صفحات أخرى

الشعر ديوان العرب… إلكترونياً

ديمة الشكر
تتوالى الإصدارات الإلكترونية لموسوعات الشعر العربي التي تضم مختارات من هذا الشعر على مرّ عصوره وثبتاً لمراجعه وسيراً للشعراء. وقد أصدرت مؤسسة محمّد بن راشد آل مكتوم حديثاً قرصاً مدمجاً لعنوان «موسوعة الشعر العربي»، فيه أكثر من ثلاثة ملايين وخمسمئة ألف بيت شعر، لأكثر من ثلاثة آلاف شاعر، تمّ اختيارهم وفقاً لعام الوفاة الذي لم يتعدَّ عام 1952.
يخبئ القرص الصغير إذاً، كمية وفيرة من الشعر الموزون المقفى أو القصيد، الموزع إمّا في دواوين الشعراء أنفسهم، أو في الكتب التي يقارب عددها الستمئة كتاب (591)، أو في المعاجم الأربعة (الصحاح، تاج العروس، جمهرة اللغة، ولسان العرب)، التي تغطي مدة زمنية تقارب عشرة قرون، وتستشهد بالقصيد والرجز والقرآن الكريم لرصد معاني الكلمات وظلالها.
وإذ يتيح البحث عن بيتٍ شعريٍ بعينه التنقل بين الدواوين والكتب والمعاجم بسهولة ويسر، نظراً إلى وجود محرك بحث في القرص، فإن توفر مدونة رقمية هائلة على هذا النحو، يتيح أيضاً أمراً مهمّاً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبحث العلمي، وهو الإحصاء، إذ إن هذا الأخير يعني قبل أي شيء آخر قياس نسبة ورود لفظٍ أو تركيبٍ معينين في متن الشعر العربي ضمن فترة زمنية يستطيع الباحث اختيارها بين مجموعة من التقسيمات من جهة (العصر الجاهلي، المخضرمون، الإسلامي، الأموي، العباسي، الفاطمي، الأيوبي، المملوكي، العثماني والحديث)، ومجموعة من البلدان من جهة أخرى، فضلاً عن تدقيق البحث ليخصّ إمّا الشعراء أو الشاعرات.
ولا شكّ في أن البحث المتعدد أو التركيبي هذا، يؤدّي دوراً كبيراً في إعادة النظر في بعض المسلمات؛ فإمّا ستتمّ المصادقة عليها مجدّداً وإمّا ستنْزوي باعتبارها مقولات لا يعول عليها علميّاً. ولعلّ المقولة الأهمّ التي يصادق عليها هذا القرص المدمج تنضوي بسلاسة تحت عنوان «الشعر ديوان العرب». ولا يأتي هذا بالطبع من العدد المعلن للأبيات الشعرية، بل هو يأتي من خلال إثبات عدد الأبيات الواردة في الكتب المتنوعة التي لا توفر شيئاً من علم الأنساب والتاريخ وكتب البلاغيين والقصص والنوادر والطرائف والسير والرحلات وأخبار الشعراء وغيرهم ممن تركوا أثراً أدبياً رفيعاً وغنياً، وبذا يلمس القارئ/ المتصفح قوّة الشعر في النفاذ إلى نواحي الحياة كافّة لدى العرب. فضلاً عن اكتشافات طريفة، كأنّ يقع على طوقين للحمامة: واحدٌ في المجاز وآخر في الحقيقة.
فالأوّل شهيرٌ وشبه فريد في بابه، ولعلّه أشهر كتبّ الحبّ وأجملها على مرّ العصور؛ هو طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي الذي دوّن فيه مجازات الحبّ وحالاته شعراً ونثراً وقصصاً، فكتب في باب المحبّ القنوع ببعدِ حبيبه عنه: «أغارُ عليك من إدراك طرفي/ وأشفقُ أن يذيبك لمس كفي/ فأمتنع اللقاء حذار هذا/ وأعتمد التلاقي حين أغفي/ فروحي إن أنم بك ذو انفراد/ من الأعضاء مستتر ومخفي/ ووصل الروح ألطف فيك وقعاً/ من الجسم المواصل ألف ضعف». أمّا الثاني فهو في لفظ الحمام لغةً وما يطلق عليه والفرق بينه وبين اليمام، وهو لجلال الدين السيوطي الإمام الحافظ المؤرخ، وفيه يجمع السُيوطي أبيات الشّعر الخاصّة بالطير الجميل وإخوته من القطا والقمارى وغيرها، فكّأنّه كتابٌ جاهزٌ للبحث في الحقل المعجمي لأبيات صُنفت واختيرت وفقاً لمعيار محدّد بريش وجناحين: «وأصغرُ من بنات بني الحسام/ أقلّ فعاله فوق الكلام/ له حللٌ من الذهب المصفى/ وعينٌ كالعقيق من المدام».
وفي الظنّ أن كتاب السيوطي هذا، لا يشذّ عن قاعدة عربيّة جميلة في التأليف، تقول بالاختصاص، فكذا نجد كتاباً خاصّاً بالفاكهة (أرجوزة الفواكه الصيفية والخريفية) لأبي الحسن المراكشي، وآخر في الراح (الأشربة وذكر اختلاف الناس فيها) لابن قتيبة، وآخر هو «الأصنام» لابن السائب الكلبي. ومن الصحيح أن بدايات تدوين اللغة العربيّة أنتجتْ مصنفات مشابهة تختصّ بالخيل والإبل وكتب خلق الإنسان، إلا أن هذه «الهواية» العربيّة إن صحّ التعبير، لم تندثر بل استمرّت على مرّ العصور مثلما يشي به هذا القرص المدمج، وكذا نجدُ كتاباً «طريفاً» لإدريس بن علي بن الغالي السناني (1901): «تأنيس المسجونين وتنفيس المحزونين»، وهو كتابُ يجمع الشّعر إلى القصص التي تبيّن صبر السجين على الظلم ولجوئه إلى الخالق واثقاً من إنصافِه. وبقطع النظر عن الظروف «الرسمية» التي دفعت الكاتب إلى هذا التأليف وعلى هذا النحو الذي يستند إلى الماضي وقصصه، فإن فيه روحاً لعلّنا فقدناها تقول بالكتابة التخصصيّة التي تفتح باب الشّعر والنثر معاً، وتبطن رسائل خفية، وهي تغري بالبحث عن الهوية ومآلها سواءٌ أغاض الإبداع فيها أم فاض.
