الاستبداد يبدأ دائماً بالمثقّفين
حازم صاغية
في أكتوبر 1964 تمكنت مجموعة تزعّمها ليونيد بريجنيف وأنستاس ميكويان وألكسي كوسيغين من الإطاحة بنيكيتا خروتشيف الذي كان، حتّى حينه، الأمين العامّ للحزب الشيوعيّ السوفييتيّ وزعيم “المعسكر الاشتراكيّ” في العالم. وكالعادة في الأنظمة المغلقة، لم يُعرف آنذاك الكثير من معاني هذا الحدث وأسبابه، فيما تُرك للمحلّلين والمراقبين الغربيّين أن يستنتجوا أن مجموعة نيو- ستالينيّة أرادت أن تتخلّص من سياسات خروتشيف “المائعة والمتردّدة والمتناقضة”.
بيد أن الأسرار ما لبث أن بدّدها التعاطي مع المثقّفين الذين جرت تقاليد الأنظمة الاستبداديّة على جعلهم حقل التمرين الأوّل على ممارسة القمع والتشدّد. وهكذا فإنّنا حين نقرأ التجربة السوفييتيّة من هذه الزاوية، لا يمكننا إلاّ أن نتذكّر بعض ما نعرف ونشاهد في بلدان عديدة أخرى لا تزال أنظمتها تحول دون الحريّات التعبيريّة، وتتعاطى مع المثقّفين بخشونة، جاعلة منهم “عبرة لمن يعتبر”.
فخلال أشهر من تولّيها السلطة، بدأت قيادة الكرملين الجديدة الضغط على الانتلجنسيا ومن يُشتبه به الانتماء إليها أو الصلة بدوائرها. وهكذا، وبعد عدد من التحذيرات الصارمة اللهجة التي حملتها صحافة موسكو الحزبيّة والرسميّة (والاثنان شيء واحد)، اعتُقل، في سبتمبر 1965 كاتبان شابّان هما أندراي سينيافسكي ويولي دانيال. وشيئاً فشيئاً راحت القصّة تتدحرج وتكبر كما كرة الثلج متجاوزةً حدود الاتّحاد السوفييتيّ نفسه.
ما هي الجريمة التي اقترفها المذكوران؟ إنّهما، وباسْمين مستعارين اختاراهما وهما أبرام تيرتز ونيكولاي أرزهاك، هرّبا للنشر في البلدان الغربيّة عدّة أعمال أدبيّة سوفييتيّة مغضوب عليها أو ممنوع نشرها في الداخل أو أن أصحابها لا يجرؤون على الإفصاح عنها أصلاً لمعرفتهم بالنتيجة سلفاً. وكذلك نشر الاثنان في الإعلام الغربيّ مقالة نقديّة قصيرة وصريحة حول الأدب السوفييتيّ الحديث أعطياها عنوان “حول الواقعيّة الاشتراكيّة”. والمعروف أن “الواقعيّة الاشتراكيّة” ما هي إلاّ المعتقد الرسميّ الذي يُحاكَم العمل الأدبيّ بموجبه ويُقيّم في الاتّحاد السوفييتيّ منذ استقرار السلطة البلشفيّة. ثمّ، وفي فبراير 1966، أُخضع الأديبان الشابّان للمحاكمة، وكان لابدّ من خدعة تعتمدها السلطة لتبرير فعلتها هذه: فطالما لم يوجد في الاتّحاد السوفييتيّ حينذاك قانون يحرّم النشر خارج البلد، زعمت السلطة أن مضمون أعمالهما هو بذاته شهادة على ارتكابهما جريمة “مناهضة السوفييت” الخيانيّة.
وقد أدين الاثنان فعلاً وحُكم عليهما بالسجن في معسكرات العمل الجماعيّ الشهيرة. وبدوره، اعتبر الكرملين أن المسألة برمّتها سُوّيت وانتهت مثل سابقات لها كثيرات. ولكنّ ما لم يدر في خلد الحكّام السوفييت أن محاكمة سينيافسكي ودانيال قد صُوّرت سرّاً وسُرّبت إلى الغرب، حيث انطلقت حملة دعم عريضة لهما في أوساط المثقّفين والجامعيّين والإعلاميّين وأهل الرأي العامّ الأميركيّ والأوروبيّ معاً.
والراهن أن ما كان ممكناً تمريره في الأربعينيات والخمسينيات لم يعد ممكناً بالسهولة عينها في الستينيات: ذاك أن إصلاحات خروتشيف، على جزئيّتها وسطحيّتها، سمحت بحدّ أدنى من التواصل الذي شكّل ثغرة في جدار الحرب الباردة والجهل بالآخر. وكذلك، وبسبب تلك الإصلاحات الجزئيّة، صار في وسع المثقّفين والطلبة السوفييت أن يتجرّؤوا على طلب مقادير من الحريّة كانوا، من قبل، لا يجرؤون على تخيّلها.
وفي هذه الحدود، وحسب تجربة سينيافسكي ودانيال، بدا من المدهش أن السلطة الجديدة، في قمعها المثقّفين، إنّما تفوّقت على سلطة ستالين نفسها. فالأخير، على رغم قسوته، بل وحشيّته التي غدت مثالاً يُضرَب، كان لا يضطهد المثقّفين بسبب ما يكتبون بل بسبب ما يفعلون، أو أن هذا، على الأقلّ، ما درجت الدعاية الستالينيّة على قوله وتوكيده في معرض الردّ على النقّاد الغربيّين. أمّا الآن فقد أمست السلطة لا تتورّع عن القول إن “مضمون أعمال” الكتّاب هو، بذاته، “شهادة على ارتكاب” الجرائم!
وما لم يكن متوقّعاً كليّاً في دوائر الحزب الشيوعيّ وأجهزته الرسميّة، أن تنطلق حملة اعتراض غير مسبوقة في تاريخ الاتّحاد السوفييتيّ نفسه، منذ 1917، على اضطهاد سينيافسكي ودانيال. ولئن ظلّت الحملة المذكورة متواضعة ومحكومة، بطبيعة الحال، بسقف منخفض، إلاّ أن الدارسين والمؤرّخين في ما بعد باتوا يرجّحون أن تكون تلك اللحظة الاعتراضيّة هي البداية التأسيسيّة لحركة الانشقاق اللاحقة التي عرفتها موسكو ولينينجراد: ففي 1966 ظهرت، للمرّة الأولى، “سميزدات” (المطبوعات المعدّة ذاتيّاً) ردّاً على تلك المحاكمة، وهي التي غدت السلاح التعبيريّ والاتّصاليّ الأمضى للمنشقّين اللاحقين. كما أن الكثيرين من وجوه المنشقّين البارزين، في السبعينيات والثمانينيات، سجلوا ظهورهم الأوّل آنذاك كمحتجّين ومعترضين على الوضع القائم. وفي 1967 اعتُقل فلاديمير بوكوفسكي، وهو يومها طالب في الخامسة والعشرين، بسبب تنظيمه تظاهرة صغرى في ساحة بوشكين بموسكو، دفاعاً عن الحقوق المدنيّة وعن حريّة التعبير. وكان هو نفسه قد اعتقل، قبل أربع سنوات، بتهمة حيازة “أدب مناهض للسوفييت” فأُودع، على جاري العادة السوفييتيّة، مستشفى للأمراض العقليّة. أمّا الآن فحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات أخرى في معسكر عمل جماعيّ، وأيضاً بسبب “نشاطات مناهضة للسوفييت”.
ويمكن القول، من دون خطر الوقوع في المبالغة، إن محاكمة سينيافسكي ودانيال وردود الفعل عليها أثارت ما بدا واحدة من أبرز مرايا الاتّحاد السوفييتيّ والشيوعيّة الحاكمة آنذاك. أي أنّ تلك المحاكمة كانت الدليل على ما تغيّر وما لم يتغيّر في الحكم والثقافة والاجتماع وطبعاً في تاريخ القمع. وفي المحصّلة النهائيّة انكشف من ذاك النظام وجهه الراكد وروحه المتجهّمة من غير مساحيق، وتأكّد أن المؤتمر العشرين للحزب الشيوعيّ في 1956، وهو الذي دان الستالينيّة، قد ذوى تماماً وانتهت مفاعيله، وأن ليونيد بريجنيف ومجموعته يعملون على ردّ بلدهم إلى ما قبل ذاك المؤتمر.
وهي، على العموم، تجربة سياسيّة بقدر ما هي ثقافيّة، أو أنّها تدمج بين المستويين وتعلن عن حجم تقاطعهما الكبير.
جريدة الاتحاد