صفحات الحوار

مقابلة مصورة تنشر للمرة الأولى: جوزف سماحة يتحدث عن سمير قصير

null
مي اليان رزق
اغتيل سمير قصير في 2 حزيران 2005 (بيروت). رحل جوزف سماحة 25 شباط 2007 (لندن). صديقان واستمرا كذلك رغم تباين وجهات نظرهما السياسية في مراحل معينة لأنهما اتفقا دوماً على مختلف القضايا الإنسانية. صديقان صحافيان رحلا تاركين بصمة عميقة في الصحافة اللبنانية… وأكثر. يحملان معرفة “بانورامية” قادرة على أن “تترجم نفسها الى أمور مجددة في مجال الثقافة والصحافة اليومية أو الأسبوعية”. يبنيان من خلال مقالاتهما وجهات نظر ورأياً عاماً. رجلان همّهما الحرفة الصحافية ومستقبلها في العالم العربي. كل منهما حلم بجريدة تشبهه.
اليوم، رغم غياب كاتبي الافتتاحية في ابرز جريدتين في لبنان، “النهار” و”السفير”، لا يزال يشعر قارئهما ان النقاش بينهما لم ينتهِ عند هذا المفصل. يخالهما يجلسان على اجمل غيمة يرتشفان القهوة العربية ويدخنان الكثير من السجائر. وربما يلتقط اطراف حديث يدور بينهما يفاتح فيه سمير جوزف: ماذا سألوك في فرنسا عن جريمة اغتيالي؟ يجيبه: لم يكونوا جديين بما فيه الكفاية. طرحوا علي
أسئلة “تافهة”، برأيي لا تساهم في فكّ “لغز” مقتلك…
وقبل ان يتوقف قلب جوزف سماحة، ليغرق مع سمير قصير في نقاش أبدي، كان لي فرصة لقائه بعد أشهر على اغتيال قصير. اتصلت به طالبة منه مقابلة تحضيراً لفيلم وثائقي كنت اساهم في اعداده لمناسبة الذكرى الاولى لجريمة إغتيال قصير. أجابني: “لا يمكنني أن ارفض. إتصلي بي بعد عودتي من السفر”. وهكذا كان. التقيناه في مكتبه الموقت في وسط البلد، كان يتم فيه التحضير لإصدار جريدة “الاخبار” التي أسسها سماحة قبل أن تنتقل الى مبنى الكونكورد في الحمرا. قال حينها إنه لا تغيب لحظة عن باله المناكفات التي كانت تجري بينه وبين سمير.
اربع سنوات تمرّ على اغتيال سمير قصير ووفاء له وللصداقة التي جمعت بين الشخصين أنشر هذه الوثيقة، واليوم بالذات، بسبب وجودي خلال العامين المنصرمين خارج لبنان.
في هذه المقابلة يجيب سماحة على اسئلة هدفت الى اعطاء فكرة عن قصير وعن “بروفيل” المُخطط لإغتياله. ننشرها كما وردت.
كانت المرة الأخيرة التي رأيت فيها الصحافي جوزف سماحة، وربما كان الحوار الاخير له “صوت وصورة” عن سمير قصير. وفي هذا اللقاء شعرت بالفعل بصوته يأتيني من تلك “الزاوية في قلبه” التي قال انها “انطفأت”، في افتتاحيته بجريدة “السفير” غداة اغتيال صديقه…
هنا نص اللقاء المسجل بعد حذف جزئي إقتضاه ضيق المساحة وقد أبقيته بلغته التي كانت مزيجاً من الفصحى والعامية… وللأمانة اقول: يا ليتني سألته أكثر.
• متى التقيتما؟
– في المراحل الأولى التي رأيته فيها كان لا يزال شاباً في أول طلعته في بيت كمال كريم القصار الذي كان يقطن حينها في المصيطبه. كان سمير يتردد كثيراً على البيت وكان ينظر بإعجاب وبمحبة كبيرة لكمال. وبمعنى ما ظلّ هذا الإسم يرافقه وهو ينظر اليه بصفته نموذجاً يحب تقليده بالسلوكات الاجتماعية، يعني لجهة الاستفزاز المحبب ولجهة “السخرية السوداء” humour noir والـsarcasme، “المزح الثقيل” الخاص بكمال كريم. وهذا إسم رافقه لمرحلة، ولسمير كان يعني بدايات أو أشكال أو سلوكات الطفل المعجزة. وكان ذلك ظاهراً عليه بشكل جليّ وقتها. بعدها إختفى من أمام نظرنا ورحنا نعمل في السياسة وكان ذلك أثناء الحرب. الى أن عدنا فإلتقينا في باريس حيث ذهب هو ليكمل دراسته. وقد تركت أنا بيروت في العام 1984 وانتقلت الى باريس. وهناك في البدايات لعبت دوراً في تأسيس مجلة “اليوم السابع” وكان من أوائل الناس الذين اتصلت بهم لأرى إن كان يرغب في الإنضمام فأبدى إستعداداً، علماً أن كتابته بالعربية وقتها كانت “مش ولا بدّ”، وإنما إشتغل على نفسه كثيراً ليطوّر كتابته باللغة العربية.

