الحلقة الثانية من رواية “كما ينبغي لنهر”
منهل السراج
عادت إلى حديقتها، قضت فترة بعد الظهر تحت نخلتها، كان شعرها الأسود الطويل يلتف مع جذع النخلة، كان لوجهها اللامع عينان فاضحتان، سريعتا الانفعال، كانت جدتها تقول لها: وجهك مثل فيء الشجر، ثم تستأنف: مجيؤك لأبويك مثل صحن الحمّص للشبعان من أكلة خروف محشي. صارت فطمة تتحدث وهي تميل رأسها إلى اليمين، قال لها عمر في آخر لعبة لهما معاً:
ـ عندما تتحدثين أرى الكلمات تنهمر من حاجبيك العاليين.
أما المحنة الشهرية فسوف تتحول إلى مجرد ضيق من بضع بثور تنبئها بقدومها، يومان في الشهر يعيقانها عن رياضة الجري التي حصلت فيها على العديد من الميداليات وشهادات التقدير. كانت المدرّبة لا تكفّ عن تنبيهها بأسف:
ـ سرعتك هائلة لكن خطوتك صغيرة.
حافظت فطمة على عباداتها وربما زادت قليلاً، لكن هذا لم يمنعها من الاستماع إلى البرامج الجريئة التي تتناول هموم الفتيات والفتيان وأغاني العشق والحرمان، فتزيد من توقها إلى أحد ما يراها أنثاه في هذا العالم، وإن لم تتجرأ مثل فتيات المدرسة التي أطلقت على نفسها “الفتيات الحالمات” أن تنظر، ولو مرة واحدة، في عيني طبيب العيون.
هؤلاء الفتيات اللواتي كن يقضين الصيف في قراءة مجلدات كبيرة لأعداد قديمة من مجلة “سمر”، أو”الشبكة” أو “الموعد”، يتابعن أخبار الفنانين، وجميلات العالم بالأبيض والأسود، يحلمن ببشرات مخملية لوجوههن تشبه خدود عارضات مجوهرات وعطور العالم، وقد يمعنّ في تقليد تسريحة شعر إحدى جميلات الصور. بأحمر شفاه أمهاتهن وريشة كحلهن العربي، الذي يملأ الوجه كحلاً قبل أن يرتسم على جفن العين، يتزيّنَّ ويرتدين قمصاناً بلون غامق كي يشرق الوجه أكثر، ثم يذهبن إلى صاحبة استديو التصوير القريبة من الحارة والتي أعدت صالة في بيتها لهذا الغرض بعد أن أفرغت جداراً من أثاثه، ووضعت كرسياً وحيداً يقابله ثلاثة حوامل معدنية مصنعة عند حداد الضفة الأخرى، ثبتت عليها أوعية من الألمنيوم كانت تستخدم للطبخ ثم ثقبت بعد أعوام طويلة من الاستعمال، فأصبحت مناسبة كي يحشر فيها مصباح كهربائي يستخدم كإضاءة مناسبة لتصوير أهل الحارة.
أكثر ما يقلق فطمة هو وقت العصر، ربما لأنها تحتاج أن تفرّج عن ضيقها. يقول الحاج عمر:
ـ لأن النبي دعا على من ظلموه في هذا الوقت فانقبضت السماء.
تناولت عائلة أختها غداءها، الفاكهة، الحلو، الشاي، ثم ودّعوها لينعموا بقيلولة في بيوتهم الحديثة المكيفة بهواء رطب بارد. هي لاتستنكر رفاهيتهم لأنفسهم، لأبنائهم، وإن سخرت في أحيان من فخامة سياراتهم ولباسهم، ومن لهاث النساء إلى تجهيز بيوتهن دائماً بأحدث المفروشات، وأحدث آلة كهربائية، ابتداء “بالميكرويف” وانتهاء بجهاز تطرية أسفل القدمين. تبارك لهم توازنهم، استمرارهم، قدرتهم على استعادة بعض من تجارتهم التي فطروا عليها، إلا أنها تضيق بنسيانهم، تتوق أن يفيقوا على واقعهم الذي يتأرجح، فيؤرجح مستقبل أطفالهم. لا تكف عن تذكيرهم، حتى باتوا يتهربون في بعض الأحيان من دعواتها، راجين أن تندمج معهم في حفل النسيان الذي يعيشونه في كل المناسبات، هل للنسيان حفلات؟ إذن هم لم ينسوا تماماً. تتابع صامتة حوار فارس الفنان الذي عرفته بعد الأحداث والأستاذ مخلص مربي الأجيال ابن حارتها، في زياراتهما القليلة لها.
أعدت القهوة وتجرأت مرة أخرى على فتح صندوقها المزدحم بالذكريات التي تمانع مشاركة أحد فيها. تناولت “ألبوماً” فيه بعض صور أيام الثانوية. وضعت قدميها في البحرة متلذذة بقشعريرة أول غطسة واسترخت. مع تموج رسوم “البورسلين” في قاع البحرة، تتداعى السنوات وتلتمع العينان، ويخفق القلب.
في ربيع ثانويتها رأت شاباً يبتسم لها، شاب غريب عن المدينة. كانت خارجة من المدرسة حاملة حقيبتها الثقيلة متفكرة بالواجبات التي تنتظرها: وظيفة رياضيات، موضوع إنشاء، حفظ علوم. أنهت درس الفتوة الإضافي جائعة مشتهية صحن شوربة ساخنة من أيدي أم الحب، والبطاطا المقلية، والزهرة المحمرة، والسلطة الربيعية.
أعاد الكرّة وابتسم. أسرعت إلى البيت حاثة السير.
