إمكاننا أن نكتب الحب المليئ بالأزهار، فحتى الحب في الحرب يتحول إلى لعبة هجوم ودفاع ومتاريس غير مرئية وقنص متبادل، وإلى انقلابات وخيانات لا عدد لها، ويرتفع منسوب الفحش والجنس والقذارة … كل هذا انتهى بفشل مواصلة الإرث الشعري والأدبي السابق.. انتبهنا إلى أننا لا نستطيع أن نكتب إلا ما هو واقعي وحقيقي. كان اكتشافاً بسيطاً، وقد يبدو سهلاً، ولكنه كان بالغ الصعوبة. كنا ندرك مدى الرفض والإنكار والمكابرة التي ستواجهنا به الثقافة العربية والمحلية بمؤسساتها النقدية والإعلامية ودور نشرها ومنابرها ووسائط نقل شائعاتها وآرائها الشفوية…كنا ندرك أن ما نحن مقدمون عليه فاتن ومرفوض في آنٍ واحد.
* على أي حال، هذا واضح وبالتفصيل في معجمك الشعري. العنف موجود على مستوى المفردة والجملة والصورة.. هناك شيئ معدني داخل نبرتك… قصيدتك خالية من الغناء والطبيعة والعاطفة المفرطة. من أين يأتي هذا المزاج في الكتابة؟
– أنا ابن مدينة مشتعلة ومضطرمة بالمعادن والاسمنت والكائنات الفائرة والأحداث المتلاحقة … كل حدثٍ منها في بلد آخر يُؤسس عليها عهدٌ بكامله. ولدت في بيروت وقضيت حياتي كلها هنا. ما أذكره من طفولتي هو تسرّبي الدائم من المدرسة إلى السينما. منذ عمر الخامسة، كنت أتسلل إلى سينما “عازار” في منطقة سن الفيل. طفولتي في زواريب منطقة “النبعة” مع ألعاب الجنس والإطارات والبُوَر والسكاكين والزعران الأرمن ومعارك بالحجارة وأسطورة “غارو” واللصوص وسائقي الباصات العمومية. أبي، سائق التاكسي ثم شاحنات الترانزيت بين المرفأ والبلدان العربية، والذي يضع بجانبه عصا تشبه عصا البيسبول، وعلاقته بأفراد الشرطة الفاسدين. المقتل العنيف لأبي مطلع الحرب المزيّنة ببواريد السيمونوف الطويلة. مشاهد البلطات وأخبار المجازر وجموع المهجرين والجثث التي على الأرصفة. ثم انتقالي لأكون في قلب الحرب مقاتلاً مع مناضلين وحالمين وزعران وسفلة. هذا حصل بعد تهجيرنا مما كان يسمى ضواحي بيروت الشرقية إلى قلب العاصمة المترف والراقي والشديد الحداثة والكوسموبوليتية. في وجوه سكانها فتنة سينمائية كاملة، وأنا لم أعد متفرجاً عليها. تذوقت ساندويتش الهامبرغر عام 1977 بطعمه الهوليوودي. شعوري بأنه يجب أن أصبح جزءاً من المدينة. خجلي من سلاحي جعلني منساقاً دوماً إلى ما هو مديني وحديث ومهذب. كانت تفتتني تلك المقدرة على الخلق والابتكار في المدينة. كل ذلك كان يستلزم عنفاً وطاقة وجدا الطريق إلى الكتابة دون أي عوائق.
* ظهر هذا بشكل أكثر عنفاً وضرواة في كتابك النثري “نظر إلي ياسر عرفات وابتسم” الذي صدر ضمن أنشطة جمعية “أشكال ألوان”. ما الذي دفعك إلى رواية تجربتك كمقاتل خارج الشعر هذه المرة؟
– استعملت الشعر لكتابة سيرتي وتجربتي، إلى أن بدأ الشعر، بمعنى ما، يقول لي تبرّمه من قصصي وحكاياتي. بدأت القصيدة تفرض شروطاً جديدة علي. وبدأت تتململ من هذا الميل إلى سرد ماضيَّ الشخصي، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، كانت لدي رغبة في كتابة نص نثري، غير شعري وغير روائي وغير أدبي. كنت أبحث، بسبب علاقتي مع “أشكال ألوان”، عن ترجمة كتابية لاقتراحات الفنون الجديدة. كنت أفكر: كيف يمكن باللغة العربية أن أصنع فيديو مثلاً أو تجهيزاً أو برفورمانس أو مانشيت سياسي. تململ الشعر وفكرة كتابة التجربة، على دفتر أُحضر لي كهدية من هولندا، وبقلم رصاص، وتقريباً بدفقٍ واحد ومستمر، كتبت كل ما أحفظه في ذاكرتي عن سنوات وأحداث محددة من لحظة انخراطي الرسمي في الميليشيات إلى لحظة خروجي منها. لنقل أو أدّعي أني كنت متقصداً أن أكتب نصاً ضد الأدب، أو نصاً بلا أسلوب، وبلا انصياع للشروط المبهمة في الرواية على سبيل المثال.