• اذا اردنا أن نعرّف بسمير قصير لجمهور لا يعرفه. كيف تعرّف به؟
– هناك مستويات عديدة للتعريف عن أي شخص. أولاً هناك المستوى الشخصي المباشر. سمير كان شخصاً مسروراً بنفسه، كم كان حلوا. كانت لديه رغبات دائمة للإغراء. كان متنبهاً الى أنه ذكي وملعون ومن الممكن أن يكون محبوباً. كان شجاعاً، حدّ التهور. يذهب بأفكاره الى النهاية. أتصور أنه من القلائل الذين يعرفهم المرء في الصحافة بإمكانه أن يجمع بين عمل صحافي مباشر وبين ذخيرة ثقافية لها علاقة بالتاريخ، بالمعرفة، بالثقافة بمعناها الواسع، بالسينما، بالموسيقى بالأدب…الخ. هناك معرفة بانورامية وقادرة أن تترجم نفسها بلمسات خاصة من هذا النطاق للتحول الى أمور مجددة في مجال الثقافة وفي المجال الصحافي سواء اليومي أو الأسبوعي أو الشهري. هذا التعريف يبقى ناقصاً من دون أن نقول إنه شخص كان لديه قناعات حقيقية. يعني من المعيب أن نقول عن شخص دفع حياته ثمناً أنه كانت عنده قناعات حقيقية لكن يجب أن تقال. ما من دليل أكبر من أن لديه قناعات غير الذي جرى معه. إذ “ذهب حتى النهاية في قناعاته”. كانت لديه قناعات حقيقية. ولاءات فعلية. بقي من يساريته حس عالٍ بالعدالة. وهذا الأمر كان يجعله – معطوفاً على علاقاته الفلسطينية وشعوره الملتبس والغامض بأنه ذو أصل فلسطيني – يضعه في موقع العصبية للعدالة للقضية الفلسطينية بطريقة كانت واضحة. ثم بحكم جو باريس والأشخاص الذين عمل معهم هناك كفاروق مردم. وربما أنا كذلك ومن دون إدعاء، (لعبت دوراً) نوعا ما، توسّع لأبعد من هذه الثنائية اللبنانية – الفلسطينية. مع فاروق مردم بات لها البعد السوري خاصة. علماً ان سمير لديه أصول سورية أيضاً. وفي العلاقة معي وفي النقاشات التي كنّا نخوضها كنّا نتحدث كثيراً عن مصر وعن المغرب والجزائر حيث الجو في فرنسا يسمح بذلك. فيحاول المرء ان يوسّع افقه ويرى العالم العربي كله بسيئاته وحسناته بإحباطاته وإنجازاته. ويتمكن أن يضع سواء لبنانيته أو فلسطينيته في هذه السياقات العربية الأعم. وحكماً كونه يعيش في بلد أوروبي بسياقات إنسانية أوسع.
دفع حياته ثمن قناعاته!
• قلت إنه “من المعيب القول: إنه دفع ثمن ولاءاته”. هل من الممكن ان توضح هذه النقطة أكثر.
– ليس من مبرر لجملة تقال عن شخص دفع حياته ثمناً فهذه الجملة نافية. جملة ليس لها مبرر لأن تقال. يعني شديد الولاء لقناعاته. من الممكن أن تقال عن شخص لا يزال حيّاً، تقال أقل بكثير عن شخص صودف أن ولاءاته وقناعاته تساعده ليترقى في السلم الاجتماعي ليصبح مليونيراً. ولكن القول بأن سمير دفع حياته ثمناً، يعني بالتالي إنتفى النقاش بأنه الى أي مدى. هو أنهى النقاش. فما معنى هذه العبارة: أنه هو “حبّ يموت”. لأن كثراً تحدثوا بهذا المنحى. ولكن عندما يحكى عن أن سمير دفع حياته ثمناً لمواقفه. الكلمة يلزمها تدقيق. هو لم يكن يريد أن يموت. هو كان يريد أن يعيش. وكان يحب أكثر بكثير أن يرى أفكاره تربح. من الممكن أن أختلف أو أتّفق مع قسم منها ولكن احياناً تقديم الصورة أنه دفع حياته، كأن فيها جزئياً تبرئة للقاتل، فيها جزئياً تحميله مسؤولية موته انه هو دفع حياته ثمناً لمواقفه. وفيها فرضية غامضة وكأنه يرى الموت ويركض نحوه. هو كان يرى الحياة ويركض نحوها. ربما كان أهمل حمايته الشخصية لأنه إعتقد ورأى بأن افكاره تربح، بالتالي لم يكن ذاهباً نحو الموت إنما كان متجها نحو الإنتصار. كان متجهاً نحو الربح، نحو رؤية أفكاره تتحقق. وبالتالي فإن القول: أنه دفع حياته ثمناً لموته جملة غير دقيقة وظالمة وخطيرة نوعاً ما.
