رحلة الشتاء والصيف
زكريا محمد
رحلة الشتاء والصيف هي الرحلة الأقدم التي نعرف عنها في اللغة العربية. وقد ورد ذكر هذه الرحلة في القرآن الكريم: ‘لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف’ (القرآن الكريم، سورة قريش). وقد سميت أيضا باسم رحلة الإيلاف. والتفسير الشائع أنها رحلة تجارية مكية تجارية فصلية مزدوجة إلى اليمن والشام، تمأسست منذ وقت لا بأس به قبل الإسلام، أي منذ أيام هاشم بن عبد مناف.
وعند هذا التفسير أن الإيلاف هو عهود الأمان التي أخذنها قريش من القبائل والكيانات السياسية التي كانت تمر بها تجارتها إلى الشام واليمن. عليه، فهي رحلة الشتاء والصيف لأنها رحلة موسمية، أو رحلتان موسميتان، تتمان في الصيف والشتاء، وهي رحلة الإيلاف لأن ما جعلها ممكنة إنما هو عهود الأمان تلك. يقول اليعقوبي: ‘وانصرف هاشم، فجعل كلما مر بحي من العرب أخذ من أشرافهم الإيلاف أن يأمنوا عندهم وفي أرضهم’ (اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي). ويزيد العسكري: ‘الإيلاف؛ كتاب أمان يؤمنهم بغير حلف’ (أبو هلال العسكري، الأوائل). أما الأمن الذي تتحدث عنه سورة قريش (وآمنهم من خوف) هو الأمن الذي وفره هذا الإيلاف. وهذا الأمن لم يكن متوفرا لغير أهل قريش الذين: ‘كانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يُتَخطفون من حولهم’، كما يقول القرطبي (القرطبي، تفسير القرطبي).
هذا، إذن، هو السائد والمعروف: ثمة تجارة مكية فصلية، وثم عهود أمان محلية ودولية لحمايتها، هي التي حققت الأمن لقريش وتجارتها!
غير أننا ننوي، وبمساعدة المصادر العربية ذاتها، أن نتحدى هذا السائد، وأن نثبت، أو على الأقل أن نفتح احتمال، أن رحلة الشتاء والصيف القرآنية رحلة دينية رمزية، لا علاقة لها بتجارة مكة.
لكن هذا لا يعني، بالطبع، أن الورقة تريد نفي وجود رحلات تجارية مكية فصلية إلى الشام أو إلى اليمن. فقد كانت هناك رحلات مثل هذه بالتأكيد. إذ نعلم من سيرة الرسول أنه كانت هناك على الأقل رحلات شامية، ذهب في بعضها الرسول ذاته ليتجر في الشام. كما نعلم من سيرة غزواته أنه اعترض، وهو في المدينة، قوافل قريش الضخمة القادمة من الشام.
أما مركز التفسيرات المتعددة لرحلة الإيلاف فيتركز حول كلمتين: الإيلاف، الأمن، يضاف إليه التخطف الذي ورد في مقتطف القرطبي أعلاه. وعلى فهم هذه الكلمات الثلاث يتوقف تحديد طابع الرحلة كلها. لذا فستكون هذه الكلمان الثلاث في مركز جدالنا.
رحلة لا رحلتان
لكن قبل أن نبدأ بنقاش هذه الكلمات، لا بد أن نلحظ أن التفسير الشائع الذي يربط رحلة الإيلاف بنشاط مكة التجاري، يتحدث عن رحلتين لا رحلة واحدة؛ رحلة شتوية إلى اليمن ورحلة صيفية إلى الشام. وهما رحلتان تتمان بانفصال. أي أن لكل واحدة موعدها الخاص وترتيباتها الخاصة، في حين أن منطوق السورة القرآنية يتحدث عن رحلة واحدة لا غير: (رحلة الشتاء والصيف). لا تتحدث السورة عن رحلتي الشتاء والصيف، ولا عن رحلة الشتاء ورحلة الصيف، بل عن رحلة واحدة تجمع الصيف والشتاء معا، هي رحلة الشتاء والصيف. لذا دعيت في المصادر العربية باسم مفرد هو: (رحلة الإيلاف). وقد ورد ذكرها في الشعر بهذا المعنى، كما مطرود بن كعب الخزاعي:
المنعمين إذا النجوم تغيرت
والظاعنين لرحلة الإيلاف
هذا الاختلاف، أو التناقض، بين نص القرآن وبين التفسير الشائع يثير الشكوك حول صحة هذا التفسير منذ اللفتة الأولى.
أما بخصوص كلمة الإيلاف، فهناك خلاف حول معناها. وقد رأينا كيف التفسير السائد عموما يرى أنها تعني عهود الأمن ومواثيقه. لكن هناك من رأى أن التأليف في الآية يعني التجهيز: ‘قال ابن الأَنباري: من قرأَ لإِلافِهم وإلْفِهِم فهما من أَلِفَ يأْلَف، ومن قرأَ لإيلافهم فهو من آلَفَ يُؤْلِفُ، قال: ومعنى يُؤَلِّفُون يُهَيِّئوُن ويُجَهِّزُون’. ولو صح أن الكلمة تعني التجهيز فلن يكون هناك مجال لربط الإيلاف بالأمن. إذ كيف يمكن لتجهيز الرحلتين أن يكون سببا للأمن الذي تتحدث عنه السورة؟ أما الفراء فيرى أن قراءتها على أنها إلفهم سيؤدي إلى أنها قد تعني الألفة: (قال الفراء: من قرأَ إلْفِهِمْ فقد يكون من يُؤَلِّفُون، قال: وأَجود من ذلك أَن يُجْعَلَ من يأْلَفون رِحْلةَ الشتاء والصيف’ (لسان العرب).
أما المعنى الأساسي للجذر فيعطي معنى الجمع والضم. يقال: (أَلَّفَه: جمع بعضه إلى بعض، وتَأَلَّفَ: تَنَظَّمَ). ومن هذا المعنى: ألف بين قلوبهم، أي جمع. كذلك من هذا المعنى المؤلفة قلوبهم، الذين أعطاهم الرسول ليجلبهم إلى الإسلام. لكن الغالبية الساحقة تجنبته لأنه لا يوصل إلى شيء انطلاقا من الفرضية التجارية. لكن إذا خرجنا عن الإطار السائد المرسوم، فإن معنى الإيلاف في السورة قد يعني الجمع بسهولة. أي أن معنى ‘ لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف’ سيعني (لجمع قريش، جمعها رحلة الشتاء والصيف). وهذا ما قد يوحي أنه كانت هناك في الأصل رحلتان مختلفتان إلى مكانين مختلفين، ثم تم جمعهما معا في رحلة واحدة دعيت رحلة الشتاء والصيف.
الفيل والإيلاف
ولننتقل الآن إلى جملة (آمنهم من خوف)، التي رأينا أعلاه أن الشائع يرى أنه الأمن الذي جلبته عهود الإيلاف. غير أن لدى المصادر العربية ما يدحض هذا السائد، أو ما يلقي ظلا قويا من الشك عليه. فهناك من يربط سورة قريش ربطا محكما بالسورة التي قبلها في المصحف وهي (سورة الفيل): يقول القرطبي: ‘قال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام لا يفصل بينهما، ويقرؤهما معا… وقال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى؛ لأنه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال: ‘لإيلاف قريش’ أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش’ (القرطبي، تفسير القرطبي).
هذا يعني أن علينا أن نقرأ الآيتين معا: ‘ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟ ألم يجعل كيدهم في تضليل؟ وأرسل عليم طيرا أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول، لإيلاف فقريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف’.
وإذا ما قرأنا السورتين معا، فلا بد لتأليف الرحلتين أن يكون عملا دينيا محضا لا عملا تجاريا. فمن غير المعقول أن يدمر الله أصحاب الفيل لأن قريشا نجحت في تنظيم رحلات تجارية مربحة! عليه، فلا بد أن قريشا قامت بعمل تدين بتأليفها للرحلتين. لقد أرضت الله بهذا العمل فمن عليها بأن وفر لها الأمن عبر تدمير أصحاب الفيل. وهي بسبب ذلك مطالبة بأن تشكر الله على منته: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
وتبدو اللام السببية قلقة جدا حين لا تربط السورتان معا. إذ من دون هذا الربط، يبدو وكأن على قريش أن تشكر الله على فعلها هي، أي على تأليف الرحلتين، لا على فعل الله، أي على منته عليها بتدمير أصحاب الفيل. فالسورة من دون الربط تقول: لأن قريشا ألفت الرحلتين، فلتعبد رب البيت. ويبدو من الصعب قبول هذا حقا.
