جاد الكريم جباعي: تجربة جيلنا السياسية بلغت حدودها التاريخية القصوى ولم يعد لها أفق
–ليس في ثقافتنا ما يسعفنا في موضوع الدولة بل عندنا “أدلوجة الدولة“
– الحرية هي الجذر الأخلاقي للعلمانية.
حوار عمر قدور
بعد تجربة طويلة في العمل السياسي الحزبي في سوريا يركّز جاد الكريم جباعي جهده على النشاط الفكري، وما يميز كتاباته هو اهتمامه بقضايا فلسفة الدولة، وقد احتلت هذه القضايا مساحة كبيرة في كتابه “المجتمع المدني”،
بينما يعكف الآن على انجاز كتاب جديد بعنوان “في ما هي الدولة”. حول مفهوم الدولة وارتباطه بقضايا العلمانية والديمقراطية، وحول مآلات التجارب السياسية العربية بعد الاستقلال، كان معه الحوار التالي:
في وصفك لتطور الحركة القومية العربية، منذ المرحلة العثمانية حتى اليوم، تقول: “الثورة على الدولة القطرية كانت، في واقع الأمر ثورة على الدولة، لا على القطرية”. بناء على ما سبق، إذا أخذنا في الحسبان المدّ الكاسح للحركات القومية في المشرق العربي خاصة، في النصف الثاني من القرن العشرين، تحضر عدة تساؤلات؛ مثلاً: كيف يمكن فهم هذا المدّ الشعبي على الرغم من رسوخ التشكيلات القروسطية، أي تشكيلات ما قبل الدولة، في الواقع؟ على الصعيد ذاته: كيف لهذا الوعي أن ينتج خطاباً متعالياً على الدولة القطرية متجاوزاً لمفهوم الدولة؟ وبناء على ذلك، أتكون الحركة القومية، في جانب منها، إيديولوجيا ممانعة لقيام الدولة، مشرّعة ممانعتها بالحلم المؤجل لدولة الوحدة؟
– الحركة “القومية” العربية، حركة أيديولوجية، عقائدية، مشرقية المنشأ وإحيائية الطابع، بين إرهاصاتها الأولى، أواخر العصر العثماني، وتنظيرها اللاحق، بعد الحرب العالمية الثانية، فجوة تاريخية ملأتها حركات وطنية نجحت في تحقيق الاستقلال وبناء دول وطنية في بلدانها. ولعل مرجعيتها التاريخية (التراث العربي الإسلامي والتاريخ العربي الإسلامي) وطابعها الإحيائي هما سر انتشار الأيديولوجية القومية في بعض الأوساط الثقافية العربية، التي ألهمتها الناصرية، بوجه خاص. وأعتقد أنها لم تكن حركة تحرير، لأنها نشأت في دول مستقلة، وفي مناخ فيه شيء من ليبرالية، باستثناء منظمة التحرير الفلسطينية. ولم تكن حركة توحيد، بدليل ما صارت إليه، بعد تسلمها السلطة في غير مكان.
الأحزاب القومية التي سيطرت على السلطة، بقوة السلاح، تحت شعار تحقيق أهداف الأمة العربية، اغتالت، بوعي أو بدون وعي، جنين المجتمع المدني، من خلال سيطرتها المحكمة على الجمعيات والنوادي والنقابات و”المنظمات الشعبية” وعلى المؤسسات الثقافية والإعلامية وعلى المؤسسات التربوية والتعليمية، وعلى المؤسسة الدينية أيضاً، وعلى الحياة السياسية، بعد أن سيطرت على الاقتصاد الوطني تحت عنوان “التحويل الاشتراكي”. واغتالت، من ثم، جنين الدولة الوطنية، الذي كان آخذاً في النمو. اغتيال جنين الدولة الوطنية يعني تقليص المجال السياسي الوطني، أو المجتمع السياسي العمومي، حتى تطابق مع سلطة الحزب الحاكم، الذي تولت قيادته مهمات التشريع والتنفيذ والقضاء. فألغت بذلك مبادئ المواطنة وسيادة القانون وسيادة الشعب وفصل السلطات والتداول السلمي للسلطة. وأعادت بناء مبادئ الحق والأخلاق على أساس الاقتناع الذاتي لقيادة الحزب، فصارت هذه الأخيرة هي من يقرر الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن يقرر مبادئ الأخلاق، ونصبت نفسها مرجعاً وحيداً للقومية العربية، وللوطنية، التي خفضت إلى مستوى الموالاة والتبعية والإذعان، فكل من لا يواليها موالاة تامة إما رجعي وإما عميل ومتواطئ. ولذلك قلت إن الثورة على “الدولة القطرية” كانت ثورة على الدولة لا على القطرية، لأن هذه الأخيرة هي الواقع الذي لا يزال قائماً. لقد خسرنا الدولة، وكسبنا “القطرية” والتسلط والاستبداد.
وما تسميه المد الكاسح للحركات القومية أساسه الحركة الشعبية التي نهضت في سياق عملية نزع الاستعمار، وكانت ذات مضمون مركب: اجتماعي وسياسي؛ الأول يعني التحرر من بقايا الإقطاعية والتطلع إلى العدالة الاجتماعية، والثاني يعني إنجاز الاستقلال الوطني والتطلع إلى الوحدة العربية، فكانت نوعاً من ثورة تطلعات، شكلت الرافعة الأساسية للأحزاب السياسية، ولا سيما الأحزاب القومية. وما أن استولت هذه الأخيرة على السلطة، أجهزت على الحركة الشعبية، وحولتها بالقمع والعسف إلى حركة “جماهيرية”. هنا ينبغي تمييز الحركة الشعبية من الحركة الجماهيرية، التي هي ما تسميه المد القومي الكاسح. الظاهرة الجماهيرية، القطيعية، التي أنتجتها الدولة التسلطية، تحتاج إلى دراسة ونقد، وقد كان خلدون حسن النقيب سباقاً إلى ذلك، في كتابه المهم “الدولة التسلطية في المشرق العربي“.