• لماذا اغتيل سمير قصير برأيك، شرحت ذلك في مقالاتك ولكننا نرغب في سماع ذلك مسجلاً وبالصورة.
– أحياناً بسمير وبآخرين في لبنان يحاول المرء إجراء تمرين لرسم بورتريه أو بروفيل للقاتل أو لأكثر من قاتل انطلاقاً من الضحايا. أتصور أن الذي إغتال سمير، الذي فكّر أن يقتله، (ممكن التحقيق يتقدم أو لا يتقدم لا نعلم وانشاء الله يقدر يوصل بالضبط للحقيقة) أنا أعتقد أن الذي إغتال سمير كائنا من كان، شخص وهنا سأحاول تزيين كلامي كي لا يفهم بشكل خاطىء، شخص لديه حساسية ثقافية ما، أي شخص يعلم أن الثقافة أو الكتابة أو الصحافة ممكن أن تكون مؤذية. لنفترض الذي قتله ضابط مخابرات أو مسؤول بجهاز أو الخ. ليس من ضباط المخابرات الذين يصورون دائما في الصحافة أو الادب العربي أنهم جاهلون وأميّون وأغبياء. ضابط مخابرات يقرأ نهاراً واحداً في الاسبوع مقالاً واحداً أو يرى إطلالة على التلفزيون مرة كل مدة طويلة ويعتبر أن هذا سبباً كافياً للتخلص من هذا الشخص. هذا ضابط أعتقد بطريقة جداً ملتوية وجداً جهنمية وشيطانية يقول أن لديه تقديراً للصحافة. يعني بفعل قتل سمير لديه تقدير طبعاً لسمير وتقدير كثير للصحافة والا المطلع نوعاً ما على عمل المخابرات في العالم أو الأشخاص التي من الممكن أن تُغتال. لا يفكرون للوهلة الأولى بصحافيين. الذي يفكر بسمير ثم بمعنى ما بجبران وأكثر بمي (شدياق)… كتبت مرة عن مي ان سمير كان جزءاً من صناعة رأي عام. سمير كانت لديه إجابات في السياسة على أي سؤال تطرحينه. مي كان عندها أجوبة جزئية. كانت وظيفتها طرح الأسئلة. يعني ليصل المرء الى حدّ تحريم طرح الاسئلة معناه، وأنا اقول القاتل لا أعرف من هو، ولكن اقول لديه حساسية خاصة حيال الإعلام والصحافة والثقافة. من أجل ذلك قتل سمير، قتل لأنه هناك من قرر أن هذه امور مهمة؟
وأن الأمن لا يقتل أمناً فقط، إنما يقتل من يضايقه أكثر. في السياق الذي قتل فيه والظروف التي قتل فيها… أعتقد كان من الممكن وضع لائحة بالمتضررين من الذي كان يقوم به سمير لنتمكن تقريباً من الوصول الى الجهة التي رغبت في التخلص من هذا النوع من الكلام. من هذا النوع الذي لديه جهد مستمر ليربط قضايا المنطقة ببعضها ويعتبر إن الذي حدث في لبنان يجب أن يؤثر في فلسطين ومن فلسطين سيؤثر في سوريا ومن سوريا سيؤثر في لبنان. هناك من يفكفك هذه الحلقات ليقول: هذا شيء ممنوع!
صحافي أم سياسي؟
• هل أنت مع الرأي القائل بأن سمير قتل لأنه صحافي أم لأنه سياسي أو الاثنان معاً أو أي شيء آخر؟
– أولاً كلمة صحافي تحمل أوجهاً عدة. هناك الصحافي الذي يقوم بتحقيق محايد في الصحافة والذي يكتب تعليقاً. وهناك الصحافي الذي يحاول من تعليق خلف تعليق خلف تعليق أن يبني منظوراً ما وفي الوقت عينه مرتبط بشكل عضوي بحركة سياسية الخ. وللامانة إن سمير كان بموقع ملتبس يعني بين كونه صحافياً يكتب تعليقا، وبين كونه وتعليقاته تبني وجهة نظر معينة موصولة عضوياً بحركة موجودة بالشارع. هذا موقع يمكننا القول أن فيه قدراً من الالتباس. ليس صحافياً بحتاً وليس بسياسي خالص مات بصفته يلعب دوراً بإطار تنظيمي أو بمكان حزبي. لا، مات في هذا الموقع الملتبس يعني فيه إمتزاج للسياسة للصحافة بصانع الرأي العام بالمشارك من موقع معين بصناعة حدث وإعطائه روح ومعنى. هو موقع غير قابل للإختزال أو علينا أن نقول أن هناك أمراً ملتبساً في الموضوع.