حين وصلت وقبل أن تقرع الجرس، ثبّتت غطاء رأسها وتنهدت نافضة صورته من رأسها. لن تسمح بدخول العيب إلى البيت الكبير الذي يربي فتيات/ رجالاً.
لكن في اليوم التالي وقبل توقيت البارحة بساعة واحدة، حيث لا يوجد درس إضافي لمادة الفتوة، كانت خارجة من الباب الجانبي للمدرسة، عندما رأته خلف المشــفى.
صار ينتظرها في كل الأماكن والساعات، إن حضرت درساً إضافياً، أو لم تحضر. إذا خرجت من الباب الرئيسي ستجده بانتظارها. وإذا تسللت من الباب الفرعي ستجده بانتظارها.
انفكت عُقد البيت الكبير، وصارت تفتش عنه بعينيها. وقفت مع الشاب خلف المشفى مستمعة إليه يتلعثم، متحدثاً في متفرقات لا أهمية لها واضعاً يده فوق فمه ارتباكاً وخجلاً. جزعها من أعين الآخرين جعل الفرحة مقطوعة الأنفاس، فقد رجعت إلى البيت ظانّة أنها هدمت مجد العائلة، حاملة ندماً وخوفاً ممزوجين بلذة مجهولة.
بعد عام من محاولات الشاب الدؤوبة، قبلت أن تلتقيه. فصورته وهو يحدثها بتوق، هيمنت على ليلها ونهارها ودرسها، فكرت:
“لا بأس بلقاء واحد فقط”.
لكن اللقاء الذي بدأ بقرار صامت: مرة واحدة لن أعيدها، تلاه لقاءات عديدة. فلهيبة البيت الكبير حدود، والحب يطغى، وللاكتشاف لذة.
ـ سنلتقي دائماً؟ قال الشاب خائفاً.
ـ لا أدري.
ـ إن أمي تفكر بترك الحارة.
ـ لماذا؟.
ـ نحن من ملّة أبو شامة. أمي تخشى من انتقام أهل المدينة.
بقدر ماهالها الأمر فقد كان في لقائه، بعد ذلك، وقاحة ممتعة وامتحان شجاعة وتحد ضمني لعمها نذير وملة نذير.
كانت تصعد درجاً طويلاً كي تصغي إليه. يجلسان على سور منخفض. يحاول الشاب في الدقائق المسروقة اللاهثة التي تستطيع أن تبرر فيها التأخر عن البيت، أن يبثها مشاعره وشوقه. كانت أكوام جــبيرات “الجبصين” التي تحمل أشكال أعضاء بشرية مختلفة، أرجل، أيدي، سيقان، أعناق، متجمعة كأشلاء بشرية لا تثير انتباه أحد، تحيط بهما من كل جانب. ظلّت فطمة، فصلاً دراسياً كاملاً، تتسلل لرؤيته دقائق معدودة، تستمع إلى آرائه الثائرة، وتذهب لترددها همساً بين بنات عمها. قال الشاب مرة لأكوام الجبصين المحيطة بهما:
ـ كلّ دلائل الحب هذه لم تكن دليلاً على حبها، أنا لست ديكارت حتى أنقل الحضارات من عصر إلى عصر. لم تجدني قوياً ثابتاً كأصحاب الرسالات. أنا أقل من ذلك بكثير. أعتقد أن فطمة تستحق أكثر مني. مع ذلك أظنها لن تكتفي حتى بمن كان له عظمة الأنبياء.
أجابت فطمة شاردة:
ـ تعلقت بحبك.
جربت أن تملأ أيامها به، لكن عمرها لم يمتلئ إلاّ بها. كانت تريد أن تعرف سبباً جوهرياً جعل الله في فضائه يخلق الإنسان.
غاب عنها في العام الثاني مئتي يوم ثم أرسل بطاقة ساخنة يخبرها عن شوقه: بيدك مفتاح بون. كان عنوان البطاقة: أيتها الغالية. أرسلها إلى بيت أهل لميا التي أوصلت البطاقة لفطمة بعد أن عبثت طويلاً بأعصابها المتلهفة.
حاولت أن تقرأ في غيابه مئتي كتاب، مما تتوقع أنه يفضل، راجية استحضاره، إرضاءه، محرومة مستكينة حزينة سئمة من ازدحامهم حولها.
تخرج من المدرسة تدور حول سورها، تصل إلى الدرج الذي كانت تلتقيه عنده متوقعة رؤيته في كل عصر.
صورتهما معاً يضع ساعده على كتفيها وهي تنظر إلى المصور ضاحكة خجلة فتبدوكمن خطف هذه اللقطة وعاود البحث عمّن يراقبه. ارتدت قميصاً أبيض وتنورة طويلة زرقاء واضعة شالها الرقيق على رأسها، غمرت غرتها حاجبها ورمشها. بدت عروق قدميها في الحذاء القماشي الأبيض، ناتئة، كمن قضى ساعات واقفاً أوماشياً. أما الشاب فقد بدا ببنطاله المقلم وقميصه الأبيض المرسوم على جيبه كتابة ما، سعيداً، مرتبكاً بتحمّل مسؤولية مبكرة.
أغلقت الألبوم بعد تنهيدة طويلة.
في بعض مساءات الخميس يزورها عمّاها عبد الحكيم وجميل، فكرت:
“سوف يرجوانها منذ وصولهما ألا تتحدث عن أبو شامة، ورجاله، وذكرى أحداثه، خصوصاً وأن يوم غد هو الجمعة الذي يصادف منذ آلاف الأيام تلك الجمعة التي حصدت أهل المدينة”.
