القوانين التاريخية للصراع.. التحدي والاستجابة
د. رشيد الحاج صالح
خصص المفكر والمؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي في كتابه «دراسة في التاريخ»، وهو من أشهر كتب فلسفة التاريخ في القرن العشرين، صفحات عدة للحديث عن أسباب قيام الكيان الصهيوني وكيفية اغتصاب إسرائيل الأرض الفلسطينية، لينتهي من تأمله لهذا الكيان إلى أن «تحدي التشتت» الذي لاقاه اليهود وعانوا منه لمدة طويلة هو الذي دفعهم للبحث عن إقامة كيان مستقل يجمعهم في مكان واحد. وتوقع توينبي أن يستثير التحدي الإسرائيلي العرب ويشكل لديهم «إرادة استجابة» تدفعهم لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي سمح له بالاستنتاج بأن عمر اسرائيل لن يكون طويلاً. فالتاريخ عنده يسير وفق مبدئه المعروف في التحدي والاستجابة.
ويفسر توينبي في دراسته السابقة الذكر نقمة العالم وكرهه لليهود بالمؤامرات التي يحيكونها والدسائس التي يتخفون وراءها، ناهيك عن التعصب والفوقية والجشع الذي يمارسونه داخل المجتمعات التي يعيشون فيها، الأمر الذي دفع تلك الشعوب إلى نبذهم وطردهم.
لكن مع العرب المسألة مختلفة، بل ومعكوسة أيضا، فالكيان الصهيوني هو الذي يمارس التشريد والقتل ضد الشعب الفلسطيني منذ قرابة القرن. وعلى الرغم من ذلك لم ترتق الاستجابة العربية إلى مستوى الفعل التاريخي المؤثر.
فالجرائم البربرية والمجازر اليومية التي ترتكبها إسرائيل في غزة هذه الأيام، يبين أن عمر إسرائيل لم يكن قصيراً كما توقع توينبي، وأن تحدي إسرائيل لم يستثر لدى العرب «الاستجابة» المطلوبة. فإسرائيل، وعلى الرغم من المجزرة التاريخية التي تركتها اليوم، هي صديقة لعدد من الأنظمة العربية، وحيادية بالنسبة إلى أنظمة أخرى. هي فقط تستثير ردود فعل الشارع العربي الذي يقوم بالمظاهرات الضخمة، وينفذ الاعتصامات الغاضبة، ويجمع المساعدات عسى أن تستجيب الأنظمة لمطالبه وتفعل شيئاً ما إزاء المجزرة الإسرائيلية، ولكن لا حياة لمن تنادي.
غير أن خطأ توينبي يعود إلى اعتقاده بأن في مكنة العرب الدفاع عن حقوقهم التاريخية، مثلهم في ذلك مثل أي شعب آخر. إذ لم يخطر بباله أن يتحول وجود إسرائيل إلى مطلب وحاجة للأنظمة العربية التي تتخذ من وجود الكيان الصهيوني حجة للمزاودات القومية والوطنية، أو للتهرب من استحقاقات التنمية والحرية ومحاربة الفساد. لقد بات من الواضح أن الجرائم البشعة المرتكبة في غزة، لا تعني الأنظمة السياسية العربية في شيء، وإلا لماذا كل هذا السكوت والحرص على عدم القيام بأي شيء يستحق الذكر. ولماذا هذا الإصرار الواضح على عدم تقديم أي مساعدة حقيقية للمنكوبين في غزة، سواء أكانت مساعدات سياسية أم إنسانية، ناهيك عن العسكرية منها.
ببساطة وبكل وضوح يمكن القول: إن الأنظمة العربية لا تريد أن تفعل شيئاً تجاه مجزرة غزة المستمرة، لأنها تخاف على وجودها ومستقبلها من إسرائيل وحلفائها، الذين باستطاعتهم إسقاط أي نظام عربي خلال زمن قياسي. هذا بالنسبة إلى الأنظمة.. أما بالنسبة إلى الشعوب، فإن علم الاجتماع السياسي يؤكد أن الحرية هي أساس الفعل، والحرية لا تتجزأ، وأن أي شعب لن يستطيع مواجهة التحديات الخارجية إذا لم يحصل على حريته الداخلية. فإذا لم ينجح الشعب في إقامة الدولة الممثلة للكل الاجتماعي، فإنها لن تستجيب لحقوقه القومية والوطنية ولن تفعل شيئاً للعدوان المستمر عليها منذ زمن طال أمده.
إن وقوف الشارع العربي مع الفلسطينيين في محنتهم اليوم موقف مشرف ونبيل وينم عن حس قومي وإنساني يدعو للفخر به، ولكن من الواضح أيضاً أن الجرائم والمجازر الصهيونية ستستمر في غزة وغيرها إذا لم تواجه بـ«استجابة» توقف العدوان، وتشكل تحديا معاكسا يجبر الصهاينة على الاعتراف بحقوق الشعوب ومصالحها.
لا نعرف على من نبكي اليوم: أعلى أطفال غزة الذين يذبحون على قارعة الطرقات، أم على الشعوب العربية التي لا تستطيع أن تفعل شيئاً تجاه هذه المجازر سوى رفع أصوات الصراخ والنواح.. أم على الأنظمة العربية التي باتت تستمد مبررات وجودها من جرائم عدوها!.