• يعني بموضوعية وتجرد، الى أي مدى تجد أن سمير هو الصحافي الذي تمكن من تغيير شيء ما؟
– طبعاً بتجرد. أنا قليل التقدير لدور الصحافيين كأفراد يقومون بالتغيير. لاحظت بعد استشهاد سمير محاولة لتكبير الدور الذي لعبه في توجيه الأحداث. لست من هذا الرأي. إن الأحداث التي حصلت، للأسف لها قواها، لها زعاماتها، لها قياداتها. والدليل المحزن على هذا الشيء من يقول ان سمير لعب دوراً حاسماً في حركة 14 آذار،
فهل بإمكانه أن يفسر لنا لماذا كانوا فقط بالمئات في تشييعه؟ لماذا؟
سمير سلّح 14 آذار بوعي معيّن، ولكن لم يضعهم في هذا الموقع. صانعو الأحداث الكبرى في لبنان ليسوا الصحافيين ولا المثقفين. هم عملياً السياسيون وزعماء الطوائف في لبنان حتى إشعار آخر. سمير ثبّت ناس في مواقعهم. ساجل ضدّ أشخاص وسلّح فئات بوعي معيّن بالنسبة لما يحدث فيها. عبّأ أشخاصاً لكن حدود دوره هي الحدود التي ترسمها بالعادة أدوار مساهمات هذا النوع من المثقفين الصحفيين المسيسين بصناعة أحداث بحجم التي عاشها لبنان. ليست صدفة بهذا المعنى إن يكون سمير من أوائل الذين أشاروا الى أن هناك مشكلة في 14 آذار ودعا للعودة الى الشارع. وأول من دعا الى إنتفاضة ضمن الإنتفاضة. لأنه يعلم أن لديه قدرة على التأثير محدودة. وأن السياق الفعلي للاحداث ليس في يده. مما يعني أن السياق الفعلي للأحداث له قوى وكتل بشرية تحركها زعامات سياسية وطائفية في لبنان.
بالتأكيد، في حركة 14 آذار كان هناك قطاع من المواطنين كانوا يكتشفون العمل العام للمرة لأولى. أي تحركوا للمرة الأولى ولم يأتوا لأن فلاناً طلب منهم أو لأنهم هم ينتمون لهذه الطائفة. أتوا ليقولوا شيئاً آخراً. هؤلاء كان من الممكن أن يحصل بينهم وبين ما يقولونه ويفكر فيه سمير قصير قدر من التماهي. إنما هذا كان يلزمه وقت أكثر. كان يلزمه عمل تنظيمي أكثر. عمل شعبي أكثر كان يلزمه توليد أشكال من العمل المشترك ومن التنظيم والخ. يلزمه وقت. هذه الكتلة البشرية التي ليست بالقوات اللبنانية وليست بتيار المستقبل وليست بالحزب الاشتراكي وليست كذا، أي كتلة بشرية عائمة، شعرت بقدر ما من المواطنية ولاح لها انطباع بأنها ستذهب الى مكان آخر وستصنع بلداُ وتصنع وطناً. وهوية. تتخلص من كل مشاكلها. ستستيقظ لتجد لبنان مختلفاً. هؤلاء من المؤكد كانوا كتلة كبيرة كتلة جدّية ب14 آذار. أنا برأيي هؤلاء إنخدعوا. سمير بمعنى ما كان من المخدوعين وأول من نبّه الى انه، يا إخوان إنتبهوا هناك خديعة، “ليش عم بيصير هيك؟”.
إنما أعتقد وهنا سأظلمه نوعا ما، عاد وقبل. يعني توهّم أن فلاناً وفلاناً وفلاناً وهي القوى الطائفية إذا التقت الى جانب بعضها البعض تتوحد، وليس بأنها ملتقية الى جانب بعضها ومن الممكن أن تتفرق فيما بعد. أعطاهم فرصة ب14 آذار ثم إنتقدهم ثم بيّن أنه مستعد لإعطائهم فرصة ثانية. في حين كان بإمكانه بمزيج من ثقافته التاريخية وذكائه ومعرفته الشخصية بقسم كبير منهم كان بإمكانه أن يقول إنه: ولو كان علينا أن نبقى في الاطار العام لحركة 14 آذار، علينا أن نطوّر حيالهم ثقافة نقدية قاسية، لأن هؤلاء لا يُتركوا ولا يُؤمن لهم كثيراً.
الدور الذي وضع سمير “رجله فيه”، بدأ لكنه لم يكمله. عاد وأظهر أنه مستعد لإعطائهم فرصة ثانية، وأنا رأيي عملياً هذه هي المعضلة الجوهرية لما يسمّى “اليسار الديموقراطي”. هم يريدون أن يكونوا ب14 آذار وهذا موضوع نقاش يمكننا أن نناقش فيه بالقدر الذي نريد. ولكن، أن يكونوا “النعجة السوداء” في هذا القطيع، “المهماز”، الضمير الفعلي الذي يفضح كل خطأ يرتكب، هذا خيار تاريخي. وأن يبقوا محافظين على مسافة وعلى وعي نقدي وعلى الأمانة للمواطنين الذين نزلوا بهذه العفوية والذي كانوا يريدون صوتاً يعبّر عن رأيهم غير طائفي وليس ذي حسابات ضيقة، لا يجري وراء مصالح صغيرة والخ أم لا. هنا برأيي أزمة “اليسار الديموقراطي” الفعلية. ربما أختلف معه لاختياره هذا الموقع، إنما وقد إختاره فقد كان عليه أن يقوم بممارسة جد مختلفة. فسمير حاول قبلهم القيام بهذه الممارسة المختلفة. ولكن كان يبيّن – ربما لحداثة عهده بالعمل السياسي المباشر – أنه من الممكن أن يقبل وينغش من القوى عينها. فكان ينتقدهم ولكن عندما يقومون بأمر يريده هو، يعود فيسامحهم ويرمي بعض أفكاره الورديّة والإيجابية والجميلة على قوى حساباتها مختلفة عن حساباته.
صحبة ومناكفات
• نقل إليّ أنك قلت إنك خسرت منافساً لك بالفكر، لا أعرف الى اي مدى هذا دقيق. على ماذا كنتما تختلفان؟
– قلت أني خسرت المختلف المحبب. المختلف المشاكس المختلف الذي احياناً كنت إذا كتبت عن أمر ما يبعث لي عبر البريد الالكتروني: متى ستتوقف عن الكتابة ولماذا تفعل؟ “حلّ عنّا”…الخ. وإن هو كتب شيئاً ما ممكن أتصل به وأقول: “عم تخبّص أو بلاهن هيدول”. أو عندما نلتقي وبعد أول ثلاث جمل مجاملات يبدأ الخلاف والتباين. قضّى آخر مدّة يحاول إقناعي أن جمال عبد الناصر مات مثلاً “ولك يا عمّي يا خيي خلص مات، طلاع أنت من الموضوع. حاجة عايش بهذه الأوهام” الخ. وأنا أحاول اقناعه بأمور هو مقتنع بعكسها. فكان حتى أعتقد قبل الحادثة بأسبوع أو عشرة ايام، إلتقينا عند بيت اصدقاء كنا كثراً، وبعد خمس أو ثلاث دقائق بدأ الاشتباك. هو إشتباك محبب. كنا اختلفنا في الأحداث الأخيرة حول مجموعة قضايا منها: هل اللبنانيين توحدوا أم لم يتوحّدوا؟ أنا كنت اقول لا. وهو كان يقول بلى. هو كان يرى أن الميل التوحيدي اقوى من أي شيء ثانٍ. ربما ما سأقوله سيبيّن أن كل شيء يظهر أني كنت مصيباً. ليس ذلك ما أقصده ولكن لا أنكره. ما أذكره أني كنت أقول أنه لا يمكن النظر الى الأزمة اللبنانية خارج سياقات إقليمية ودولية. هو كان يبيّن بأنه ليس لديه مانع أن يراها حصراً لوحدها. انا كنت أقول أن موازين القوى الفعلية في لبنان غير ما تبدو عليه. يعني أنا مثلاً كنت أقول: نخطىء إذا قلنا 14 آذار هي كل لبنان الموحّد وما في شيء آخر. أولاً لأنه في 8 آذار وثم 14 آذار. وأنا برأيي لقاء مجموعة روافد تقاطعت بلحظة معينة بسهولة فيها كل واحدة ترجع لمنبعها الاصلي، ويبقى في الساحة قلائل. وأنه بالتالي يلزم هذه المجموعة وعي ثانٍ لأوضاع لبنان وأزمة لبنان والصراعات الموجودة.