شعرت بحموضة تصعد إلى فمها وبفراغ المحيط، لكن الرائحة القوية المنبعثة من ياسمينات ملمومات في منديل خفف عنها المرارة فتنهدت ناوية ألا تخرج من تداعيات رفيق الدرج.
في مشوارها اليومي خلف المشفى تولي الجبيرات ظهرها. على الدرجات الأولى كانت تنتظره كل يوم، آملة بمصادفة نادرة تجعلها تراه، ساعة في منتصف النهار، تتراءى فيها جميع الصور والكلمات، الابتسامات والخلافات. تداهمها عيناه الواسعتان بالخطوط والتجعيدات تلك التي تشكلت قبل أوانها. إلى أن جاء صباح، كانت السماء فيه تمطر زخات خفيفة مبللة وجهها وحجابها القطني. ادّعت عذراً وتهرّبت من بنات أعمامها منزوية في شارع جانبي، كي تتسلل بعد ذلك إلى الدرج خلف المشفى.. ولمحته.
عاد رفيق الدرج. قطرات تستقر تحت عينيه وعرق خفيف ينساب من جبينه، ودموعه تنهمر بهدوء. هطل المطر واختلط بالدموع، وقفا لحظات ينظر أحدهما إلى الآخر، ثم اندفع إليها وأخذ يهزها من كتفيها، ويقهقهان، يشدّ حجابها فتصرخ ضاحكة.
جلسا على الدرجة ولم ينتبها أنهما يعيقان نزول المارة وصعودهم. لم تنقطع أحاديثه عن ألمانيا وشوقه لفطمة، كان يفسح للمارين مجالاً ويعاود جلوسه مواصلاً تحديقه في عينيها، جبينها، حاجبيها، يقبّل أصابعها ويسترسل في إخبارها عن دهشته وغربته هناك، فهو ابن العشرين عاماً. كان حلم السفر يداعبه ككل الشباب والهدف تحقيق وسواس السفر.
في اليوم التالي أتمت عاماً جديداً. استيقظت راكضة إلى نخلتها فألصقت ظهرها بجذعها لتقيس كالعادة الفارق بين حد كتفها وأول جريد. بفرح كبير صعدت حافية إلى البحرة الزرقاء، ملأتها وبللت شعرها وعنقها، وعندما تأمّلت وجهها في الماء، أرادت أن تقذف بنفسها، كي تقبّل صورة القمر المنعكسة فيه.
دبّرت مع أم الحب مؤامرة بالتعاون مع لميا كي تتأخر في العودة إلى البيت. تسللت إلى الدرج خلف المشفى فوجدته ينتظرها كما هو دائماً.
قدّم لها مفتاح بون، وعندما خفّت الأقدام حولهما، وضع يده على خصرها وخطف قبلة، ارتبكا. لم تنظر فطمة في وجه الشاب، راحت تتلفت حولها تبحث عمن يكون قد رآها أو باغتها متلبسة بالفعل، لم يرها أحد، فزمن القبلة كان أقصر بكثير من زمن النظرة.
لشهور ظل يقبّلها من خدها، عندما تفرغ أرض الشوارع من حركة المارين، في البرد الشديد، أو الحر وقت قيلولة الآخرين. أحاديث كثيرة لا تنتهي، رغبات مكبوتة، دموع وحرمان وعمر لم ينته. ظل يحدّثها عن الفقر والغنى، عن الصراع الذي بدأ ينشأ بين نذير وأبو شامة، عن قلق أمه ورغبتها بالعودة إلى ضيعة أهلها، وعن تاريخ الحروب بين الناس، عن مجازر سيقوم فيها أبو شامة انتقاماً وثأراً مريضاً، وعن أمور أخرى كثيرة، أما فطمة فقد كانت مستغرقة في اختراع مئات الأعذار كي تخرج من البيت الكبير، من دون أن يكتشف أحد غيابها.
قبل موته بيوم ذهبت تزور أمه الوحيدة. وضعت لهما وعاء شوربة الدجاج الساخنة التي تسبح فيها قطع البطاطا الطرية وصفت صحنين من الأرز وكأسي ماء، قبّلتهما وذهبت معتذرة. تبادلا النظر بخبث مرح:
ـ لم تكن أمي بحاجة لهذا الاعتذار، فأنا أحتاج لبعض الوقت الدافئ، من دون أن يصطدم المارون بنا متذمرين فأرجع إلى البيت بكتف أزرق.
تناولا الطعام بشهية بالغة، ضحكا بجنون، صحنها في حضنه، تحتسي الشوربة بحذر كي لا ينسكب على بنطاله الجينـزي.
ـ من الممكن وضعه على المائدة التي أعدتها أمك.
قرصها من أذنها:
ـ هنا أكثر راحة.
بعد أن انتهيا من غدائهما حاولت فطمة ترتيب المائدة السعيدة، مفترضة أن البيت بيتهما والمائدة مائدتهما، عليها إذن أن تعيد ترتيب كل شيء قبل القيلولة، كانت تلملم الملاعق والقلب يطرق بضجة، حين فاجأها، حضنها ثم قبّلها من شعرها. أسندها برفق على طرف الكنبة. كاد نبضها يصبح طبلاً يدعو أهل الضفتين والجسر، خوف ودهشة، حب، شوق واكتشاف، وقبل كل هذا لذة عارمة. ما كاد ثوبها الأحمر يرتفع قليلاً عن ركبتيها حتى شهقت، في حين أسرع إلى غرفته ساتراً وسطه بكتابه. لم ير خصرها الذي حلم به طويلاً، لم تر صدره الفسيح. دقائق قصيرة.. . أسرعا إلى درجهما، أكملا لقاءهما المعتاد، لكن بعيون خجلة وارتباك خفيف:
ـ أشعر أني ظفرت من الحياة حياتها.