الحركة الشعبية الشهيدة كانت تعبيراً عن بداية تفسخ البنى التقليدية، ما قبل الوطنية وما قبل المدنية، وكان وعيها السياسي ينمو باطِّراد، في مناخ الحرية السياسية النسبية. لكن السيطرة التامة على مؤسسات المجتمع المدني وزعزعة أسس الدولة الوطنية ومبادئها تدريجياً ونزع السياسة من المجتمع وانبعاث الاستبداد الشرقي من جوف التاريخ، أدت إلى إعادة إنتاج العلاقات ما قبل الوطنية في البنى التي يفترض أنها بنى حديثة، كالنقابات والأحزاب السياسية وما سمي المنظمات الشعبية، من جهة، وإلى عودة “الخراف الضالة” من جديد إلى المتحدات الاجتماعية التقليدية (العائلات والعشائر والطوائف والإثنيات)، من جهة أخرى. وهاتان الظاهرتان تعبران عما سماه إريك فروم “الخوف من الحرية”. هنا ينبغي أن نلاحظ العلاقة بين ضمور الدولة الوطنية وتآكلها وبين انتكاس المجتمع إلى ماضيه ما قبل الكولونيالي.
الوعي الذي أنتج خطاباً متعالياً على “الدولة القطرية” هو بالأحرى وعي أقوامي ذومضمون مذهبي، أو وعي تقليدوي جديد، كما سماه ياسين الحافظ، قوامه ما يسميه بعض المنظرين “الثقافة الشعبية” والتراث العربي الإسلامي، وتأويل مّا لوقائع التاريخ وأحداثه يسمى “التاريخ” العربي الإسلامي، وليس في هذا النسيج أي عنصر أصيل من عناصر الحداثة، ولا سيما أن “الثورة” كانت قطيعة فكرية وسياسية وأخلاقية مع الحداثة وانقضاضاً على مكتسباتها. في هذا الوعي ليس هنالك شيء اسمه الدولة، بل هناك السلطة والولاية على البشر.
ولكن خطاب التحرر كما تسمّيه لا يزال سائداً، وكما اتكأت الحركة القومية على هذا الخطاب نجد الحركات الأصولية تعيد إنتاجه اليوم، كأن الاستقلال الوطني لم يُنجز بعد. إلى ماذا نعزو طغيان ثقافة التحرر بدلاً من ثقافة الحرية؟ وهل تكفي الضغوط الدولية على المنطقة لتبرير ثقافة كره الآخر؟
– أجل لا يزال خطاب ما كان يسمى حركة التحرر القومي، سائداً، على اختلاف تلاوينه، جراء بناء التربية والتعليم والثقافة والسياسة، في النصف الثاني من القرن الماضي، على مبادئ: الأحادية واليقينية والإطلاقية والاحتكار والتكفير، وهي مبادئ مشتركة بين مختلف الأيديولوجيات السائدة، أولاً. وجراء اقتران الحركة القومية، التي يفترض أنها حركة علمانية، بالدين الإسلامي، ثانياً. وجراء قدرة السلطات الشمولية على إعادة تنسيق بنى المجتمع على صورتها ومثالها، ثالثاً. فمن المعروف أن المجتمع ينتج الدولة، ولكن الدولة تعيد إنتاج المجتمع أو تنسيق بناه، بما تتوفر عليه من قدرات إجرائية ومعنوية. هذا هو الواقع العياني حيثما استولى ثوريون: قوميون أو إسلاميون أو اشتراكيون على السلطة. ومن ثم، لا أتفق مع القائلين إن ما يسمى المشروع القومي، مشروع حركة التحرر القومي، قد أخفق، بل أرى أنه نجح نجاحاً باهراً. لقد أراد الثوريون السلطة، فحصلوا عليها بقوة السلاح، واحتكروها عقوداً طويلة، وأعادوا تنسيق بنى مجتمعاتهم بما يضمن لهم “الاستقرار والاستمرار”. هذا هو المشروع القومي ليس غير.
خطاب الحركات الأصولية لا يختلف عن خطاب “حركة التحرر القومي” سوى بالصبغة الدينية (المذهبية)، وهذه عنصر رئيس من عناصر الفكر القومي والأيديولوجية القومية. (الأمة لا تنهض إلا بجناحيها: العروبة والإسلام). وهذا ما يجعل جماهير الحركة القومية تتحول بسهولة ويسر إلى جماهير للجماعات الأصولية، ولا سيما تلك التي تسمي نفسها “مقاومة إسلامية“.
أعتقد أن ما تقدم يشير إلى أن كره الآخر عنصر بنيوي في الوعي التقليدي وفي الثقافة التقليدية، تزيده الضغوط الخارجية توتراً، مع أن الاستبداد المحدث من جهة، وهشاشة البنى الاجتماعية وتخلعها من جهة أخرى، هما من يستقدم هذه الضغوط. “الأنظمة التقدمية”، التي تجسَّد فيها المشروع القومي، انتهت، في غير مكان، إلى أنظمة شمولية / تسلطية، أو إلى أنظمة استبداد محدث، تستمد كل منها مشروعيتها الرمزية من أيديولوجية مهزومة لا تعترف بهزيمتها. لذلك تجدها مضطرة إلى تحميل الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية جميع أوزار الهزيمة وأوزار تداعياتها، وإلى إعفاء نفسها من أي مسؤولية. ومضطرة، بالقدر ذاته، إلى شن حرب مفتوحة على المجتمع، لإخضاعه والسيطرة على جميع مقدراته، وإلا فلن تتوافر لها شروط ا”لاستمرار والاستقرار“.
