زي ما هي!
الياس خوري
الشعار الانتخابي الذي رفعه رفيق الحريري عام 2000، داعيا مناصريه الى اسقاط اللائحة من دون تشطيب، في نظام الانتخابات الأكثري في لبنان، تحوّل مع انتخابات 2009، الى سمة عامة للوضع اللبناني.
في صبيحة يوم الاثنين 8 حزيران (يونيو)، اكتشف اللبنانيون مع نتائج الانتخابات، ان الانتخابات لم تغيّر شيئا في الواقع السياسي اللبناني. كأن الانتخابات لم تجرِ، وكأن الاعوام الأربعة المنصرمة، بما حملته من ازمات وحروب وخطابات سياسية، لم تكن. اذ لا شيء تغير بعد معركة انتخابية كانت الاكثر قسوة، والأشد تنافسا في تاريخ لبنان الانتخابي.
كيف نقرأ الانتخابات؟
كنت اتمنى ان يكون في مقدورنا قراءة النتائج في وصفها مؤشرات على تغيّر في الرأي العام. غير ان مقولة الرأي العام نفسها تحتاج الى تدقيق. فكرة الرأي العام تستند الى افتراض وجود حس بالمواطنة وبالفرد. اما حين تكون المواطنة انتماء الى الطائفة، فإن افتراض تغيرات الرأي العام يصير بلا معنى. فالطوائف تشكّل رأيا خاصا مغلقا، وهذا ما يجعلها معصومة عن التغير الا ككتلة موحدة.
يستطيع المراقب ان يلاحظ تشققا في الخطاب السياسي لدى الطوائف المسيحية. صحيح ان الطرفين المتنافسين: التيار الوطني الحر بزعامة ميشال عون والجبهة اللبنانية بحزبيها الرئيسيين: القوات والكتائب، استخدما لغة الشحن الطائفي نفسها تقريبا، غير ان التشقق في الخطاب العوني المتحالف مع حزب الله، انعكس تراجعا لافتا في التأييد الشعبي الذي كان يحظى به عون، مما جعله يخسر دائرتين مسيحيتين صافيتين: البترون والكورة. غير ان هذا لم يؤثر في النتائج الانتخابية، فبقي القديم على حاله.
لماذا جرت الانتخابات اذا؟
الواقع انه لم تكن هناك انتخابات حقيقية في اغلبية الدوائر، ففي الجنوب الشيعي، والشمال السني والجبل الدرزي وبيروت السنية، كانت الانتخابات اشبه باستفتاءات. المعارك حصلت في الدوائر المسيحية فقط. حتى هنا وباستثناءات قليلة حسم الصوتان الشيعي والسني الانتخابات. في جبيل وبعبدا كان الحسم شيعيا، اما في زحلة فكان الحسم سنيا. اضافة الى الحسم الأرمني لمعركة المتن، رغم ان كثافة التصويت الطاشناقي لم تفد حزب الطاشناق نفسه اذ سقط ثلاثة من مرشحيه في بيروت وزحلة، ولم يفز له سوى نائبين.
لذا انتهت الانتخابات، في الموقع نفسه الذي انتهت فيه انتخابات 2005. وثبت ان الشكوى من قانون العام 2000، الذي سمي قانون غازي كنعان، واستبداله بالعودة الى قانون 1960، لم يبدّل في الأمر شيئا. فبقي الاصطفاف الطائفي سيد الموقف، واستعاد لبنان المشهد السياسي نفسه، الذي ظهر بعد انتخابات 2005.
الطريف ان المحللين الغربيين ركزوا على الطبيعة السياسية للانتخابات، باعتبارها استفتاء على سلاح حزب الله. لكن ما فاتهم هو ان هزيمة تحالف الثامن من آذار- مارس، لم تتم على قاعدة خيارات سياسية، بل على قاعدة خيارات طائفية.
الفرق بين الخيار السياسي والخيار الطائفي شاسع. فالطوائف لا سياسة لها، سوى سياسة تحسين موقعها في السلطة. لذا بدا ان التيار العوني نجح في احداث انقلاب جذري في الرأي العام المسيحي لجهة تأييده للمقاومة الاسلامية وسورية. غير ان شعارات الحملة سرعان ما بددت هذا الانطباع، لأن العونيين كالقواتيين انغمسوا في الشعار الطائفي، مبررين خياراتهم السياسية بأنها الأفضل من اجل تحسين مواقع الموارنة في السلطة. اي ان ما بدا من الخارج مسألة سياسية بامتياز، اتخذ في الداخل اللبناني شكل المرض الطائفي الذي لا شفاء منه.
كان البعض يعتقد ان الانتخابات سوف تغيّر المعادلة السياسية في لبنان، لكن الواقع الطائفي اعلن انه عصي على التغيير. فمنذ استحضار احداث السابع من ايار- مايو 2008 الى الخطاب الانتخابي، تحصنت كل طائفة في مواقعها، وصارت الانتخابات شكلا سلميا للحرب الأهلية. وفي الحرب الأهلية لا مكان للعقل، بل تحتل الغرائز المساحة السياسية برمتها. لذا جرت الانتخابات وكأنها لم تجر. واستيقظ اللبنانيون على تبدل بعض الأسماء القليلة، لكن من دون اي تبدل في المحصلة النهائية.
قد يقول المراقب ان هذه النتيجة تعني ان لبنان محكوم بالتوافق بين طوائفه المختلفة، وهذا قد يكون صحيحا، غير ان ما يتناساه اصحاب نظرية التوافق، هو ان هذا التوافق الداخلي محكوم بتوازن اقليمي. اذ في اللحظة التي ينهار او يتخلخل فيها هذا التوازن، فإن مصير التوافق يصير في مهب الريح.
الطوائف لا تنتج اوطانا، هذه هي محصلة انتخابات لبنان. من هذه النقطة يبدأ اي تحليل عقلاني للواقع اللبناني، وللخيارات السياسية المطروحة في لبنان. غير ان الغاء الطائفية، وسيادة فكر علماني عروبي، دونهما اهوال احداث عملية تجديد جذرية في الفكرة العربية نفسها، واحداث تغيرات جوهرية في النظام السياسي، وفي القوانين المدنية. وحتى نصل الى هذا التغيير، الذي يتطلب ورشة فكرية وسياسية كبرى، سوف يبقى لبنان في ‘الزي ما هي’.
القدس العربي