ما زالت تستعيد أوراقاً “مجعلكة” في كيس قديم، قصاصات متفاوتة الأحجام والخطوط والحبر، مناديل ورقية كتبت على عجل، حفظت بحرص قليل، ورقة مقتطعة من كتاب تحمل تصوراً عن البيت الذي سيضمهما، غرفة نوم وجلوس، المقاعد بجانب السرير، الخزانة في الحائط مع المكتبة. تركت مساحات صغيرة على الجدران من أجل لوحات بعض الأصدقاء. هندسة حديثة بسيطة، ديكور يشبه أيامهما، أحلامهما، رغباتهما. على خلفية “نوتة” دراسية، كتب: لماذا تمسكين بيدي دائماً؟ لماذا تقفين بوجهي وتقولين: لا؟ بعد فراغ أبيض كتب: يابنت.. لا أريد أن أبيّض ما كتبت.
يوجد مظروف ورقي مصنوع بيد رفيق الدرج، ألصق صورتها في نافذة ورقية، رسم حولها بعض الأزهار والزخارف. جلست على سور حديقة المشفى، ممسكة بجذع يابس ضاحكة بعيون قلقة، كان غطاء رأسها كاشفاً عن عنقها. في أسفل هذه الصورة كتب لها “أحبك أكثر من أمس وأقل من غد”.
تنهدت، كل هذه الوريقات حُفظت خوفاً من عين متطفلة أو غير متطفلة، يصيبها الجنون إن اطّلع أحد عليها.
ليس مفهوماً تماماً سبب رفضها فضول أحد لمعرفة تفصيل ما عن علاقتها تلك، وغيرها من أسرار حياتها، ربما لأن الشاب غريب عن المدينة، ولأنه أحبها، تريد أن تضم هذا الحب إليها فقط، أو لأن الشاب مات في عز حبهما، فجأة دونما تمهيد، بعد أن اعتادت وجوده، كوجود البيت الكبير والنهر، القبو والنخلة. كبرت مئات السنين في ذلك اليوم. وهي تستعيده كل يوم، وتتمنى أن تعيده بطريقة ما.. لا تعرف.
رأته يتدحرج على الدرج نفسه الذي كانت تصعده كي تلتقيه، يتدحرج بسرعة.. بقسوة.
ـ لا..لا.
عندما سكن على الأرض كانت هناك لطخة دم على شفته. سرعان ما هرع الناس، غطوه بشيء أبيض، لا تذكر تماماً كيف استطاعوا تأمين الشرشف بهذه السرعة.
طرقت باب أهل لميا، اندفعت إلى الذاخل، تمرغت على الأرض الإسمنتية السوداء:
ـ أريد تحطيم رأسي.
راحت لميا تسد فم فطمة بكفها كي لا يسمعها أحد. وتضغط رأسها إلى صدرها.
قطعت الجسر مع لميا متعثرة بمصيبتها ويأسها:
ـ ماذا أفعل من دونه؟ كانت تهلوس.
أدخلتها لميا البيت الكبير، سلّمتها لأم الحب:
ـ استري عليها وعلينا.
خرجت وهي تلعن أبو شامة ونذير معاً، وذلك الصراع الدائر الذي يبدو بلا نهاية، تابعت:
ـ إنه يأخذ أحسن الناس.
بعد موته لم تعد إلى الدرج مرة ثانية:
“لا أعرف ماذا أريد من العمر الذي أضاع العمر، أن ألتصق بهذه الأرض الجافة والبخيلة في آن؟ أن أتأمل أوراق الأشجار الصفراء تتساقط، تستقر على درجنا، على غبار حجرنا، هكذا دونما اكتراث لغيابه؟ تغيب شمس وتشرق في اليوم الثاني. هذه الأرض لا تستحق بعد الآن النور والدفء. وهل ستبقى هذه الدرجات مستقرة في مكانها بلا كتابة أصابعه عليها حين كان يتحدث؟ عادته التي يمارسها عندما يسرح في تأملاته، يحكي، يكتب في الهواء، يحكي ويكتب على أي سطح يصادفه، كيف يمكنني بعد ذلك أن أتحمّل مرور الوقت، حلول الليل والنهار، ولادة طفل، رحيل ميت؟. ببساطة، باعتياد يتناول أهل المدينة وجباتهم الثلاث، ثم يغسلون أسنانهم، يأوون تحت أغطية أسرّتهم، بدون أن يؤرقهم غيابه، كيف يمكنني أن أسمع أو أصدّق حلماً، أو أملاً بلا سخرية من الحالم؟ زواج بنات عمي الواحدة تلو الأخرى زيجات متشابهة فرحات راقصات، أوحالمات بوصول الدور لهن بعد الصبر والانتظار والولاء للجدة، تختار لهن العريس بتأن وحنكة لا غبار عليها، مطبقة هذا التأني نفسه على أولادها الشباب وأبنائهم، وكل من يمر أمام عينها الساهرة “.
لم تفهم سبباً لسرعة تغطية الموتى:
“أهو الخوف منهم أم تجنب رائحتهم؟”.
مازالت تتذكر الشاب، تبتسم بيأس، رغم مضي كل هذه السنين على موته:
“هو الأول، الأهم، آن أوان الاعتراف بذلك، كنت غضة، لم يكن معي إلا لميا، لم تكن مجنونة، وأم الحب المنشغلة بالجميع، أما بنات عمي فكن بعيدات عني”.
وجدت نفسها قد انتقلت إلى المطبخ، استراحت على الدرجة الأولى من سلّم السقيفة مقابل الخزائن المطلية بالزهري الحائل والتي تحمل كل منها نافذة صغيرة لتهوية محتوياتها من المؤونة. على يمينها نافذتان عاليتان تطلان على منور قعره أرض قبو القبو وسقفه السماء. أعد أبو فطمة شبكاً حديدياً عند كل طابق خوفاً من سقوط أحد الأولاد. هو اليقظ بين أخوته، الأقرب لأمه، تلك الجدة التي ظلمت أبناءها بحصة نذير الزائدة من المحبة والامتيازات الأخرى، هذا على الرغم من اعتمادها الكلي على ابنها أبو فطمة.
كان يرتدي حذاءه عادة، واضعاً قدمه على هذه الدرجة. أزال الزمان كل أثر لحذائه. حقيبته معلقة فوق رأسها. مازالت تحضر فيها خضرتها اليومية. جالت بعينيها فرأت عبر باب غرفة الجلوس الملاصق لدرج السقيفة صورة الجدة عتيقة جداً، معلّقة في أعلى الجدار قرب السقف. فكّرت فطمة:
“هكذا كانت تعلّق اللوحات، كي لا تكون بمتناول الأيدي والنظرة العابرة”.
اسم الجدة فاطمة وأصل صورتها بالأبيض والأسود والرمادي، لكن كي تواكب العصر لُوّنتْ بعد موتها، فأصبحت عيونها زرقاء كالخرز، وخدودها بلون الطلاء الزهري الفاقع، أما فمها فبدا لطخة حمراء. انسكب بعضه إلى الذقن بسبب الشفاه الرقيقة التي لم تستطع استيعاب كم اللون الزائد. تطل الغرّة بخفر من غطاء رأسها، خرنوبية لامعة مجعدة تجعيدتين، قصيرة وأخرى أطول منها، في حين بدا ذقنها رفيعاً يتوسطه الطابع الذي أورثته لجميع أبنائها، وهم بدورهم أورثوه بإخلاص لأبنائهم، حتى صار هذا الذقن لقباً يرافق اسم العائلة: بيت “أبو طابع”. أما الخدان فرقيقتان مطليتان بظلال حمراء. رغم هذا التشويه لطلّتها التي كان أصلها رمادياً، فقد بدت بجبينها غير المطلي شامخة في ركنها البعيد قرب السقف.
عدا صورة الجدة لايوجد على الجدار إلا مفتاح مصباح الكهرباء. مصباح الكهرباء هذا اختارته الجدة على ذوقها وجعلته يتوسط السقف المزخرف وقد أنار ليلة عرسها وانطفأ ليلة فقدت أبناءها.
تحتوي غرفة الجلوس هذه على الصندوق الخشبي وكرسي الجدة الواطئ الذي ماتت عليه ثابتة، رغم أنه بلا مسند. كانت تدق به الأرض، كآخر صرخة احتجاج على قسوة الحياة ووحشيتها.
أدارت فطمة التلفزيون الذي ثبّت على قناة وحيدة لا تتبدل. تتابع أخبارها ومختلف برامجها، لأنها لاتثق بالقنوات الأخرى.
ليس لدى فطمة ماتفعله في المساء، فالاعتناء بأحبائها ينتهي ومراقبة الجرذ تنتهي، هو ينام و هي لاتنام.
قطعت الأمل الأخير من زيارة عميها عبد الحكيم وجميل واتجهت إلى غرفة نومها صاعدة درجها في ليل حجارته ومزروعاته التي “تتعربش” على جداره. قبضة باب غرفة نومها مرتخية، أعادتها لوضعها الأصلي، أزاحت غطاء سريرها الكتاني الملون بالأخضر والبيج والبني والبرتقالي الفاتح، عدلت وسادتها وقبل أن تنام أضاءت المصباح الخشبي القديم القريب من وسادتها وجلست تقرأ في ديوان شعر منسي بجانب السرير، لكن ما إن بدأت في السطور الأولى: لا تسألوا متى يعود بل اسألوا متى يستيقظ الرجال، حتى داهمها الشرود، زفرت مهمومة، أغلقته وأطفأت المصباح محاولة استحضار النوم.
بات الاستيقاظ باكراً من عاداتها التي لم تستطع مقاومتها، تعد ركوة قهوتها، تشعل المذياع تماماً كما كان أبوها يفعل، تحمل حقيبة الخبز المغبّرة دائماً بالطحين، فيها سطل الحليب النحاسي، وجزدان الفلوس، تتجه إلى الفرن القريب الذي كانت تتذمر منه في طفولتها، مبكّرة حيث يكون صف النسوة قصيراً، تشتري خمسة كيلو غرامات من الخبز توزّعها على مصطبة الفران وتجلس إلى جانب الرغيف الأخير تقضم بعض أطرافه المقمّرة، منتظرة بصبر وتأنّ أن تستريح الأرغفة وتبرد.
كلّ شيء يجب أن يستريح، ركبتاها، خبزها، رزّها، عجين فطائرها، لقمتها..
لملمت الأرغفة في حقيبتها بعناية، ثم حملت السطل النحاسي بيد وحقيبة الخبز باليد الأخرى، توجّهت إلى الدكان القريب، حيث حان موعد وصول الحليب.