مصيف ومشتى
أكثر من هذا وأشد قوة أن هناك من ربط بين رحلة الشتاء والصيف وبين مصيف أهل مكة في الطائف. ينقل لنا المقدسي خبرا ينتهي إلى ابن عباس يقول أن الرحلة سميت بهذا الاسم لأن أهل مكة: ‘كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف’ (المقدسي البشاري، أحسن التقاسيم).
ويزيد القرطبي عن ابن عباس أيضا: ‘كانـــوا يشتون بمكة لدفئها، ويصيفــــون بالطائف لهوائهـــا. وهذه من أجلّ النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف’ (القرطبي، تفسير القرطبي).
إذن، فرحلة الشتاء والصيف، حسب هذا الخبر، كانت رحلة مكية لتجنب حر الفصول وقرها. أي أنها لم تكن رحلة تجارية بالمرة. وهي رحلة أنعم الله بها على أهل مكة، لذا فعليهم أن يشكروا رب البيت الذي مكنهم من هذه الرحلة الاستجمامية! لكن السؤال هو: لم يشيد القرآن برحلة لا تديّن فيها ولا تعبّد؟ والشك الذي يبعثه السؤال يجعل من الصعب قبول أن الآية تشير بالفعل إلى رحلة رفاهية يقوم بها أثرياء قريش. مع ذلك، لا يستطيع المرء أن يرمي بهذا الخبر من دون ترو، خاصة حين يجد أن ابن الضياء ينقل خبرا يربط التصيف في الطائف والتشتي في مكة عليه بالإله الجاهلي لا بأهل مكة. ففي سياق حديثة عن الشخصية الأسطورية الشهيرة عمرو بن لحي الذي كان أول من جلب عبادة الأصنام للعرب، يقول:
‘وأما اللات والعزى فكان بدء أمرهما فيما روى ابن عباس: أن رجلاً ممن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف يبيع السمن من الحاج إذا مروا فتلت سويقهم وكان ذا غنم فسميت الصخرة اللات فمات، فلما فقده الناس قال لهم عمرو: إن ربكم كان اللات فدخل في جوف الصخرة، وكانت العزى ثلاث شجرات سمرات بنخلة، وكان أول من دعا إلى عبادتها عمرو بن ربيعة والحارث بن كعب، وقال لهم عمرو: إن ربكم يصيف باللات لبرد الطائف ويشتو بالعزى لحر تهامة ‘ (ابن الضياء، تاريخ مكة المشرفة).
الرب الإله، إذن، هو من كان يصيف بالطائف ويشتو بمكة، لا أهل مكة. وهو في الحقيقة كان يشتو في معبدي اللات والعزى في المدينتين. وهذا يعني أنه كانت لهذا الرب رحلتان؛ صيفية وشتوية، إلى مقرين محددين؛ صيفي هو الطائف وشتوي هو مكة. وإذا كان أهل مكة يصيفون بالطائف ويشتون بمكة فعلا، فمن المحتمل أن فعلهم هذا كان على علاقة برحلة إلههم هذه. وكل هذا يضاعف الشكوك حول فرضية أن رحلة الشتاء والصيف كانت رحلة تجارية.
الجذام
ثم لنتحدث الآن عن الجملة القرآنية التي تتحدث عن الأمن: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). وقد رأينا كيف أن التفسير السائد رأى أن المن هو نتاج الإيلاف، أي نتاج عهود الأمان التي أخذت لتجارة مكة. غير أن لدينا أخبارا تستبعد بشدة أن يكون للأمن أي علاقة بتجارة مكة. يقول ابن حبيب: ‘قوله ‘آمنهم من خوف’ يريد خوف العدو وخوف الجذام، فليس في الأرض قرشي مجذوم) (المنمق في أخبار قريش). ويضيف المقدسي مؤكدا ومركزا على الجذام فقط: (وفي قوله ‘وآمنهم من خوف’ قال خوف الجذام’ (المقدسي البشاري، أحسن التقاسيم).
الأمان، إذن، متعلق جوهريا بالجذام، لا بحماية قوافل مكة الذاهبة شمالا وجنوبا. هذا يعني، بشكل ما، ان تأليف رحلة الشتاء والصيف وفر الأمن من الجذام. وحين يتعلق الأمر بالجذام، فنحن، بصدد الحديث عن أمر ديني لا تجاري في غالب الأمر. ولا يمكن لمكة أن تحمى من الجذام إلا بسبب حرمها. وهذا ما يتضح من آية في سورة القصص: ‘ أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا’ (سورة القصص، آية 57). وبما أن الأمن مرتبط برحلة الشتاء والصيف، فلا بد أن يكون الحرم ذاته، وليس تجارة مكة، على علاقة وطيدة بهذه الرحلة.
ولو أردت أن أوضح أمر الجذام انطلاقا من كتابي (عبادة إيزيس وأوزيريس في مكة الجاهلية)، الصادر هذا العام، لقلت أن الجذام عموما مرتبط بشمال السماء. ويمكن لي أن أشير، هنا تدليلا على ذلك، إلى شخصية ميثولوجية عربية شهيرة جدا، هي جذيمة الأبرش الشهير صاحب الزباء، الأكثر شهرة منه. فجذيمة هذا مرتبط بالسماء الشمالية، إذ هو يلقب ب(نديم الفرقدين). والفرقدان كما نعلم جميعا نجمان في نعش بنات نعش في شمال السماء. ولأن نديميه في السماء الشمالية، فلا بد ان يكون هو أيضا هناك. من أجل هذا فهو علاقة بالجذام والبرص، معا. فهو جذيمة، أي أجذم، وهو أبرش، أي أبرص. ذلك أن شمال السماء مرتبط بالجذام والبرص. عليه، فأهل مكة محميون من خطر الجذام الذي على علاقة بشمال السماء. أي أنهم محميون من خطر قادم من السماء الشمالية، في ما يبدو.
التخطُّف
لكن الحرم المكي لا يحمي في ما يبدو من الجذام فقط، بل إنه يمنع من (التَخطٌف) أيضا، التخطف الذي مر علينا أعلاه في مقتبس القرطبي: (وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يُتَخطفون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله، فلا يتعرض الناس لهم). وقد فهم هذا التخطف في التفسير السائد عموما على أنه يعني غارات القبائل واللصوص على الطرق والقوافل. ولم يدخل التخطف هنا صدفة. ذالك أن آيتين محددتين في القرآن تتحدثان عن الأمن الذي يوفره الحرم وتربطان بينه وبين التخطف. أما الآية الأولى فهي آية سورة القصص التي أوردناها أعلاه، والتي تقول بتمامها: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا. أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا، ولكن أكثرهم لا يعلمون) (سورة القصص، آية 57).
هذه، في ما يبدو لنا، آية حاسمة لفهم رحلة الشتاء والصيف، ولفهم الأمن الذي يوفره الحرم المكي، فهي تشير إلى أمرين اثنين:
الأول: ان التخطف يتعلق بنوع الديانة التي يدعو إليها الرسول. فمشركو قريش، أو بعضهم على الأقل، يتذرعون بأن اتباعهم لدين النبي محمد سيؤدي إلى تخطفهم، مهما بدا لنا هذا غريبا وغامضا. فاتباع الهدى حسب هؤلاء هو الذي سيؤدي إلى تخطفهم، لا الذهاب في رحلة تجارية من دون مواثيق وعهود. هكذا بكل وضوح! إذن، فنحن مع التخطف أمام أمر ديني لا أمام مسألة تجارية.
الثاني: أن خطر التخطف يتهدد الناس في أرض مكة ذاتها، لا في أراضي الآخرين: ‘إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا’. سياق الآية هنا يدل على أن كلمة (أرصنا) تعني بوضوح أرض مكة، لا أرض الآخرين الذين تمر عبر أراضيهم تجارة مكة. عليه، فخطر التخطف، قائم في مكة ذاتها. كما أن الحماية منه هذا تكمن في مكة، لا في عهود الأمان مع من هم خارج مكة. دليل ذلك أن الآية تتساءل ردا على تخوفهم مستنكرة (أو لم نمكن لهم حرما آمنا؟). أي أنهم لن يتعرضوا للتخطف لأن الله آمنهم بالحرم المكي، لا بالعهود والمواثيق التجارية. الحرم المكي هو الذي يوفر الأمن لا عهود هاشم بن عبد مناف. عليه، فامتناعهم عن إتباع الهدى بذريعة التخطف حجة باطلة، فبإمكانهم أن يتبعوا الهدى من دون خشية من التخطف، إذ الحرم يمنعهم ويحميهم.
وتؤيد الآية الأخرى، وهي من سورة العنكبوت، هذا الاستخلاص: ‘أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون’ (العنكبوت، 67). الحرم هنا هو الآمن لا غيره، وما عداه من أماكن يتخطف الناس فيها. لقد أمن الحرم الحماية لأهل مكة من التخطف. أي ان الأمر كله لا علاقة له بتجارة مكة.
وقد حاول بعض المفسرين أن يدعي أن الأمن هنا يعني أن مكة آمنة لا يطالها حرب أو قتال، في حين أن أراضي العرب الأخرى تتعرض لمثل ذلك.
وقد رد ابن عربي على ذلك بالقول: ‘وأما الأمن عن القتل والقتال فقول لا يصح، لأنه قد كان فيه {أي الحرم} القتل والقتال بعد ذلك ويكون إلى يوم القيامة’ (ابن العربي، أحكام القرآن). وهذا ما يقوي فرض أن الأمن له علاقة بشأن ديني لا حربي.
عليه، فالأمن في سورة قريش ‘آمنهم من خوف، والأمن في سورة القصص ‘أو لم نمكن لهم حرما آمنا؟)، والأمن في سورة العنكبوت ‘جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم’ على علاقة مباشرة بالحرم المكي، أولا وأخيرا.
فهو وحده، كحرم، ما يحمي من خطر التخطف، وما يحمي من الخوف، وما يحمي من خطر الجذام، إذا كان هناك من خطر للجذام.
وبما أن سورة قريش تربط بوضوح ومباشرة بين الأمن الذي يوفره الحرم المكي وبين تأليف رحلتي الشتاء والصيف في رحلة واحدة، فلا بد أن نستنتج أمرين اثنين:
الأول: أن رحلة الشتاء والصيف ذاتها على علاقة بالحماية من التخطف. فوجود هذه الرحلة، وتأليفها، هو الذي يحمي أهل الحرم ويؤمنهم. وهذا يعني ان الحرم يؤمن الحماية عبر ارتباط محدد بتأليف الرحلة.
الثاني: وما دام الأمن في الحرم، ويخص الحرم، فلا بد أن الرحلة ذاتها كانت تتم في إطار الحرم. وهذا ما يعني أن الناس كانوا يرتحلون هذه الرحلة، رحلة الشتاء والصيف، داخل الحرم المكي ذاته. إنها رحلة داخل الحرم لا خارجه.
‘ شاعر من فلسطين
رحلة السعي بين الصفا والمروة
استنتاج غريب، أليس كذلك؟
فأي رحلة شتاء وصيف يمكن تنفيذها على أرض الحرم المكي؟ وكيف كانت تتم؟ وأين موقعها؟
الإجابة بوضوح: هذه الرحلة رحلة الحج ذاتها، وعلى الأخص رحلة السعي بين الصفا والمروة. فالناس يظعنون للحج، ويأتون رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، للقيام بهذه الرحلة. فهي رحلة بين مظهري الإله في صيفه وشتائه عند الجاهليين، ورحلة الكون بين شتائه وصيفه عند المسلمين، أي رحلة تقلب الكون ودورانه. فالإله- الكون يترنح عند الجاهليين دوما بين مظهريه. يرتحل بينهما. أي بين الصيف الجنوبي، والشتاء الشمالي. بين برج الجوزاء الجنوبي، ممثل الصيف، وبنات نعش الشمالية، ممثلة الصيف. وهذان يتمثلان على الأرض بتلتين يسعى المؤمن بينهما لتمثيل رحلة الكون- الإله. تلة الصفا تمثل الصيف، لذا فهي جنوبية، وتلة المروة تمثل الشتاء، لذا فموقعها شمالي.
هذه الرحلة بين الشتاء والصيف ألفت، أي جمعت، في مكان واحد في مكة، وسميت رحلة الإيلاف بسبب هذا الجمع. فالإيلاف في اللغة هو التجمع. لقد جمعت الرحلتان معا في مكان واحد هو الحرم المكي. وجمعهما هو سبب أمن الحرم، هو سبب الحماية من التخطف والجذام. هذا الاستخلاص يؤكده يؤيده بيت مطرود بن كعب الخزاعي الآنف الذكر:
المنعمين إذا النجوم تغيرت
والظاعنين لرحلة الإيلاف
فرحلة الإيلاف في هذا البيت، أي رحلة الشتاء والصيف، رحلة واحدة. والناس يظعنون لها، أي يرحلون للقيام بها. إنها رحلة السعي بين الصفا والمروة. وهي رحلة دينية رمزية لا أكثر ولا أقل. ولعل اسم قريش ذاته على علاقة بهذا بتجميع الرحلتين وتأليفهما. فجذر قرش يعطي معنى الجمع. يقول اللسان: ‘القَرش: الجمع والكسب والضم من ههنا وههنا يضم بعضه إِلى بعض. ابن سيده: قَرش قَرشاً جمع وضمّ من هنا وهنا، وقَرش يقرِش ويقرُش قَرشاً، وبه سميت قريش. وتقرش القوم: تجمعوا’ (لسان العرب). وبذا فاسم قريش قد يعني المقرّشة، أي المجمعة التي جمعت الرحلتين معا
وإذا كان الأمر الإله فإن رحلة الصيف كرحلة مفردة تخص الطائف، فقد كان الإله، حسب عمرو بن لحي، يصيف باللات في الطائف. غير أننا أميل إلى أن نرى أن رحلة الشتاء كانت تخص المدينة لا مكة، أي أنها تخص مناة الذي كان منصوبا بالمشلل على شاطئ البحر، على مقربة من المدينة. فمكة هي أرض الإيلاف، أي أرض جمع الرحلتين معا، لا أرض تقسيمهما وتفريقهما. أما الطائف ويثرب، فقد اختص كل منهم بنصف الرحلة. فثقيف كانت تتعبد الإله في مظهره الصيفي، الذي يمثله اللات، في حين أن الأوس والخزرج كانتا تتعبدانه في مظهره الشتوي، ممثلا بمناة. مكة وحدها هي التي جمعت المظهرين معا، وألفتهما.
وبما أن الحرم المكي، بجمعه لرحلة الشتاء والصيف في مركزه، يحمي من التخطف فإن هذا يعني أنه من دون جمع الرحلتين معا، أي من إيلافهما وتأليفهما، فإن خطر التخطف يكون داهما. وهذا قد يعني أن واحدة من الرحلتين، أو أن كل واحدة منهما على حدة، ربما تكون على علاقة التخطف. فحين تجتمعان معا ينتهي خطر التخطف، وحين تنفردان يحوم هذا الخطر.
إذا صح هذا التقدير، فنحن نظن أن الرحلة الشمالية، التي تمثل الإله- الكون في شتائه هي التي لها علاقة بالتخطف، رغم أن أمر التخطف أشد غموضا من أمر الجذام.
وإذا كان لهذا التخطف من علاقة بالآية القرآنية: ‘ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق’ (سورة الحج، 31)، فعلينا أن نفترض أن خطر (التخطف) قادم من الأعلى، أي من السماء، وأنه مرتبط بطائر ما. وهذا ما قد يدعم فكرتنا عن أن للأمر كله علاقة بشمال السماء. فالسماء الشمالية، في ما يبدو لنا، على علاقة بالعنقاء، أو عنقاء مغرب، التي تتخطف الناس حتى قيل: (حلّقت به عنقاء مغرب). ومن المحتمل أن تكون هذه العنقاء على علاقة بنجم عناق، وهو الأوسط في ذيل بنات نعش. عليه، فالتوافق اللفظي بين العنقاء وعناق لا يبدو لنا مصادفة. ونجم عناق في ما نعتقد هو الإلهة الشمالية، أي إيزيس السلبية المخيفة. تقول لنا رسائل إخوان الصفا عن العنقاء: ‘ هي أكبر الطير جُثة، وأعظمها خِلقة، وأشدها طيراناً، كبيرة الرأس، عظيمة المنقار، كأنه معول من الحديد، عظيمة الجناحين، إذا نشرتهما كأنهما شِراعان من شِراعات مراكب البحر… وإذا انقضّت من الجو في طيرانها تهتز الجبال من شدة تموج الهواء، من خفقان جناحيها. وهي تخطف الجواميس والفيلة من وجه الأرض في طيرانها، كما تخطف الحدأة والفأرة من وجه الأرض في طيرانها’ (رسائل إخوان الصفا). أما المتقي الهندي فيضيف نقلا عن رواية تنتهي لابن عباس: ‘إن الله تعالى خلق طائراً في الزمن الأول يقال له العنقاء فكثر نسله في بلاد الحجاز، فكانت تخطف الصبيان فشكوا ذلك لخالد بن سنان وهو نبي ظهر بعد عيسى من بني عبس فدعا عليها أن يقطع نسلها فبقيت صورتها في البسط’ (المتقي الهندي، كنز العمال). في حين أن الجاحظ يؤكد لنا أن ‘العرب إذا أخبرت عن هلاك شيءٍ وبطلانه قالت: حلّقت به في الجو عنقاء مغرب، وفي بعض الحديث: أن بعض الأمم سألوا نبيهم وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفعل كذا وتفعل كذا، أو تلقي في فم العنقاء اللِجام’ (الجاحظ، الحيوان). وهكذا فالعنقاء كانت تتخطف الناس والدواب، حد أن بعض الأمم طلبت من أنبيائها أن يلجمها وتمنعها من تخطفهم. وربما كان الحرم المكي لجاما يلجم العنقاء وأمثالها عن تخطف الناس. إذا صح كل هذا، يكون الجذام على علاقة بالإله الشمالي، السها، أو جذيمة الأبرش، أما التخطف فعلى علاقة بالإلهة الشمالية، قرينته. وكل هذا قد يشير إلى أنه كان هناك تقليد عند أهل مكة مكي يربط الدين الإسلامي، بشكل ما، بالسماء الشمالية في الأصل. أو قل على الأقل يربط النبي وتراثه العائلي، بشكل ما، بالسماء الشمالية.
وفي النهاية، يمكن للمرء أن يختصر فيقول أن سورة قريش لا تتحدث عن رحلتين تجاريتين إلى الشام واليمن، بل عن رحلة في مكة، وداخل حرمها، رحلة رمزية بين صيف الكون وشتائه، ممثلين بالصفا والمروة. ولأنها رحلة بين صيف الكون وشتائه، فقد سميت برحلة الشتاء والصيف. ثم لأنها ألفت بين مظهري الكون في مكان واحد، أي جمعت بينهما، فقد سميت (رحلة الإيلاف). وهي رحلة مغرقة في قدمها. إذ وجدت منذ وجد المعبد المكي. وقد حافظ الإسلام عليها، بعد أن عدل في معناها؛ كانت تمثيلا لرحلة الإله بين مقريه الشتوي والصيفي، فصارت رحلة المؤمن بين مظهري الكون، بين صيفه وشتائه.
وهذه الرحلة في الواقع هي أم الرحلات العربية جميعا. فهي دفعت الملايين، بل عشرات الملايين من البشر للحج إلى مكة من أجل السعي بين الصفا والمروة، أي السعي في مسافة تزيد عن 470 مترا. لكن هذه الرحلة الرمزية القصيرة جدا كانت سببا في قيام المئات من الحجيج بتسجيل وقائع حجهم إلى مكة من أجل الفوز بهذه الرحلة. ومن دون هذه الرحلة ما كنا لنقرأ ما كتبوا. من دونها ما كنا لنقرأ ابن جبير أو ابن بطوطة. ولعل المرء ان يقول ان كل رحلة عربية، حتى لو لم تكن إلى مكة، كانت تقليدا لرحلة مكة واستئناسا بها.
رحلة الشتاء والصيف إذن أم الرحلات العربية كلها، بل هي خالقتها في حقيقة الأمر.
المصادر:
– إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا، نسخة إلكترونية من الوراق: www.alwaraq.com
– ابن حبيب، المنمق في أخبار قريش، نسخة إلكترونية من الوراق: www.alwaraq.com
– أبو هلال العسكري، الأوائل، نسخة إلكترونية من الوراق: www.alwaraq.com
– ابن منظور، لسان العرب، جذر قرش
– الجاحظ، الحيوان، نسخة إلكترونية من الوراق: www.alwaraq.com
– ابن العربي، أحكام القرآن، نسخة إلكترونية: www.islamport.com
– الرضى الصاغاني، العباب الزاخر، نسخة إلكترونية من الوراق: www.alwaraq.com
– القرآن الكريم
– المقدسي البشاري، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، نسخة إلكترونية من الوراق: www.alwaraq.com
– المتقي الهندي، كنز العمال، نسخة إلكترونية من الوراق: www.alwaraq.com
– القرطبي، تفسير القرطبي، نسخة إلكترونية من الوراق: www.alwaraq.com
– اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، نسخة إلكترونية من الوراق: www.alwaraq.com
القدس العربي