ضمن بحثك في الدولة يحضر مفهوم الدولة/الأمة بشكل بارز. على الصعيد العربي يلتبس مفهوم الأمة بمفهوم القومية، وأنت لم تذهب بعيداً في جلاء ما تقصده بالأمة. إذا كان على المجتمعات العربية المرور بمرحلة الدولة/ الأمة، فهذا يقتضي إما السعي إلى تحقيق الأمة العربية، أو الإقرار بالجغرافيا السياسية الحالية واصطناع أمم مطابقة لها. بالطبع ثمة خيار آخر هو تجاوز الدولة/الأمة. كيف تنظر إلى هذا الإشكال لجهة تأثيره على مشروع الدولة، ولجهة الممكنات القابلة للتحقق فعلاً؟
– كل دولة وطنية مستقلة وذات سيادة تتوافر فيها شروط الدولة الحديثة، أعني المساواة السياسية وسيادة القانون وسيادة الشعب وفصل السلطات والتداول السلمي للسلطة، وتقوم على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة.. هي دولة / أمة، أو دولة الأمة. فثمة علاقة ضرورية بين الدولة والأمة تجعلنا نقول: لا دولة بلا أمة ولا أمة بلا دولة. والأمة لا تتجسد واقعياً إلا في المجتمع المدني. ولذلك أدعو إلى إعادة التفكير في مفهوم “الأمة العربية” وفي مطلب “الوحدة العربية”، وأميز العروبة، بوصفها فضاء ثقافياً وأخلاقياً وإنسانياً مشتركاً بين جميع العرب من مفهوم الأمة العربية، الذي يحيل على العرق واللغة والدين، وهو نواة الأيديولوجية القومية، وهذه أيديولوجية حصرية وإقصائية واستبدادية وأمري لله. وأرى أن تسييس فكرة العروبة، كتسييس الدين سواء بسواء، لا ينتج منه سوى العنصرية ونفي الآخر، فالانتماء إلى العروبة ليس انتماء سياسياً، بل انتماء ثقافي ووجداني وأخلاقي.
أجل، أنا أنطلق من الإقرار بالجغرافية السياسية الحالية، حسب تعبيرك. أنطلق من الواقع القائم بالفعل، والانطلاق من الواقع لا يحتاج إلى تبرير. وليس لدي أي يقين عما سيكون عليه المستقبل. والمستقبل عندي هو ممكنات الحاضر فقط. لذلك أرى أن السوريين، مثلاً، عرباً وغير عرب ومسلمين وغير مسلمين هم أمة سورية تكتمل جميع مقوماتها بالخروج من النسق الشمولي الاستبدادي، واستعادة الدولة الوطنية السورية، أعني الجمهورية السورية، دولةَ حق وقانون لجميع مواطنيها بالتساوي، وأن اللبنانيين كذلك، لكي لا يلتبس كلامي بمذهب أنطون سعادة. ولا أرى أي مستقبل ممكن للوحدة العربية، كما يتصورها القوميون العرب، بل أرى إمكانية قيام اتحاد أو وحدة بين البلدان المسماة عربية على غرار الاتحاد الأوروبي أو أي صيغة أخرى تقررها الإرادة العامة الحرة لشعوب هذه البلدان ومصالحها الجذرية، لا إرادة هذا الحزب القومي أو ذاك ولا إرادة هذا القائد الكاريزمي أو ذاك. أما تجاوز الدولة الأمة فلا أساس موضوعياً له. السوريون على سبيل المثال أيضاً، على مفترق: إما أن يذهبوا معاً إلى الدولة الوطنية الحديثة، أي الدولة الأمة السورية، وإما أن يذهبوا إلى الفوضى وإلى المجهول.
القومية عندي تؤدي المعنى ذاته الذي تؤديه الأمَّويَّة: Nationalism. القومية صفة للدولة في نظر غير مواطنيها (من الخارج). الدولة لا تظهر لهؤلاء إلا بوصفها دولة قومية (سورية أو مصرية أو تونسية أو فرنسية أو ألمانية..). أما في نظر مواطنيها، (من الداخل)، فلا تبدو سوى دولة حق وقانون. وإلى ذلك فإن الوطنية والقومية والأمّويّة تحيل كل منها على عمومية الدولة، وعلى كونها دولة حق وقانون لجميع مواطنيها بالتساوي (مجتمع سياسي عمومي، وكائن سياسي وأخلاقي)، وتحيل كذلك على الكلية العينية، أعني وحدة المجتمع المدني والدولة السياسية. وتراني أميل إلى استعمال كلمة الوطنية بمعنى القومية وبدلاً منها أحياناً، بسبب الإيحاء الأيديولوجي، العرقي / المذهبي، لكلمة القومية. وأرى أن مفهوم الأمة يحيل على واقع أخلاقي، أو على كائن أخلاقي يتوسط المجتمع المدني والدولة السياسية، ويرتبط بكل منهما بعلاقات ضرورية منطقياً وواقعياً.