كان الكتاب ضرورياً أيضاً كي أعود إلى الشعر خالي الوفاض. أمضيت بعد الكتاب أربع سنوات بدون جملة شعرية واحدة. منذ شهرين فقط،عدت إلى الكتابة، مجرِّباً كتابة قصيدة أكثر صلة بالحاضر وليس بالذاكرة.
* فيما نشرته من قصائد جديدة، ينتبه القارئ إلى محاولة لخلق “شرعية” مقترحة لتوريط الشعر في السياسة مجددا، وبشروط مختلفة، وخصوصاً السياسة بمعناها اللبناني الراهن.
– على خطورة محاولة كهذه، يمكن القول إن القصيدة اللبنانية الطليعية منذ السبعينات بدأت بتنظيف نفسها من الثوريات والرومانسيات والإيديولوجيات والغنائية الجاهزة والخطابية … وذهبت في هذا التصنيف ضد البلاغة وضد الصوت العالي والنبرة الصارخة والمتفجعة، ووصلت في ذلك حدّ التسامي إلى البياض. ثم بدأت محاولات لصنع غنائية معاكسة. وأنا كنت أعتبر نفسي إلى جوارها. ثم انفتحت القصيدة بالتدريج على نثر الحياة اليومية وعلى العاديات، وانفتحت بالمعنى الأسلوبي على السرد والبوح. عادت القصيدة تتنفس وتصبح مشرعة. لذلك، لم آتِ بجديد إذا أنت لاحظت ميلاً إلى قولٍ سياسي. لكن، ومن دروس الماضي الشعري، كنت مهجوساً بأن أجد التوازن بين مسؤولية الشعر بالحس التاريخي، وبصدق العلاقة مع الواقع ومع الذاكرة العامة ومع إيقاع المجتمع ومع المزاج النفسي، وفي نهاية المطاف، مع الوعي السياسي الذي هو شرط للمثقف والكاتب. كان علي أن أجد النبرة التي تعطي المناعة للقصيدة، وفي الوقت نفسهن تبوح بمكنونها السياسي دون ابتذال. إزاء ذلك، كان في بيروت اقتراحات لهذه المعضلة. أذكر الآن أن ما حاوله، مثلاً، محمد علي شمس الدين، وما كتبه عباس بيضون ويحيى جابر .. وأخرون. وجدت نفسي أدفع بعيداً هذه الاقتراحات وأساجلها ضمنياً. بهذا السجال أو الحوار الداخلي، مع شيئ من الإخلاص لتجاربي الشعرية نفسها، توصلتُ إلى معادلة مقترحة لهذه القصائد الجديدة. لا أدري مدى نجاحها، لكن ما يهمني، بغض النظر عن معنى العبارة السياسية وإيحاءاتها، هو الصيغة الشعرية لهذه العبارات. شرط القصيدة، وسوية إنجازها الجمالي، هذا هو المهم. فلنخُضْ هذه المغامرة. في رأيي، قسراً أو طوعاً، من الصعب الفرار من واقعنا اليومي، وإلا سنكتب قصيدة تقع في مطب آخر هو الاغتراب. وتجارب الأدب الذي يفارق ويغترب، نعرف مدى بؤسها الذي هو بقدر بؤس القصائد السياسية الدعوية والمناسباتية. أظن أن سؤالك سيكون في وقت قريب جداً محور سجال أدبي في بيروت، فنحن نجد هذا الآن في سؤال المسرح. وفي سؤال الفنون التعبيرية كلها. الأهم في رأيي أن هناك تبدلاً جوهرياً في كلمة “سياسة”. هناك وعي آخر للكلمة في قصيدة اليوم مقارنة بالسبعينات. السياسة اليوم مشاريع وأفكار فردية ومتحولة ومزاجية. ووجودها في قصيدة بديهي كوجود أي مشهد أو تفصيل مديني آخر.
جريدة الراي