كنا نتناقش كثيراً حول الموضوع الفلسطيني فإختلفنا مثلاً وقت “أوسلو”. هو كان متحمساً لـ”أوسلو” وأنا كنت غير متحمس له، لا بل ميال للنقد حيال الذي حصل في مراحل لاحقة. حاول هو وكثر أن يبدلوا رأيي في هذه مسألة. وان دققنا في الكتابات لفئة معينة من المثقفين اللبنانيين منهم سمير ومنهم الياس خوري يمكن سيكتشف بأنه هناك إنعطافة جديدة صارت بالكتابة عن موضوع لبنان وسوريا. هنا تظهر الدقة والتعقيد. هناك انعطافة حصلت بعد حصار ياسر عرفات في المقاطعة. اذا أردت أن تسأليني لماذا؟ هذه شرحها طويل يعني أنا في مكان ما قلت (في مقال ثان لسمير) جاء لنوع من الوطنية اللبنانية المناهضة للنفوذ السوري في لبنان وليس لاسباب عنصرية، لاسباب سياسية وإنطلاقاً من الدفاع السابق عن الكيانية الفلسطينية ضدّ السوريين. هناك وعي ما تأسس اثناء الدخول السوري بال76 ثم تأسس أثناء حرب المخيمات في الثمانيات وبعدها خلال الخلاف حول أوسلو ضدّ السياسات السورية. إنما بمرحلة ما هذا الوعي بيّن في لبنان أنه محاصر ومكبوت ومضروب. حصار ياسر عرفات في المقاطعة أعطى لهذا التيار عنفواناً: انتم الذين قلتم عنه أنه خائن وباع وعمل أوسلو وكذا… الخ اترون كيف هو صامد… الخ. هذا العنفوان الذي إستمد من الموقف الفلسطيني خلال الحصار على ياسر عرفات أعيد تدويره وتوظيفه بشكل آخر بموقف متشدد لبنانياً ضدّ السوريين. ومن يعود ويدقق بهذا النوع من الكتابات يكتشف ذلك. ويكتشف ذلك في العريضة التي وضعت وقت حصار عرفات التي عملها سمير وبلال خبيز…والخ وأتوا لعندي لأوقعها. من يقرأ العريضة برأيي يعتقد أن سوريا هي التي تحاصر عرفات وليس إسرائيل. لم تتضمن شيئاً ضد اسرائيل. ذكر أن عرفات محاصر وأن كلّ السوريين وجماعتهم والذين إعتبروه متخاذلاً فليسكتوا دون أن يرد شيء عن محاصرة إسرائيل لعرفات. وهذا موضوع دقيق إذ جاء في وقت كان الإنسحاب الاسرائيلي قد تم، وبدأت تصدر دعوات للإنسحاب السوري. أتت في وقت استمدّ مثقفون من قرار 14 آذار من العنفوان الفلسطيني أو من المواجهة الفلسطينية العرفاتية ضدّ إسرائيل، إستمدوا منه ذخيرة لتعزيز موقف وطني لبناني معقّد جداً ضد الهيمنة السورية.
• ما رأيك بكتبه؟
– كتاب “بيروت” يحتوي بحثاً جماً. كتاب “حروب لبنان” كان مشروعاً لكتاب مشترك معه عن الحرب اللبنانية حيث جلسنا لساعات نسجل ما هي الحقبات الرئيسية. ثم قال لا نريده كتاب يحتوي وجهة نظر سأكمله وحدي لنجعله كتاباً علمياً. وكتبه وكان برأيي كتاباً مفيدة قراءته اليوم وفي أي وقت. لفهم أعمق لأصول التيارات السياسية الموجودة اليوم في لبنان. أساسي لكل من يحاول أن يفهم هذه التيارات بالعودة لتاريخها. وهناك الكتاب الجدي الذي كتبه مع فاروق مردم Itinairaires Paris Jerusalem كتاب استثنائي.