الدولة مفهوم حديث نسبياً، اقترن بصعود البرجوازية كنمط إنتاج، وقد يكون ضرورياً هنا أن نسترجع انفصال السلطة السياسية عن الكنيسة “الدين” كشرط جوهري للدولة، أو ما يسمّى بالعلمانية على صعيد الخطاب الفكري. مفهوم الدولة، كفضاء رمزي متساوق مع المدينة البرجوازية بوصفها قاعدة إنتاج للسلع الرمزية، إلى أي حدّ يتطلب عربياً الانتقال من نمط إنتاج ريعي إلى نمط إنتاج حديث؟ ومن ثم ألا يكون الاندماج في الاقتصاد العالمي ضرورة للمشاركة في مفاهيم العصر، ومنها مفهوم الدولة؟
– نشأت الدولة الحديثة في سياق الثورة الصناعية المرتكزة على تقدم العلم والتقانة وعلى التغير النوعي في بنية العمل البشري والإنتاج الاجتماعي أولاً، وفي سياق نمو نمط الإنتاج الرأسمالي ثانياً، وفي سياق الثورة الديمقراطية، التي قادتها البرجوازية والتي دشنت الأزمنة الحديثة ثالثاً. وهذه السياقات ثلاثة وجوه لعلمية تاريخية كبرى، لا يكفي معها القول إن الدولة الحديثة اقترنت بصعود البرجوازية، ومن ثم فهي منتج برجوازي، و”أداة قهر طبقية”، كما يصفها اليساريون العرب باشمئزاز ويخلطونها بالسلطة، التي لا يعرفون غيرها؛ ويعارضونها بالثورة وبالديمقراطية الشعبية السيئة الصيت أو بدكتاتورية البروليتاريا. الثورة الصناعية ونمط الإنتاج الرأسمالي والثورة الديمقراطية ثلاثة وجوه لأعظم ثورة في تاريخ البشرية.
الحاجة إلى الدولة الحديثة نجمت عن إعادة تنظيم الحياة الاجتماعية وفق تنظيم الإنتاج الاجتماعي الرأسمالي الحديث، المادي والروحي، ومن هنا اقتران مفهوم الدولة الحديثة بمفهوم الأمة الحديثة، وبمفهوم المجتمع المدني الحديث، مجتمع الشغل والإنتاج وصراع الطبقات، بالمعنى الدقيق للعبارة، لا بالمعنى الستاليني الشائع في أوساط اليسار العربي،. فإن من أبرز سمات المجتمع الحديث: 1 – استقلال كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية استقلالاً نسبياً، في إطار الوحدة الوطنية. 2 – تفريد العلاقات الاجتماعية، الذي يضفي على المواطنة قيمة أولية ومركزية. 3 – العلاقات الأفقية، التي تمنح الأولوية لروح التواصل والحوار، ولمنهج الترابط الضروري بين مختلف الفئات الاجتماعية وتمثيلاتها السياسية، فتنحي العلاقات الرأسية أو العمودية، والهويات الخاصة، من دون أن تغض من شأنها أو تحد من حريتها، لمصلحة علاقات وطنية حديثة، وهوية جامعة حديثة هي الهوية الوطنية أو القومية، وهما بمعنى واحد.
لعل فصل الدين عن السياسة بوجه عام، وعن الدولة بوجه خاص، هو نتيجة إعادة تنظيم الحياة الاجتماعية وفق تنظيم الإنتاج الرأسمالي الحديث، واستقلال الميدان الثقافي، الذي يتموضع فيه الدين، عن غيره من مجالات الحياة، ونتيجة لتفريد العلاقات الاجتماعية، وحلول العلاقات الأفقية بين الطبقات محل العلاقات الرأسية أو العمودية. وهو قبل ذلك نتيجة لإلغاء ازدواجية السلطة، ورفع أي وصاية على عقل الإنسان وضميره. فإن انتقال مصدر السيادة من السماء (التفويض الإلهي) إلى الأرض (سيادة الشعب على نفسه) أسهم في إنتاج سلطة مدنية لا تحتاج إلى الدين لتبرير سياساتها وتقنيع مصالحها، ومؤسسات دينية لا تقبل أن يكون الدين موضوعاً للتلاعب ووسيلة لتحقيق مآرب خاصة لهذه الفئة أو تلك.
نلاحظ في السنوات الأخيرة شيوع التحليلات والدراسات حول السلطة، ومع موجة الترويج للديمقراطية، التي طبعت السنوات الأخيرة، بدا التركيز على وسائل الحكم يفوق كثيراً التساؤل حول مفهوم الدولة، أو بالتعبير الكلاسيكي “فلسفة الدولة”. هذا السؤال يبقى جلياً في كتاباتك، وعرضة للتقليب وإعادة النظر. برأيك لماذا يتضاءل حضور فلسفة الدولة في الأدبيات السياسية العربية؟ وعلام يدل هذا الانغماس المحموم في البحث في آليات السلطة؟ أيجوز لنا أن نرد ذلك إلى محض تأثر ثقافي بما تنتجه بعض المراكز الغربية؟ أم أن هذا التأثر يلاقي نزوعاً موجوداً لدى النخب العربية من حيث مطابقة الدولة بالسلطة؟
– عرف ميشيل فوكو السياسة بأنها علم السلطة، ورأى أن مفهوم السلطة أقدم من مفهوم الدولة وأوسع نطاقاً؛ ولعله محق في ذلك، فالسلطة تنبع من كل شيء، بتعبيره. ولا أستبعد أن تكون الدراسات والتحليلات التي أشرت إليها قد انطلقت من هذا الأساس، أو من معطيات علم الإدارة. ولكنني أميل إلى تعريف السياسة بأنها علم الدولة، وإلى تحديد السلطة السياسية بأنها سلطة الدولة؛ ذلك لأننا لم نعش تجربة الدولة، إلا لماماً، وليس عندنا نظرية الدولة وليس عندنا فلسفة الدولة، وليس في ثقافتنا القديمة والوسيطة ومعظم الحديثة ما يسعفنا في موضوع الدولة، بل عندنا “أدلوجة الدولة”، كما لاحظ المفكر الكبير عبد الله العروي. إن حاجتنا الجذرية إلى الدولة الوطنية تملي علينا هذا التعريف وهذا التحديد. سلطة الحزب، على سبيل المثال ليست سلطة الدولة، بل سلطة اللجنة المركزية والمكتب السياسي والقائد الضرورة الملهم الذي لا يخطئ. هكذا كان الاتحاد السوفييتي السابق والبلدان التي كانت تدور في فلكه، وهكذا عندنا في غير مكان,
الديمقراطية، في نظري، هي مضمون الدولة الوطنية، لأن الدولة الوطنية هي “الشكل السياسي للوجود الاجتماعي”، وهي “تجريد المجتمع المدني، وتجريد كل فرد من أفراده”، حسب كارل ماركس. الديالكتيك الذي حداه المجتمع المدني والدولة السياسية (الوطنية) هو منطق التطور الديمقراطي. كثير جداً مما يقال في الديمقراطية وعنها هو من باب السجال، الذي يغطي الاستئثار بالسلطة واحتكارها هنا، وتقاسمها هناك، تحت عنوان الديمقراطية، و”الآليات الديمقراطية” والانتخابات، وقاك الله شر الانتخابات والاستفتاءات، التي ليست هنا سوى استثمار في الكم، لا يستند إلى أي أساس معرفي ولا إلى أي أساس فلسفي ولا إلى أي أساس أخلاقي. عندنا إذا شئت نوع جديد من “الديمقراطية المذهبية أو الطائفية”، فلا يخلو أن يقرر منظر “ديمقراطي” في مجتمع أكثرية سكانه من المسلمين السنة مثلاً أن الديمقراطية هي حكم الأكثرية، ويعني المسلمين السنة. وعندنا “الديمقراطية التوافقية” وعندنا حماقات ديمقراطية ما أنزل الله بها من سلطان، لأنه ليس عندنا الدولة الوطنية.
كما تشير لم تنجز المجتمعات العربية استحقاق الدولة الوطنية الحديثة، وفي الوقت ذاته نرى في ظل العولمة انزياحاً عن المفاهيم التقليدية للدولة الوطنية، وعلى سبيل المثال يتراجع مفهوم السيادة التقليدي باطِّراد، وهناك محاولات حثيثة لتعديل القوانين الدولية بما يسمح بالتدخل في الدول المستقلة. إذن كيف تستطيع المجتمعات العربية المواءمةَ بين اتجاهين متضادين؟
– بخلاف الأحكام المتسرعة التي رأت في العولمة بداية نهاية الدولة الوطنية أو الدولة الأمة، أعتقد أن العولمة لم تمس الدولة الوطنية، حيثما توجد دولة وطنية، بل أثرت في بعض وظائفها، وجعلت الحدود الوطنية أو القومية هشة إزاء الفضاء المفتوح أو السماء المفتوحة؛ فسرَّعت بذلك وتيرة التثاقف والتعاون بين الأمم والشعوب، وأتاحت لكل فرد مقتدر أن يتناول بيده، من وراء الحدود، ما يشاء من معطيات ومعلومات ومن منتجات مادية أحيانا، وأن يستفيد من خدمات شتى. لعل كثيراً مما يقال ويكتب عندنا عن العولمة محكوم بعقدة الهوية، وبما سأغامر بتسميته رُهاب التقدمً. ثمة خلط مؤسف بين العولمة وما ينسب إليها من آثار، وبين الثورة العلمية التكنولوجية وآثارها المباشرة في عملية / عمليات الإنتاج الاجتماعي وفي بنية العمل البشري، الآثار التي امتدت إلى وظائف الدولة، بحكم تضافرها المؤقت مع الاحتكارات الكبرى والشركات متعدية القومية ومتعددة الجنسيات، وبحكم انفصال رأس المال المالي عن العمل ونمو سوق المضاربات المالية وعمليات تبييض الأموال، وبحكم ما سماه جورج سورس “اختلال التوازن الفعال في النظام الرأسمالي العالمي”، وغيرها من العوامل التي قلصت وظائف الدولة الاجتماعية وحولتها في غير مكان على “مدبرة منزل“.
الدولة الوطنية لا تزال في بلداننا على جدول الأعمال، وستظل كذلك، حتى تتحقق، لكن العولمة تجعل تحقيقها أكثر صعوبة؛ إذ لهذه العولمة آليتان متعاكستان: الأولى اقتصادية، هي آلية دمج الاقتصادات الوطنية والمحلية وتوحيدها في اقتصاد عالمي تديره “اليد الخفية” أو قوانين السوق العالمية. والثانية ثقافية، هي آلية بعث أو إحياء الهويات ما قبل الوطنية، ولا سيما في البلدان المتأخرة، ما يجعل البلدان المتأخرة أكثر هشاشة إزاء الضغوط الإمبريالية. وأنا أعني ما أقول، لأنني أميز الإمبريالية، بما هي قومية متطرفة تعمل على نهب الخارج ونهب الداخل، من الرأسمالية. فالولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، ذات طابع مزدوج: رأسمالي وإمبريالي. غزو أفغانستان والعراق والتدخل في الشؤون الداخلية لكثير من الدول نتاج طبيعتها الإمبريالية، بصورة أساسية، لإنتاج آليات التوسع الرأسمالي فقط. ومن ثم فإن عملية بناء الدولة الوطنية عندنا وعند غيرنا عملية تاريخية كبرى، لا تنحل في الجانب السياسي، بتغيير هذه السلطة أو تلك. لعل أطروحة ماركس، التي تعلق انتفاء الدولة السياسية (الوطنية) على انتفاء المجتمع المدني، على قدر كبير من الأهمية والراهنية. وانتفاء الدولة الوطنية بانتفاء المجتمع المدني ليس في الأفق المنظور. وليس بوسعنا أن نتحدث اليوم عن دولة وطنية بمعزل عن المجتمع المدني، فلا تزال بلداننا تعاني من نقص التطور الرأسمالي، لا من الضغوط الإمبريالية فقط.
الديمقراطية، كما تقول، مضمون الدولة الوطنية. وفي مكان آخر تقول: “العلمانية جوهر الدولة السياسية.. فالعلمانية ليست صفة خارجية نطلقها على الدولة جزافاً وننزعها عنها جزافاً، وليست حكم قيمة ذاتياً يطلقه العلمانيون على الدولة، بل هي حكم واقع يتعلق بأساس الدولة الوطنية الحديثة ومبادئها، وليست اختياراً ثقافياً أو انحيازاً أيديولوجياً، إلا على صعيد الأفراد”. برأيك لماذا بقيت العلمانية مثار خلاف حتى في أوساط النخب الحداثية؟ وعلى الصعيد نفسه كيف تفسّر الإصرار على ترويج فهم تبسيطي وعامّي لمسألة العلمانية من قبَل النخب ذاتها؟
– كانت العلمانية ولا تزال موضوع خلاف منذ بداية الحقبة الثورية، التي اتسمت بصراع ضار على السلطة مقنع بأقنعة أيديولوجية: قومية واشتراكية وإسلامية، بدءاً من خلاف الأخوان المسلمين مع عبد الناصر، وطرح مسألة الشرعية صراحة أو ضمناً، وبروز ظاهرة “التكفير والهجرة” أي تكفير الدولة والمجتمع بسبب علمانية الأولى وزيغ الثاني عن جادة الحق. وازدادت وتيرة الخلاف مع صعود ما سمي “الصحوة الإسلامية”، التي أيقظت العنصر المذهبي في الأيديولوجية القومية، ما أدى إلى اقتراب الأيديولوجية القومية، من الصحوة الإسلامية شيئاً فشيئاً وصولاً إلى أسلمة القومية وقومنة الإسلام، تحت راية “دولة العلم والإيمان”. فصارت العلمانية قرينة “الغزو الثقافي” ورأس جسر لاختراق المجتمعات العربية الإسلامية وطمس هويتها وتقويض “كيانها”، وصار من يفترض أنهم علمانيون من ألد أعدائها.
تحت رغوة الكلام هنالك مسألة الشرعية، شرعية السلطة الشمولية ذات السحنة المملوكية، التي وجدت نفسها في حاجة إلى توظيف الدين والتلاعب به، لإتمام نقصها وإكمال شموليتها، بصفتها سلطة حزب أو سلطة طغمة. وفق هذه الرؤية اقترحت نقل الإشكالية الأيديولوجية، إشكالية التضاد بين العلمانية والإسلام، إلى إشكالية واقعية هي إشكالية التضاد بين الدولة الوطنية والدولة / السلطة الشمولية. الخيار المطروح على بلداننا ليس خيار: إما الإسلام وإما العلمانية، بل خيار: إما الدولة الوطنية وإما اللادولة، أعني دوام الشمولية والعسف والاستبداد وصولاً إلى الفوضى وحرب الجميع على الجميع. والدولة الوطنية بالتعريف هي دولة جميع مواطنيها عرباً وغير عرب ومسلمين وغير مسلمين، هي، مرة أخرى، تجريد المجتمع المدني وتجريد كل فرد من أفراده، وتحديد ذاتي للشعب، بتعبير ماركس.
في السجال حول العلمانية حدث كثيراً أن اتُهم بعض العلمانيين بمعاداة الديمقراطية، من منطلق تحدرهم من “أقليات” عرقية أو مذهبية، ومن وجهة النظر هذه تصبح العلمانية مشروع ممانعة لهيمنة الأغلبية، وهي في المجتمعات العربية الأغلبية السنّية، وتحضر هنا المقارنة مع المشروع القومي العربي الذي كان روّاده الأوائل ينتمون إلى الطوائف المسيحية، فبدت قوميتهم مشروع انفصال عن السلطنة العثمانية. إذا أقررنا جزئياً بجواز التوصيف السابق فما الذي يمكن اقتراحه بشأن الجدل الفكري في مجتمع متعدد؟ وبتعبير آخر كيف يمكن تحرير الديمقراطية من المفاهيم العددية الشائعة وتعزيز مفاهيم التعددية بدلاً منها؟ وعلى هذا ما السبيل إلى حماية التعددية فكرياً، وحمايتها أولاً من الاختزال العددي؟
– علمانيون ضد الديمقراطية، وديمقراطيون ضد العلمانية، هذه حماقة من الجانبين. وثمة حماقة أخرى تجعل “العلمانيين” يساندون السلطات الشمولية، بحجة أنها علمانية، و”ديمقراطيون” يعارضونها، بل يعادونها، للسبب ذاته. أولئك ليسوا علمانيين، وهؤلاء ليسوا ديمقراطيين. علمانية أولئك وديمقراطية هؤلاء انعكاس لواقع مذهبي يميل إلى التطرف، وينتج العنف، وينتج الإرهاب، الفكري والمادي. العلمانية والديمقراطية ضحيتان لمشاجرة، بل لمذابحة، مذهبية، سافرة ومقنَّعة أو محجَّبة. هنا أنا متشائم جداً، إذا جاز أن نتحدث بلغة التشاؤم والتفاؤل، ما لم يقم الفكر النظري والثقافة بواجباتهما الوطنية والإنسانية، وهي أهم واجباتهما، أي إذا لم يعترف الفكر والثقافة بحقوق العقل الكوني والضمير الإنساني. واجبات الفكر والثقافة هي حقوق العقل والضمير.
القول بأن قومية رواد “المشروع القومي العربي”، في العهد العثماني، كانت مشروع انفصال عن السلطنة العثمانية أو بدت كذلك هو قراءة سنَّوية بعََْدية أو متأخرة للتاريخ القريب، يتبناها إسلاميون وقوميون يرون أن الخروج من العثمانية كان انتقالاً “من الوحدة إلى التشظِّي”، وأن القومية والعلمانية كانتا “المدفعية بعيدة المدى التي مهدت للاستعمار الغربي”. الذين يتبنون مثل هذه الآراء هم الذين يطرحون الديمقراطية العددية (حكم الأكثرية المذهبية). أعضاء مؤتمر باريس 1913، على سبيل المثال، المسيحيون منهم والمسلمون، لم يتحدثوا عن استقلال الولايات العربية أو توحيدها، والاستثناء يؤكد القاعدة، إذا كان من استثناء. الشريف حسين وأولاده ولورنس العرب ليسوا رواد المشروع القومي العربي. بعد ذلك بكثير، بعد الحرب العالمية الثانية، بنى ميشيل عفلق نظريته القومية على أن الإسلام هو روح العروبة ورسالتها الخالدة.
جميع المجتمعات تنطوي على تعدد وتنوع واختلاف؛ وعلى تناقضات اجتماعية ملازمة لكل منها؛ مجتمعاتنا ليست استثناء. ومن ثم فإن النقاش يجب أن يدور اليوم حول تحسين شروط الحياة الإنسانية في هذه المجتمعات، واستثمار ميزات التعدد والتنوع والاختلاف. ولعل أول شرط من هذه الشروط وأهمها هو الحرية. المهم اليوم أن ننتقل من مطلب التحرر من .. إلى مطلب الحرية، ولا سيما حرية الفرد من الجنسين. مطلب الحرية سيفتح ملفات كثيرة وسوف يثير قضايا كثيرة وسوف يفسِّخ أيديولوجيات لا تزال تعتز بتماسكها الظاهري وموافقة “الرأي العام”. الحرية هي السبيل الوحيد لحماية التعددية واستثمار ميزاتها. إذا أردت أن تسمي هذا المطلب ليبرالية سأكون سعيداً بذلك.
أيضاً في السجال العربي حول العلمانية قلّما يتم ربط العلمانية بقضية الحرية، أي الحرية الفردية تحديداً، مع أن “موت الإله” الذي نادت به الحداثة ارتبط بتكريس حقوق الأفراد. في كتابك “المجتمع المدني” تذهب إلى أن “الجملة الاجتماعية لا تكون حرة إلا إذا كان جميع أعضائها أحراراً. فإذا انتقصت حرية بعضهم انتقصت حرية الجميع، مهما كان عدد هؤلاء الذين انتقصت حريتهم ضئيلاً”. قد يرى البعض في هذا ترفاً بالقياس إلى الواقع المتردي لجهة الحريات الأساسية، وبالتالي يُخرج الحرية الفردية من دائرة الأولويات. إلى أي حدّ تقبل البنية البطريركية للمجتمعات العربية بالإقرار بحرية أفرادها، ما يشكّل في الواقع إيذاناً بتفككها؟
– الحرية سم للمجتمعات البطريركية، والسم، كما تعلم، يقتل ويشفي. الحرية سم؛ أستعمل هذه اللغة القاسية، لتحرير الكلمات من دلالاتها القيمية. السم كريه، ولكنه يشفي، ويميت. الحرية هي الجذر الأخلاقي للعلمانية، التي تعني رفع أي وصاية على عقل الإنسان / الفرد وضميره. والحرية حريَّتان: ذاتية وموضوعية؛ الحرية الموضوعية هي القانون، والقانون هو ماهية الدولة الوطنية وجوهرها. العلمانية تتموضع هنا، في جدل أو ديالكتيك الحرية الذاتية والحرية الموضوعية. لست أنا من يضع القانون، ولست من يقرر ما الذي ينبغي أن يكون عليه المجتمع، ولا يحق لأحد أن يدعي ذلك، ولا يحق لأي حزب أو قائد كاريزمي أن يدعي ذلك، ولا يحق لأي فئة أو طبقة اجتماعية أن تدعي ذلك. المجتمع يضع قوانينه لنفسه وفقاً لشروط حياته ودرجة تطوره، بالانتخاب الحر للهيئة التشريعية. فحينما يعي الأفراد أن القانون الوضعي هو تجسيد حريتهم الموضوعية تكون العلمانية قد صارت واقعاً محققاً. القانون ينهى ولا يأمر، ما يعني أنه يحمي الحرية الذاتية بقدر ما يمنعها من تجاوز حدودها.
المدخل الذي أقترحه، مدخل الدولة الوطنية، دولة الحق والقانون، يؤكد ارتباط العلمانية بالحرية، حرية الفرد في أن يكون متديناً، ومتعصباً لدينه أو مذهبه أيضاً، أو أن يكون غير متدين، حرية الفرد في ممارسة الشعائر الدينية أو عدم ممارستها. لا يمكن أن يكون هنالك قانون يلزم الأفراد بالإيمان بعقيدة من العقائد، دينية كانت أم علمانية، ولا يمكن أن يكون هنالك قانون يمنعهم من ذلك. لقد جربت شعوب كثيرة ذلك وكلفها أثماناً باهظة. دائرة الإيمان هي دائرة الذاتية، دائرة الوجدان. وحرية الفرد لا تعني موت الله، بل موت جميع الوساطات بين الإنسان وبين الله، أي بين الإنسان وذاته الإنسانية. قال ديستويفسكي على لسان أحد أبطال روايته الشهيرة، “الأخوة كرامازوف”: “لو كان الله غير موجود لكان كل شيء مباحاً”. ما دام الفرد عضواً في جماعة أو مجتمع فليس كل شيء مباحاً، ولا يجوز أن يكون كذلك. هنا تكمن قيمة القانون، بوصفه حرية موضوعية.
أنت من الذين خاضوا غمار الفكر السياسي والتجربة السياسية معاً، سواء من خلال تجربتك في حزب العمال الثوري العربي أو في لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا. من خلال تجربتك كيف تقيّم جدل الفكر مع الواقع السياسي والاجتماعي؟ وما هي آفاق التجربة السياسية في ظل الهيمنة المطلقة للسلطات القائمة من جانب، وتصاعد المدّ الأصولي في المنطقة من جانب آخر؟
– الثقافة هي شكل الحياة الإنسانية. والفكر شكل العالم، عالم الإنسان، أعني المجتمع والدولة، وعالم المجتمعات والدول. والشكل، في مغزاه الأكثر عينية، كما يقول هيغل، هو العقل بوصفه معرفة نظرية؛ والمضمون، في مغزاه الأكثر عينية أيضاً، هو الماهية الجوهرية للواقع، سواء كان واقعاً طبيعياً أم أخلاقياً. جدل الفكر والواقع هنا هو جدل الشكل والمضمون، على كل صعيد. وقد أشرت من قبل إلى قدرة الدولة، وهي الشكل السياسي للحياة الاجتماعية، على إعادة إنتاج المجتمع الذي أنتجها، أو على تنسيق بناه. فلكي تعرف علاقة الفكر بالواقع الاجتماعي والسياسي، عندنا، عليك أن تعرف ماهية الدولة القائمة بالفعل وماهية السلطة وما الوظائف التي تقوم بها ومن يستفيد منها وبأي نسبة، بقدر ما عليك أن تعرف واقع عملية / عمليات الإنتاج الاجتماعي، المادي والروحي. التفكير في المسألة على هذا النحو يقودنا على اكتشاف التصاقب أو التوافق بين التأخر التاريخي وبين الاستبداد المحدث. في ظل هذا التوافق تحتل أيديولوجيات التعبئة والتجييش والتلفيق والتبرير والإيمان والتصديق والتكفير والتخوين .. معظم الحقل الثقافي للمجتمع، وتحذف الفكر النظري إلى الهوامش. آية ذلك أن شعوب هذه البلدان لم تستفد بعد من محمد عبده والكواكبي وقاسم أمين وأحمد أمين وطه حسين وعبد الله العروي وياسين الحافظ والياس مرقص وأمثالهم، فهؤلاء لا يزالون غرباء في أوطانهم، ناهيك عن واقع انفصال العلم عن العمل. الأيديولوجية طردت الفكر الحر؛ والإعلام شوه الثقافة وسطحها، والاستبداد المحدث أغلق الدائرة. فحيث لا توجد ثقافة وطنية / إنسانية مستقلة لا توجد سياسة، وحيث لا توجد حرية لا يوجد الفكر إلا محتبساً أو معتقلاً أو منفياً أو مهمشاً، ولا يوجد الأدب والفن إلا كذلك.
إذا كنت تقصد بآفاق التجربة السياسية تجربة جيلنا، الذي تجرع عار الهزائم ومرارة الخيبات، فقد بلغت هذه التجربة حدودها التاريخية القصوى، فليس لها من أفق. الأيديولوجيات القومية والاشتراكية والإسلامية وأحزابها تعاني موتاً سريرياً، بما فيها حزب العمال الثوري العربي، الذي عملت في صفوفه أكثر من ثلاثة عقود، ولا تخدعنك الحركات الأصولية والمقاومة الإسلامية فإنها تخوض آخر معارك الأيديولوجية الإسلامية وأسوأها على الإطلاق. ولعلها تجهل سورة الفاتحة أو نسيتها، وإلا لقرأتها على نفسها وعلى غيرها.
لقد بات من الواجب نقد هذه الأيديولوجيات وتلك الأحزاب، ولم يعد نقدها مجرد نقد أفكار أو آراء يتفق المرء مع بعضها ويختلف مع بعضها الآخر، بل صار، ويفترض أن يكون، نقداً لتجربة عملية ذات طابع نسقي، أيديولوجي وسياسي وأخلاقي، شغلت نحو نصف قرن من الزمن، وأسفرت في غير مكان من عالم العرب عن أبشع مظاهر التسلط والاستبداد والطغيان واحتقار الشعب، ولا تزال مستمرة في غير مكان مقنَّعة بالأيديولوجية ذاتها، التي صبغت الوعي الاجتماعي بصبغتها، أي بازدراء القانون وازدراء النظام الأخلاقي الاجتماعي والإنساني، وازدراء كل ها هو عام ومشترك بين مواطني الدولة المعنية، وأنتجت نوعاً من ثقافة جماهيرية هي ثقافة الاستبداد وثقافة الخوف، وأعادت إنتاج علاقات التبعية والولاء والانقياد الأعمى والطاعة الذليلة لـ “صاحب الأمر”، الذي يمنح ويمنع على حسب ما يقتضيه الهوى. فبات من المؤكد، بمرور الزمن، أن هذا النسق الشمولي إما أن يكون بتمامه وإما لا يكون.
موقع الآوان