ذهبت إلى البيت وزعت كعادتها الخبز على ثلاثة أكياس، كيس تضعه للاستعمال السريع، وكيس في التبريد ليوم غد، والكيس الثالث في التجميد لبعد غد. خرجت مرة أخرى إلى الحارة، فاشترت الخضار من البائع المقابل لبائع الحليب. نصحته كيف يختار خضرته، فالباذنجان يُعرف إن كان يحتوي على البزر أم لا، من لونه وتموجات سطحه، راحت تسهب في نصائحها لأن البائع احتج حين رآها تقضم كل باذنجانة كي تتأكد من بياض قلبها وخلوه من البزر، أما جودة البطاطا فتعرف من قشرتها، ويفضل أن تكون أوراق البقدونس رقيقة وأعواده ضعيفة قصيرة، أما الملوخية فتكون ملوكية عندما لا تحتوي أغصانها على بذورها التي سرعان ما تنمو في الجو الحار، البستانية منها ذات الأوراق الخضراء غير الداكنة هي المفضلة، تتحدد جودة السلبين من”جيجته”، أما اللبن الذي تشتريه من بائع ثالث، فكان أكثر ما يغضبها أنهم يضعونه في السطول البلاستيكية التي تحس أن الجرذ قد لامسها.
في كل تسوق يدور الجدال نفسه مع البائعين الثلاثة حول عز القدماء وحسن تقديرهم بل ربما ترمي بكلمتين قاسيتين تجعلهم يبتسمون مقدّرين فلا يغضبون منها، يتحملونها خشية أن تذبحهم بذكرى يوم الجمعة، كما هي عادتها دائماً، كي لا ينسوا. مع ذلك يلجؤون في أحيان إليها، يقولون:
ـ أنت مثل الجدة أو الأب أو أم الحب، هم لم يموتوا ما دمت موجودة.
ـ هل تعرفين ربط فك الميت؟.
قالهـا أبوها يائساً وخائفاً. رفع سبابتيه وتمتم بصوت حاول أن يكون شجاعاً:
ـ أشهد أن لا إله إلا الله.
ناداها كي تدلّك يديه، لكنها وضعت السماعات على أذنيها وانصرفت إلى ترتيب أشرطة التسجيل. تركته يتناول طعامه بمفرده.
صحت فجراً فوجدت باب البيت مفتوحاً على مصراعيه، أنوار أرض الدار والقبو مضاءة بكآبة، توقعت أنه رحل، كانوا يروحون ويجيئون منشغلين. عبد الحكيم يصطدم بجميل وأمها تصطدم بأم الحب، داخلين بأشياء، خارجين بأشياء، أعباء الدفن ثقيلة وكثيرة. تسلّلت إلى سريره فوجدته مسجى، إذن نسوا أن يربطوا فكه. عينا أبيها نصف مغمضتين، وجهه مرتاح ولا يحتاج أن يشد بالرباط، مضيء متردد كما كان دائماً، لا بسمة حزن، لا بسمة عتب. همست:
ـ إنه حي، إنه يتنفس..
من نظراتهم أدركت حجم مأساتها.
جاءها صوت أبو رحمون من مئذنته الجديدة: توفي إلى رحمة الله وعفوه، المرحوم الحاج..، صفعها اسم أبيها كأنها تخبر بموته لأول مرة، كانت نساء أعمامها يتحدثن عن تلقيهن للخبر، حزينات عليه أو على أبنائهن الذين غابوا أو قتلوا. أما أمها فقد راحت تتحدث عن حياته العادية، كان قد تعشى قبل أن يموت، و طلب منها تسخين الحمام، قص شعره أو حلق ذقنه.
“لن يحتاج إلى الحمّام بعد تغسيله الأخير، لن يحتاج إلى الحلاقة لأن شعره لن يطول بعد الآن”.
بكاء، عويل، صراخ اعتيادي:
“لا يكفي”.
سكتت لميا المجنونة ونامت عند المصطبة غير مبالية.
كانت نساء أعمامها يخطن كفنه، يمددن القماش فوق الأرض العارية، يمسكنه من الجهات الأربع ويسرعن في إعداده:
“لكن لمَِ استغربت؟. يجب أن يربّطوا الميت كي يستعجلوا في دفنه وإكرامه”.
انتهى يوم السبت سريعاً، كانت تحشو ثلاجتها بالخضرة الطازجة متفقدة الرفوف والخزائن. قامت إلى صلاة العشاء على مهل، مع حنفية الماء الضعيفة غسلت قدميها بالتناوب وتلت دعاء الوضوء والاستغفار، ثم اتجهت إلى سجادة أبيها الخمرية اللون والتي ظلت تستخدمها رغم اهترائها. أدت أربع ركعات الفرض والوتر والسنة ثم تناولت المصحف من الطاولة المجاورة، كانت الإشارة عند السورة التي وصلت إليها ورقة قديمة من أوراق التقويم كتب في خلفها “عائشة بنت أحمد بن محمد الحنبلي هي من فواضل النساء أنشدت:
يجري القضاء وفيه الخير ناقله لمؤمن واثق بالله لا لاهِ
إن صابه فرح أو نابه ترح فبالحالتين يقول الحمد لله
فكرت:
“يوجد خلل في وزن الشعر، لابد أنهم أخطأوا في النقل”.
قرأت لبعض الوقت ووضعت الكتاب بجانب السبحة، استغفرت ربها ودعت برجعة الغائبين.
رنّ الهاتف، أتتها زقزقة لميس:
ـ نام القمر؟.
ـ حبيبتي لماذا تقطعين دراستك؟ ماذا كنت تفعلين؟.
ـ كنت أداعب الكمبيوتر. ردت بخبث.