وسط المطاردات
• نود أن نعرف عن المطاردات متى بدأت ولماذا لجأ اليك وكل هذه المعطيات؟
– المطاردات بدأت قبل بضعة أيام من قصة الباسبور، كنت جالساً في البيت إتصل بي وقال: “أنا ذاهب الى المطار ولكن ثمة سيارة تطاردني”. فأتى الى أمام منزلي فنزلت. وبالفعل أرى سيارة داخلها مدنيين متوقفة خلف سيارته. صعدت معه الى المطار. نزلوا خلفنا ولاحقونا كيفما نمشي يمشون وراءنا. جلسنا لنشرب القهوة جلسوا قربنا. وصلّناه. وحين إجتاز نقطة التفتيش. عدنا وتركونا. إتصل بي من الأردن وقال لي تعال خذني من المطار. ذهبت لآتي به من المطار أنا وصديق. خرج ستيفان ديمستورا، الذي كان مندوباً لكوفي أنان وسألني: أنت إسمك جوزف سماحة؟ أجبته ايجاباً. قال سمير في الداخل وأخذوا منه جواز سفره. وبعد عشر دقائق خرج سمير غاضباً يحمل شنطة ملابسه في يده. كانت صغيرة لأن مؤتمر قمة عمان كان لثلاثة أيام. خرج وهو يشتم. أوصلناه في السيارة الى بيته. ومن بعد ذلك أتى وإستقر لفترة عندي في البيت أو كان يتردد أحياناً. أما لماذا أتى؟ فلخليط من الأسباب. أولاً، صديق. ثانياً، من الممكن أنه إعتبر أن كوني لست تماماً أنا وإياه في الجهة عينها ربما هذا يعني هناك نسبة أكثر من الضمانات. ثم للصحبة في ما بيننا، وهي صحبة فعلية.
وشهدت أنا فصولاً من المطاردة التي كان يتعرض اليها والتي كانت فعلاً استفزازية بطريقة رهيبة، وكانت وقحة. وكانت فيها محاولة إرهاب. لا أعتقد كان هناك نيّة الأذى لكن بالتأكيد كان هناك نية خلق جوّ يستدرج ردة فعل خاطئة تتحول لأذى. ولا مرة كان هناك من يودّ ان يهجم ليضربه أو يقتله ولكن كان هناك نوع من التضييق الذي اذا أخطأ في ردة فعله، يتحول لشيء مؤذٍ. وكانت وتيرة هذه الملاحقات تصعد وتهبط. وكان التلاعب فيها بcynisme فظيع. فأحياناً يكونون اثنين ومرات عشرة أو سبعة أو ثمانية. فأحياناً يجلس في قهوة يجلسون بعيداً وأحياناً أخرى يجلسون على طاولة ملاصقة الى جانبه. أحياناً كانوا يتعمدون ما يشبه التحرش الجسدي. مرة إتصل بي يريد أن يأتي لعندي، ولديه مفتاح البيت. قلت له: “طيّب، أنا في البيت إصعد”، قال: “لا، إنزل”. فنزلت. فتحت الباب ووقفت تحت. يعني أسفل مبنى بيتي زاروب صغير فما أن وصلت السيارة وتوقفت ليترجل منها ويودّ الدخول، نتحدث هنا عن مترين ونصف ونحن الثلاثة، “كانوا” باتوا فعلاً ملاصقين للباب. ضرب كتفي بكتف أحدهم. كانت الأمور ضاغطة كثيراً.
الآن من كان وراء ذلك؟ مدنيون. أما الإشتباك المعلن فهو إشتباك بينه وبين جميل السيّد بالأمن العام. ويمكن بسهولة أن يقول المرء أن هؤلاء هم عناصر من الأمن العام. وإن كان لم يتبيّن لاحقاً إنهم هم. هل هم تابعون فعلاً لجهاز الأمن العام أم لا؟ أو لجهاز جهاز ثان في الدولة لسنا على علم به؟ ولكن وقتها حصلت هذه المطاردات، في ظلّ المشكلة التي حصلت بينه وبين جميل السيّد وبعد ما كتبه حول: الأمن العام والأمن الخاص وبعد أن إتصل به الأخير في هذا الخصوص.
• متى توقفت المطاردات؟
– يسمح القانون اللبناني للأمن العام بأن يستعيد جواز سفر باسبور ليدرسه ويعيده لصاحبه. وحين إنتهت المدة المسموح بها لدرس الجواز إستعاده. مما يعني أنه في الشكل لم يجر خرق للقانون، أما في الممارسة فهناك إستهانة كاملة بالقانون وبحقوق البشر.
من بعد ذلك أعتقد أنهم غيّروا طبيعة الملاحقات. وعندما صارت الحادثة (المطاردات) وقتها بعث وليد جنبلاط بالشاب الذي كان يقود سيارته في المدة الأخيرة لمرافقته. كما كان ميشال معوض قد أمّن له شخصاً ليرافقه في وقت سابق. حصل شيء من إهتمام ولكن لم تثار فيها القصة بطريقة تردع هذه المطاردة. أنا اقول أن كثراً تركوه في وقتها لسمير. كثر تركوه في وقتها.
• هناك من قال أنه بعد اغتيال سمير قصير علا سقف الحرية وآخرون رأوا أن هناك ضجيجاً كثيراً ماذا لمست في المشهد الإعلامي؟
– في رأيي سقف الحرية قبل ما حلّ بسمير و14 آذار، كان سقف الحرية معقولاً في لبنان. في الكلام عن الممارسات السورية في لبنان لم يحصل تغيير كبير، أو الكلام عن النظام اللبناني والأمن والقمع لم يحصل تغير يذكر.