الإبداع هو أسّ هذا القرص الصغير في حجمه، والواسع في ما يضمّه من أشعار وقصائد ومقطّعات، والمفيد في خيارات البحث، إذ إن هذا الأخير يتلون ويتبدّل وفقاً لجنس المبدع أذكراً كان أم أنثى، وبذا يكشف صورةً غير برّاقة البتة لمساهمات المرأة العربيّة شعراً. فهي تقلّ كلّما مرّ الزمن تارةً، أو تبدلّت الأماكن تارةً أخرى، إذ إن إبداعها وفيرٌ في الجاهلية والأندلس، أي قبل الإسلام وبعيداً من أرض انتشاره، وقليلٌ إلى حدّ مخيف في العصر الحديث، حيث نجد ستّ مبدعات هنّ: باحثة البادية، زينب فواز، عائشة التيمورية، مريانا مراش، وردة اليازجي ونبوية موسى.
وعند النظر في ترجماتهن، يستوقف القارئ/ المتصفح ما كتبته المصرية نبوية موسى، – التي كانت أوّل من ترقى إلى درجة التفتيش في وزارة المعارف، – في مقدّمة ديوانها: «لستُ كغيري ممن يقولون الشعر أو النظم، وهم متفرغون له، بل أنا معلمةٌ شغلني حبّ التعليم عما سواه من الفنون الجميلة، وما قلتُ شعراً إلا لحاجة أطلبها إلى التعليم أو لشيء آسفُ على ضياعه، وكنتُ أروم منه الخير لتعليم البنات الذي شغفني حبه. فقلّما تخلو قصيدةٌ من قصائدي من الإشارة إليه، فإذا مدحتُ شخصاً فمن أجل ذلك التعليم أمدحه، وإذا شكوتُ الدهر فمن أجله أشكو». فهذا الوعي بأهمية التعليم عامّةً،-إذ إن رتبته عندها تساوي رتبة الفنّ، – وتعليم البنات خصوصاً، ودوره الأساس في نهضة المجتمع برّمته، اختارت له المعلمة/ الشاعرة، الشّعر طريقاً وحيداً: «ما اِرتقى في الناسِ شعبٌ ناهضٌ/ دونَ أن يرفعَ للبنتِ عِماد/ فاِرفعوها إنّ في رفعتها/ كلّ ما نرجوه من هذا الجِهاد/ علّموا الغادة علماً راقياً/ يعرف الأبناءُ معنى الاِتحاد». من الصحيح أننا قد نستهجن اليوم الرسائل الاجتماعية في الشّعر، فقد تبدلّت ذائقتنا الشعريّة إلى حدّ كبير، لكن الأليم في الأمر أننا لم نخطُ كثيراً في مسائل تؤرّقنا وتشغلنا وتصفّ حالتنا، وفي هذا كلّه نتنفس شعراً متنوعاً، وقصائد لا تخجل من الإباحي ولا تأبه بالأفكار المسبقّة التي تلجمنا الآن، وتصلت علينا سيف الرقابة. فهذا القرص الصغير الكبير لا يجد حرجاً في أن يضمّ أشعار النواسي اللاذع، جنباً إلى جنب مع نثريات ابن عربي البهيّة، ومواعظ ابن الجوزي. ومن الأكيد أنه يضمّ كذلك غالبية الكتب الخاصّة بالمتنبي، سواءٌ أكانت تلك التي انتصرت له من طريق العلم (الفسر لابن جنّي، ومعجز أحمد للمعرّي، الموضح في شرح شعر أبي الطيب للخطيب التبريزي) أم تلك التي نقّبت عن «سقطاته» (الصبح المنبي عن حيثية المتنبي للبديعي، الكشف عن مساوئ شعر المتنبي لابن عبّاد)، أم ذاك الكتاب الفريد الذي تركه لنا معروف الرصافي (نظرةٌ إجمالية في حياة المتنبي). ولعل تكريس اثني وعشرين كتاباً للمتنبي، يعطي مقولة «شاغل الناس ومالئ الدنيا» صدقيّةً علميّة، عمادها الإحصاء.
إن الجهد المبذول في هذا القرص الصغير/ الكبير، يحملُ على التفاؤل لا بمكانة الشعر فحسب، بل بأمرٍ آخر يقول إن وجود ستة وعشرين باحثاً وراء كواليس هذا القرص المدمج، يعني أن إعداده مكينٌ وعلميّ، والأهم أن لا حشو فيه، إن استعرنا لغة البلاغيين.
أمّا إذا ابتعدنا عن لغتهم وأحصينا عدد المدققين اللغويين بين فريق العمل، فإن النتيجة التي تقول إنهم عشرة تستحقُ أكثر من تحية، ولعلّ التحيّة لا يليقُ بها إلا هذا الشطر من بيتٍ شعرٍ يجمع الحقيقة والمجاز لوصف القرص الصغير/ الكبير فـ: «أقلّ فعاله فوق الكلام».
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى