حركات الاحتجاج الجديدة في مصر
كمال حبيب
مرت مصر منذ تأسيس الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2004 بما يمكن وصفها بثلاث موجات من الاحتجاج: الأولى ذات طابع سياسي رفعت شعار “لا للتمديد ولا للتوريث ولا للفساد” وكفاية لاستمرار الأوضاع القائمة في مصر منذ عام 1981.
هذه الموجة عبرت عنها أصدق تعبير حركة كفاية، وقد سارع إلى تسنم هذه الحركة قيادات يسارية من الحركة الطلابية القديمة عام 1968 وأصبحوا القوة المتنفذة داخلها، ما قاد إلى تساؤلات وتمردات داخل الحركة من “شباب كفاية” في ذلك الوقت والذي كان يضم شباباً من توجهات مختلفة دخلوا مجال العمل السياسي حديثاً، وأسس هؤلاء حركات عديدة تعبر عن روح ثورية داخل حركة كفاية الأم مثل “شباب كفاية” وغيرها
ومثلت الحركة ظاهرة جديدة لم تعرفها مصر من قبل فقد استطاعت رفع سقف الاحتجاج بنقد الرئيس وأسرته وابنه ورموز النظام كافة من وزراء ومسؤولين، وصعدت آمال الشارع في إمكانية التغيير، وخطت إلى الأمام بوعي المصريين نحو المطالبة بحقوقهم في مواجهة الظام السياسي.
لكنها ظلت حركة فضفاضة لا يعرف لها برنامج واضح في المواجهة مع النظام، كما أن انحيازها الثقافي ظل علمانياً صرفاً ومن ثم أفقدها روح المواجهة مع نظام علماني بطبيعته هو الآخر، ويبدو أن السمعة التي صنعت كفاية كانت أكبر بكثير من قدرة الموجهين لقرارها على منازلة ثورية حقيقية مع النظام المصري.
ومن المؤكد أن الظروف الدولية والإقليمية لعبت دوراً كبيراً في شل قدرة النظام على التعامل مع الحركة بوسائله المعهودة التي تعتمد القمع والسجن والمحاكمات العسكرية.
فالحركة تأسست على خلفية الاحتلال الأميركي للعراق وما أعقب ذلك من مشاهد أثارت الرعب في نفوس الحكام، خاصة بعد المشهد المأساوي الذي ظهر فيه الرئيس العراقي السابق صدام حسين وهو في قبضة القوات الأميركية.
كما أن التبشير من جانب المحافظين الجدد في أميركا بعصر جديد للديمقراطية والحرية في الشرق الأوسط مثل فرصة ثقافية للحركة استطاعت فيها أن تواصل تواجدها وشرعيتها في أوساط النخب المثقفة والقوى الاجتماعية المهمشة والمستبعدة خارج النظام السياسي الرسمي والطامحة في التغيير.
بيد أن تحول المشهد السياسي المصري مع فوز الإخوان المسلمين بـ88 مقعداً في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت نهاية عام 2005 لأول مرة في تاريخهم، ثم الفوز الكاسح وغير المتوقع لحماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينة في يناير/ كانون الثاني 2006، جعل الإدارة الأميركية تدرك أين تتجه رياح التغيير في الشرق الأوسط؟
وهنا تغلبت المصالح على الأيدولوجيا، وتلاقت مصالح المحافظين الجدد مع النظم المستبدة في منع أي تغيير قادم في المنطقة يمكن أن يقوده إسلاميون، ولذا كانت الفترة من نهاية 2004 وحتى مطلع 2006 قمة ازدهار حركة كفاية.
الموجة الثانية من حركات الاحتجاج الجديدة في مصر اتخذت طابعاً مطلبياً ذا طابع اقتصادي يطالب فيه المحتجون بمطالب متصلة بالأجور وتحسين أوضاع العمل في ظل ارتفاع الأسعار الذي تواكب مع سياسات الخصخصة وتغليب مصالح الملاك على العمال وأصحاب الأجور.
ولم يكن لتلك الحركات مطالب سياسية وإنما فقط مطالب متصلة بتوفير الحد الأدنى من العيش في ظل ظروف كريمة وإنسانية.
هذه الحركات الاحتجاجية عبر عنها عمال الغزل والنسيج في مصانع مصر المختلفة في كفر الدوار والمحلة وعمال قطار الأنفاق وسائقو القطارات وعمال الترسانات البحرية وغيرهم، بحيث يمكن القول إنه لم يوجد قطاع عمالي إلا وعبر عن الاحتجاج والغضب.
وكان أشهرها وأهمها إضراب موظفي الضرائب العقارية، وهو الإضراب الأول لموظفين كانوا يرون أنفسهم جزءاً من بيرقراطية النظام لا يمكنهم أن يرفعوا عقيرتهم في مواجهته، هذا بالإضافة إلى احتجاجات الطبقة الوسطى من الأطباء والمدرسين وأساتذة الجامعات والمحامين والصحفيين. واستمرت هذه الموجة الثانية من الاحتجاجات طوال عام 2007 الذي شهد ذروتها.
الموجة الثالثة وتم تدشينها يوم 6 أبريل/ نيسان 2008 وقد تضافرت فيها المطالب الاقتصادية مع المطالب السياسية، فعمال المحلة يطالبون بتحسين أوضاعهم المعيشية والقوى الشبابية الجديدة التي كانت مجهولة ولم يتم الالتفات إليها كانت تطالب بمطالب سياسية تدعو للتغيير وتعارض التوريث. وبكل المقاييس فإن الإضراب الذي تمت الدعوة إليه قد نجح.
فللمرة الأولى يتوافق المصريون على كلمة واحدة سواء وهي الاحتجاج السلبي بعدم الخروج من بيوتهم “خليك في بيتك” من أجل المطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية التي اهتزت بقوة أمام ارتفاع الأسعار بشكل جنوني ثم تضخم الفساد واتساع قدراته ومجالاته بدرجة غير مسبوقة، وأخيرا ترهل الإدارة والبيرقراطية أمام مجتمع تتفاقم مشاكله بصورة مدوية دون إسعاف أو تحرك.
كان أبطال احتجاج يوم 6 أبريل/ نيسان الشباب الجدد الذين يعبرون عن قوة اجتماعية وسياسية جديدة لم تجد لنفسها فضاءً للتعبير عن نفسها في الواقع، حيث يضيق النظام كل يوم بهذه القوى ويتجه أكثر إلى الانغلاق والجمود.
ومن هنا اتجهت هذه القوى إلي فضاء الإنترنت الافتراضي وأسست لنفسها عالما جديداً موازياً، وبدلاً من اتجاه الشباب في المرحلة الماضية إلى فضاء الجماعات الإسلامية حيث يجدون مساحات للاحتجاج والتعبير في مواجهة مجتمعهم ونظامهم السياسي، فإنهم يتوجهون اليوم إلى فضاء الإنترنت المفتوح الذي لا يمكن لأحد أن يحد انطلاقه أو يصادر أفكاره.
الدلالة الرئيسية هنا هي أن النظام السياسي بكل مؤسساته الرسمية والحزبية بدا عاجزاً عن أن يعبر عن هؤلاء الشباب فتحركوا خارجه، والسؤال هنا هو: هل يمكن لهذه القوة الجديدة أن تكون رافعة التغيير السياسي الذي يغير وجه مصر؟ وهل يمكن المراهنة عليها في الضغط على النظام لتغيير قراراته السياسية بشكل درامي؟
سوف أستدعي هنا أفكار “كارل منهايم” عن “الأيدولوجيا” و”اليوتوبيا” حيث يمثل النظام القائم تعبيراً عن الأيدولوجيا، بينما النظام الجديد الذي تدعو له حركات الاحتجاج يعبر عن اليوتوبيا، وبقدر ما تستطيع الأفكار الجديدة الانتشار بين الناس فيما يطلق عليه في علوم الحركات الاجتماعية “الفرصة الثقافية”، فإن اليوتوبيا يمكن أن تصبح واقعاً إذا تبنى الناس منطقها واستطاعت منازعة “الأيدولوجيا” والانتصار عليها.
وإذا كانت “الفرصة الثقافية” في صالح حركات الاحتجاج الجديدة حيث يوجد معتقد عام لدي جميع المصريين اليوم بضرورة التغيير فإن “الفرصة السياسية” ليست في صالحهم، ونقصد هنا “بالفرصة السياسية” تماسك النخبة السياسية التي تمثل النظام السياسي والتماسك القومي والمجتمعي ومدى قدرة حركات الاحتجاج على استمرار التأثير فيه واختراقه، وكفاءة النظام السياسي وقدرته على السيطرة والضبط، وأخيراً الإجراءات غير الرسمية التي قد يستخدمها النظام في مواجهة تلك الحركات.
ومهما قيل عن أزمات النظام السياسي ومشاكله وترهلاته وإخفاقاته وفقدانه للحلفاء والأنصار فإنه لا يزال يملك مفاتيح الفرصة السياسية وينفذها، خاصة أن الدولة المصرية متداخلة مع النظام السياسي بقوة ولديها من الخبرات العميقة ما يجعلها حين تستشعر التعرض للخطر بأن تواجه وتدافع بقوة وشراسة..
وخاصة أيضا أن حركات الاحتجاج الجديدة وبالذات حركة 6 أبريل/ نيسان التي قادتها الشابة إسراء عبر حملة إلكترونية صادفت إجماعاً عليها من خلال موقع “الفيس بوك” لا تزال غضة ويمكن أن نصفها ضمن إطار “حركات الشباب” التي يمكنها أن تتحدى النظم السياسية العتيقة ولكن لا يمكنها أن تغيرها.
وعلينا أن نتذكر هنا “حركة الطلاب” في بكين للمطالبة بالديمقراطية في أبريل/ نيسان 1989 حيث شارك فيها 100 ألف طالب ودعمها مليون من سكان العاصمة، ولكن الدولة تدخلت عبر ضربة قمع عسكرية بعد ما يقارب الشهرين وانتهت الحركة.
ما نقوله هنا تذكير لتلك الحركات والمتضامنين معها من الحركات الاجتماعية على الأرض مثل كفاية وحزب العمل وبعض شباب الإخوان والاشتراكيين وغيرهم، أن الفعل الاجتماعي والتغيير الاجتماعي في مصر مسألة صعبة تحتاج إلى قدر من طول النفس والصبر الإستراتيجي، فتلك الحركات لا تزال أول الغيث، ولدى النظام ذخيرته الاجتماعية.
ومن هنا يجب على المنازلين له أن يكون لديهم ذخيرتهم هم الآخرون، فالعملية تتجاوز مجرد فعل هنا أو هناك يتم التجاوب معه بشكل عاطفي، فحركات الاحتجاج التي حققت التغيير الشامل لا بد لها من قوة اجتماعية مستعدة للنضال من أجل هذا التغيير ومستعدة لدفع الثمن من أجل تحقيقه، ومستعدة أيضاً لاستمرار الفعل الاحتجاجي والحركة بشكل متراكم لا يتوقف.
نحن إذن أمام حركات احتجاج جديدة يعبر فيها الشباب عن أنفسهم وعن آمالهم وعن هويتهم الفردية والجماعية في سياق فرصة ثقافية تواكبت مع غلاء الأسعار وقلة الأجور وشح السلع، وفي سياق قوة اجتماعية معارضة لم تبلغ بعد مرحلة النضج والاكتمال لتدافع عن مطلب التغيير وتحمله وتضحي من أجله.
وتبقى المشكلة الكبرى وهي أن الشعب -كما دل على ذلك موقفه من الاستجابة لإضراب 6 أبريل/ نيسان- على كلمة سواء في مطلبه بالتغيير، بينما القوى الاجتماعية والسياسية التي تقوده وتحمل آماله لا تزال لم تحسم خيارها بعد في توحيد صفوفها وإرساء ما يعرف بالتحالف الإستراتيجي للتغيير والذي تسلم فيه القوى المتناثرة لقوة كبرى.
لا تزال الاتهامات بين الإخوان المسلمين والقوى العلمانية الساعية للتغيير مشتعلة، فالقوى العلمانية تريد جر الإخوان إلى منطقها دون أن تمنحها وزناً في اتخاذ القرار بقدر ما تمثله وبقدر ما قد تتحمله، والإخوان لا يريدون أن يتسرعوا في مواجهة غير محسوبة مع النظام ستكون تكاليفها مرعبة مع غموض النتائج وعدم يقين الحسابات.
والإدراك أن قانون التغيير الحاسم في مصر كان يأتي دائما من داخل مؤسسات الدولة المصرية التي أصفها دائما “بالدولة العميقة”، وتظل حركات الاحتجاج الجديدة هذه تعبيراً عن الفعل الاجتماعي الذي يقول بمطلب التغيير وأنه ضرورة لا يمكن تأجيلها، كما أنها تعبير عن أن مصر لا تزال ولادة وأن قواها الاجتماعية لا تزال عفية وأن الآمال في التغيير لا تزال قائمة وستظل قائمة.
ويبقى قانون التغيير القرآني هو الأبقى “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، فالفاعلون الاجتماعيون والفعل الاجتماعي المستمر والدائم هو السبيل للتغيير الذي هو آت لا محالة.
ــــــــــــ
كاتب مصري