ـ ألا تكفين عن جرأتك هذه، أنت فتاة والفتاة يجب ..
قاطعتها لميس:
ـ تقول ماما إن لديها جمعية غداً، تريدك أن تحضري وتتسلي.
ـ ألا تيأس أمك من دعوتي لاستقبال النسوان؟.
ـ يوجد حلويات غربية، أعرف ستقولين كأس مغلي الشمرة بالجوز أفضل. تصبحين على خير.
أرسلت قبلاتها عبر الهاتف.
أوت إلى الفراش سامعة هسهسة الجرذ، حاولت تجاهل الصوت، لم تستطع، أبعدت الأغطية عنها وأدارت المصباح الكهربائي. الأبواب مغلقة والدرج طويل لكن صندوقها الذي ينتظر نبشها له يعزي وحدتها. مقص أبيها الحديدي الكبير والذي انقرض الآن، استغنى عنه في آخر أيامه بشق النفس، جواز سفره الذي ظل صالحاً بعد موته بعامين، بطاقة النقابة الحرفية مشهود فيها بكفاءته في “التخريج”، عمله الذي مارسه طيلة أربعين عاماً يومياً دونما إجازة أوعطلة إلا العطل الإجبارية، ربما أثناء هجوم أبو شامة على المدينة. تلقفت كفها صورة أبيها في مدينة أخرى، مرتدياً لباساً خفيفاً بلون فاتح صاعداً درجاً ما. متوسط الطول مائلاً للنحافة، قدماه صغيرتان، كذلك كفاه، أصابعه نحيلة تعينه على خيط التخريج، عيناه عسليتان مدورتان، شارباه قصيران لا يلفتان النظر.
ناولتها إحدى النسوة جزءاً من القرآن الكريم ووزعت باقي الأجزاء. اخترن لها ما تقرؤه لأبيها كي تخفف عنه ضيق القبر في ليلته الأولى، أدّت ما أملينه عليها مساهمة في إتمام “ختمة” من القرآن قبل خروجه في صندوقه من بيته إلى الأبد، استمعت إلى الأصوات الباكية وهي تتحدث عن خير أبيها، خلقه وورعه.
في غرفة الغسيل جهزوه للقبر، ساعدهم الجيران، أصدقاء الطفولة، عمر وعاصم. عندما نادوها كي تودّعه، شدّت أمها معها، لكنهم منعوها، أصبح محرّماً عليها رؤية زوجها بعد موته. منذ ذلك اليوم بدأت عدّة أمها أربعة أشهر وعشرة أيام. أسدلت الستائر التي لم يكن أبوها يسدلها، وأدت ماعليها في غرفتها ساترة نفسها حتى عن من تبقى من رجال العائلة.
المقبرة ليست بعيدة، فخلال ربع ساعة وصل أبوها، حيث مسكنه الجديد. ذهب محمولاً: كان بيننا فجراً وهاهو مستلق وحيداً في غروب النهار نفسه، وجهه إلى القبلة ورائحة عطره الثقيلة تهرب منه. حملوه في نعشه المغطى بالقماش الأخضر والذهبي، أخرجوه من باب البيت الجانبي. كانت أم فطمة تلوّح باكية:
ـ مع السلامة.
قالت مطيعة:
ـ لا تبكي، فدموعك ستحرقه في قبره، دعي زوجك الآدمي يذهب كي يرتاح من الهم الذي تركه نذير على ظهره.
داروا بالميت على كثير من الأحياء والحارات ولم يتذكروا أن يسلكوا طريقه اليومي إلى دكانه الصغيرة. سلكوا إليها طريقاً آخر.
كان أبوها يسلك طريقاً يبدأ بدرج معبد بأحجار ناتئة تنغرز في باطن القدم، يبلغ عرض كل درجة من درجاته مترين، يلتف الدرج التفافة كبيرة حتى تظن فطمة أنها ستعود إلى بدايته، تصطف البيوت على الجانبين فقيرة، عتباتها مشتركة مع البيت المقابل. مساحة أي من هذه البيوت من الداخل لا تتجاوز كثيراً مساحة الدرجة الواحدة. قد تطلّ منها ياسمينة أو دالية صغيرة، فأحواض الحديقة الضيقة لا تتسع لأكثر من نوع واحد. قد يشاهد صحن معدني صغير فيه فتات طعام للقطة، بجانبه وعاء ماء تشرب منه القطة والعصفور.
حارة فارغة من الناس، يقطن بيوتها امرأة عجوز، أو عانس وحيدة، أو أرملة تقوم منذ الصباح لترسل ابنها لشأنه وتذهب هي كي تحضر الخضرة، الخبز، جرة الغاز، وتسدد إيصالات الماء والكهرباء. يسكن أيضاً حارة الدرج هذه رجل خائف ورجل خائف ورجل خائف و.. حكاية خائفة.
شهد هذا الدرج الهابط الصاعد ازدحاماً شديداً، خلال أحداث نذير وأبو شامة. كان أهل المدينة يتراكضون متصادمين، بسبب انعطافاته، فكل منهم يريد العودة إلى بيته، في الأعلى أوفي الأسفل، ناجياً بروحه من رصاصة يطلقها رجال أبو شامة أورجال العم نذير، في الهواء أوفي الرؤوس.
تحتاج فطمة الآن إلى صعود هذا الدرج وهبوطه من أجل إحضار صابون الغار من الدكان الذي كان جاراً لدكان أبيها. تذكر صاحب الدكان الهرم، بالركض الذي ركضه مع أصحاب الدكاكين الأخرى. كان الرجال يتركون رزقهم داشراً، ويهربون خوفاً من رصاصة طائشة أوغير طائشة. أصبحوا يؤرخون كثيراً من الأحداث من تاريخ “الركضة” كذا، أو”الركضة” كذا، أما الرجل صاحب دكان صابون الغار وترابة الحمام وزيت الخروع لتقوية الرموش، فيرجوها ألا تتحدث عن تلك الفترة كي لاتوقظ ذكريات موجعة وذلاً شربه مع الجميع وصار في دمهم، عدا عن أنه خائف مثل الجميع، يريدها أن تسكت كما يسكت ويسكتون، كي لا يدعوه رجال أبو شامة إلى فنجان قهوة، فيغيب، ويتوه ذكره، مثل الغائبين.
داهمها صرخة الحاج عمر المعتادة: لن تُبعث ياحاج عمر. أسرعت إلى الشرفة، فلم تره، التقت عيناها بعيني عاصم في تفاهم صامت آسف لحال رفيق الطفولة المشترك.
سمحوا لأبيها الميت بإلقاء آخر نظرة على دكانه المغلقة بالستار الحديدي. كان القفل ينام على أرض الرصيف، بانتظار المفتاح الذي تأخر عن موعده لأول مرة. قبل أيام كان أبوها يشد “المشكلة”* على القماش وعلى ركبته، فيشكل بأصابعه وإبرته منحنيات من بند التخريج، تأتي دقيقة مثل ما يريد ويسعى.
رحل المعزّون. جدران البيت الحائلة اللون التي شهدت لقاءات وأفراحاً وولائم، ضحكات، نقاشات، مشاحنات، استطالت وضغطت على صدرها، لم تستطع أن تنشغل بالزوار الكثر، استيقظت ليلاً مستندة إلى مرفقيها، الليل فارغ تماماً، تنبهت إلى أن غطاء المخدة كان قميص بيجامة أبيها، ينامون، يتكئون عليها أحياناً، يضعونها في أحضانهم في أحيان أخرى. فكرت:
“هكذا يسرعون في تدبير الفائدة”.
ركوة قهوته الصغيرة باتت تستخدم لسكب الكاز، منشفته التي كان يضعها على جبيـــنه أصبحت ممسحة للأرض، أما بنطال بيجامته فقد سحِب مطاطه وأُعِد ليكون دوّاسة للداخلين. بحثت في الزوايا عن حكمة أبيها ومكدوس أمها، عن ابتسامة أخيها الصغير، ودفتر أختها المدرسي فلم تجد شيئاً، تذكرت أن قطعة زجاج دخلت إصبعها بينما كانت تلملم أوراق الكرمة، فتليف الجلد حولها سريعاً، وسكنت بين العظم واللحم:
“هاأنا أتآلف مع قطعة زجاج”.
قرأت الفاتحة، ووعدت أباها:
“غداً تزهر الشجرة بأزهار الليمون الحقيقية، تعبق رائحتها في الشرفة، تثمر ليموناً حقيقياً، تعطي الياسمينة زهرات بيضاء، تنمو دالية المنزل إلى أعلى، تخترق نافذة غرفة نومك حتى تصل إلى سريرك ، تعود شجرة الصنوبر شامخة أمام الباب، فتسمح لبعض أشعة الشمس أن تدفئ البيت”.
أبوها لم يدخل مخفر شرطة، لم يمثل أمام قاض، علّم كثيراً من الأولاد طريق المدرسة القريبة، شهد غياب كثيرين منهم مع من غابوا، تابع رعايته لمن تبقى منهم حتى الجامعة. لم يغازل امرأة، غير زوجته. تذكرت فطمة، رعايته لنمشة البدوية. كانت تأتي في الربيع لبيع الحليب، أسكنها في الضفة الثانية، فرض على البيت الكبير والأخوة من أهل الضفتين شراء حليب عنزتها يومياً. ورغم إلحاحه على أم فطمة وعلى بقية النساء أن يمسحن محيط قطرميز السمنة في بيت المؤونة عقب كل استخدام، إلا أن رائحة السمنة المنبعثة من باب بيت نمشة البدوية لم تمنعه من زيارتها كل صباح، مبرراً سلوكه:
ـ كان للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أحسن قدوة، مشوار يومي إلى إحدى النساء يشرب عندها حليباً خاصاً ممزوجاً بعسل، تصنعه نحلات يمصصن صمغ الشجر.
قام بتوزيع الكتب التي استغنى أولاد البيت عنها، على أولاد نمشة. أحضر سطلاً خاصاً لشراء حليب عنزة نمشة، الذي لا يكفي كل أهل البيت، لكن رشفات قليلات منه تكفي للبركة والعافية. كان على الأولاد أن يقطعوا الجسر فجراً مترقبين خروج كلب نمشة الذي لم تستغن عنه، يناولونها السطل متذمرين من الاستيقاظ المبكر، يراقبون بيتها، نوم عنزتها في فراشها.
منهل السراج
مجموعة قصصية بعنوان “تخطي الجسر” 1997. فازت قصصها بأكثر من جائزة.
ورواية بعنوان “كما ينبغي لنهر” فازت بالمركز الثالث عن دائرة الثقافة بالشارقة لعام 2002 كانت منعت من النشر في سوريا عام 2000.
رواية بعنوان “جورة حوا” صدرت عن دار المدى عام 2005.
رواية بعنوان “على صدري” صدرت عن دار قدمس دمشق 2007.
مقالات عديدة في الصحف والمواقع العربية
خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتبة منهل السراج
للكتابة الى الكاتبة مباشرة
Sarraj15@hotmail.com