“الاعتدال” مفهوم مُلتبس عربياً
د. طيب تيزيني
درج العديد من الساسة والمفكرين السياسيين في الفترة المنصرمة- خصوصاً مع اشتعال المسألة اللبنانية منذ بضع سنوات- على استخدام مفهوم “الاعتدال” على نحو واسع، ولقي ذلك استجابة سريعة ممن راح يتحدث عن “التطرف” الديني وغيره، انطلاقاً من الحروب ضد “الإرهاب” التي أعلنت مع بدايات ظهور النظام العالمي الجديد، فلقد تجسدت هذه الاستجابة بسيل جهنمي من الحروب “الاستباقية”، وبظهور خريطة جديدة من المفاهيم والقيم والأسس، التي راحت تسوق بالتوازي مع ذلك الفعل العسكري. ومن مفردات تلك الخريطة اثنتان هما التطرف والاعتدال. وقد سار الأمر على نحو بدا فيه أن كل المفاهيم أخذت تتراجع إلى الوراء لصالح هذين المفهومين، حين أنتجت حالة جديدة رافقت نشأة النظام العالمي الجديد، وتمثلت في إنتاج حملة مركزة على الإسلام، الذي سيركز عليه خصوصاً بمثابته قطب التطرف في العالم.
وجاء ذلك في سياق ظهور أبحاث ودراسات رأت أن الحضارات العالمية الكبرى ثمان، أخطرها على العالم اثنتان هما الإسلامية والصينية، وكان هنتنجتون وآخرون وراء ذلك. وإذا كان الإرهاب قد عمل على أن يتماهى مع الإسلام – وهو أحد طرفي الحضارات الخطيرة والمهددة للعالم وفق ذلك – فقد تعيّن على القائمين على هذه العملية أن ينتجوا القطب المضاد والممثل بـ”الاعتدال” واتضح ما الذي عليه أن يجسد هذا الأخير، فكان: منظومة المفاهيم والقيم التي راح النظام الجديد ينتجها وفق واقع الحال المطلوب. وانطلق السؤال الثاني يفصح عن نفسه بصفته قلب الإشكالية: كيف تستجيب لمقتضيات أهداف إنتاج “القرية الكونية الواحدة”، التي يراد لها أن تكون الحلقة الأخيرة والعليا في تطور البشرية بكل ما تعنيه تلك المقتضيات، بدءاً بمطلب إعادة بناء العالم على أساس “القطبية الواحدة” وبثنائية الخير والشر ومن ثم بثنائية الخيار التالي الذي أريد له أن يكتسب طابعاً كونياً قاطعاً: إما النظام العالمي الجديد وإما ما يفضي إلى نقيضه، وأريد للعالم أن ينقسم إلى فريقين اثنين لا ثالث أو رابع بينهما: إما النظام المذكور “ويكون الأخذ به سيد الحقيقة والسعيد في الدارين”، وإما نقيضه أو ما يمكن أن يكون غيره “ويكون الأخذ به آبقاً خارجياً يتوجب عليه أن يتحمل نتائج خياره هذا بكل الاحتمالات”.
أتى ذلك تحت عنوان خطير تمثل في النظر إلى مفهوم التعددية والتنوع بوصف شبهة أو دخولا في المحظور، وانعكس ذلك في كتابات عربية وأخرى تجنح للنظر إلى العالم على أنه لم يعد يحتمل الآراء والمواقف والاتجاهات المتعددة والمختلفة. وظهر قول يرى في الإقرار بالاختلاف في الفكر العربي بل في الحياة العربية حالة من حالات التخلف والانقسام في وسط الشعب أو الأمة. وعمل آخرون على توسيع تلك الحالة بإدراجها في حقل التفرقة والتشرذم ومن ثم الخروج على الإجماع. وقد اتضح ذلك بكثير من الحساسية على الصعيد السياسي الذي راح بعض منظريه “في لبنان أيضاً” يسعون إلى تغطيته بمفاهيم من نمط “التوافق” ما بين أكثرية وأقلية سياسية أو برلمانية. لقد قيد الأمر إلى القول بأن حديثاً عن أكثرية وأقلية إنما هو إضعاف للأمة وللوطن.
على ذلك الطريق أطيح بإحدى ركائز النظام السياسي الديمقراطي الذي يتمثل بالتعددية وبالأكثرية والأقلية الانتخابية والبرلمانية وغيرها. وشيئاً فشيئاً راح يتضح أن القول بذلك يمر بإحدى قناتين اثنتين: إحداهما تقوم على التلفيق والمراوغة والاستخدام الزائف لمتطلبات التضامن والتوافق بين “إخوة لا يختلفون، والأخرى تتمثل في ضعف البنية السياسية والاجتماعية “السوسيولوجية” والثقافية لكثير من تجليات الخطاب العربي السياسي المعاصر”.
مطلب الاعتدال مسألة منهجية نظرية ودعوة إلى ضبط الخطاب العربي “السياسي تخصيصاً” في معالجته لمعطيات الواقع العربي في حقوله القطرية المتعددة. أما أول ما يظهر من استحقاقات هذه الدعوة، فيتمثل في ضبط الحدود بين التناقض والصراع، و بين الصراع العنفي والآخر السلمي.
هنا تفصح عن نفسها رؤية منهجية تقوم على الإقرار بكل صيغ وأنماط الاختلاف والتخالف والتجمع والافتراق، دون ممارسة أي أسلوب يقوم على تعمية العلاقات بين الأطراف الخاضعة للبحث أولا، وعلى ضبط تلك الصيغ والأنماط بأعلى درجات الدقة المحتملة، ومن ثم على ضبط إمكانات الصراع بينها ثانياً، على أن يبقى ذلك في حدود صراع سلمي مفتوح ومثمر. وعلى هذه الطريق يعلن الاعتدال عن نفسه في أكثر العُقد حسماً: أن يبقى الأمر المختلف حوله نزيل بؤرة صراعية لا تفضي إلى الانغلاق في حالة أولى، ولا إلى الانفجار في حالة أخرى، وذلك ضمن حقل نظري ومنهجي مفتوح يقصي مفاهيم خطيرة في استخدامها في هذه الحال، مثل مفهوم المطلق المغلق، والمرجعية المعرفية والمنهجية التامة المكتملة وثنائية الأخير بإطلاق، والأسوأ بإطلاق، بذلك لا تجري هنا حالة من إخفاء التناقض والاختلاف، بقدر ما نكون أمام استحقاق ضبط المواقف المتصارعة عبر علم مفتوح.
جريدة الاتحاد