• هل من حادثة معينة تتكرر بعد سنة على غيابه…
– قلت لك الجملة التي كانت مفتاح حديثه معي الدائم. “جوزف جوزف عبد الناصر مات”. كانت مفتاح تقديره بأني أفكر بشكل خاطئ. وإنني لا زلت غير مدرك بأن هذا الشيء قد حصل، فكان عليه في كل مرة تذكيري إنه مات “الله يرحمه”.
• بالنسبة لمستقبل الصحافة في العالم العربي. الى أين نتجه حالياً: الى صحافة تحليلات وكتّاب رأي؟ ومن يحميهم؟
– أكثر وأكثر يجب أن تذهب الصحافة في إتجاه التحليلات وكتابات الرأي. اذا لم تذهب في هذا الإتجاه ستموت. لا نقلل من أهمية ما يجري في العالم العربي. لقد عدت منذ ايام من مصر. ويمكنني أن أريك نماذجاً عن الصحافة المصرية، تظهر الصحافة اللبنانية خاضعة أكثر للرقابة. في كل المواضيع التي تريدينها، السياسية: بالكلام عن مبارك وبالحديث عن الدولة وعن النظام والحكومة والحزب الحاكم، لم يعد هناك من سقف. مظبوط أحياناً أن السقف يُخرق بإبتذال، ولكن يُخرق في أكثر من مكان. هناك صحافة في المغرب ونوعا ما في تونس، أقل منه في سوريا حيث لا يوجد شيء. في العراق هناك كل شيء. في الأردن هناك أمر مضبوط. يعني لم يعد مثل ما كان قبل سبع أوعشر سنوات هناك يد ممسكة بكل شيء وضابطة له. الصحافة اللبنانية مختلفة نوعاً ما عن كل ذلك. أما عن الضمانات فتوازنات المجتمع هي التي تصنع ضمانات الحريات بصورة عامة. أما بالنسبة للضمانات للأفراد ربما تبيّن أن هناك كثيرين في لبنان، قتلوا في لحظة سياسية اقرب ما تكون الى انتصارهم، ولو انتصار ناقص. هناك من قتلوا ولم يكونوا في الصف الخاسر بل كانوا في صف الرابح، وإن لم
يربحوا كفاية. فالتوازن السياسي يحمي الحريات ولكن لا يحمي الحياة.
• برأيك هل تستحق قضية كهذه (ومن أجل الصحافة) أن يموت المرء من أجلها؟
– سؤالك يتضمن تبرير القتل. لا، لماذا يموت المرء؟ هل “بتحرز” أن يذهب الشخص من أجل هذه القضية كأنه هو ذاهب الى الموت!… هناك من تدخل ليقطع له حياته وليمنعه من الكتابة مثلما يريد. “بتحرز الواحد يدافع عن قناعاته ؟” الجواب: نعم. هل حقّه أن يدافع عن قناعاته ولا يعاقب بالموت؟ بديهي: نعم، فما من جواب آخر، إذا قيل له: دافع عن قناعاتك. وهناك من سيتدخل ويقول الموت هو العقوبة. أنا برأيي أخلاقياً ليس لدي إجابة أخرى. لأنه لا يجوز اليوم في عالم يتمتع بمليون شيء، من حرية الرأي للإكتشافات العلمية، للتقدم البشري، وهذه المحصلة ولّدتها كمية من الناس ضحّوا (هل نلوم من ضحى؟). يعني أنت لتكوني إمرأة حرّة، هل بإمكانك تخيّل كمية العالم التي ضحت لتصلي حيث أنت اليوم؟ على المرء أن يثبت على كلمته. هذه قناعاتي وأنا سأدافع عنها. تقولين لي: إنتبه اذاً، وأنت في صدد الدفاع عنها، من الممكن أن يحل بك “كذا !”… أنا رأيي أخلاقياً أن يكون جواب المرء: “نعم، أنا بدّي كفّي”.
• برأيك هل كان يعلم سمير قصير؟
– كان خائفاً، أتصور. ولكن في مرحلة تراءى له بأن المعركة إنتهت، أو كأنها صارت على مشارفها الأخيرة. والذين من الممكن أن يقسوا لم يعد لديهم قدرة على الأذى.
تفاجأ لحظة موته؟ تفاجأ. إفترضي أنه عليك إعطاءه ثانية ليفكر ويحلل ما حدث معه. كان تفاجأ. لم يهزموا كفاية. لم يموتوا كفاية. وما تراءى له أنه بات جثة، ظهر بأنه جثة لا يزال بإمكانها أن تلدغ.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى