الخطر في العقلية التي أعدت مشروع قانون الأحوال الشخصية
ميشال شماس
سألني صديقي المتابع لكتاباتي .. فيما إذا كان مشروع قانون الأحوال الشخصية يشكل خطراً على سورية، وهل يحتاج الأمر لهذه الحملة العنيفة الرافضة والمنددة بالمشروع ومن أعده، وهو مازال مشروعاً، وأمامه طريق طويل حتى يصبح قانوناً نافذا، هذا إذا تم إقراره أصلاً في مجلس الشعب ؟؟ وأضاف الصديق متابعاً: ” لا أعتقد يا صديقي إن هكذا مشروع يعيد سورية إلى عصور الانحطاط سيمّر هكذا ببساطة.. وهو لن يمر بالتأكيد.. فلماذا تشغلون أنفسكم بهكذا مشروع لن يرى النور أساساً ؟ ولماذا لا توفروا جهودكم لمواجهة الأخطار التي تهدد بلادنا فعلاً ..؟ سألته : عن أية أخطار تتحدث؟ فأجاب: تلك الأخطار التي تأتينا من الخارج خصوصاً من جهة إسرائيل ومن ورائها أمريكا، وكذلك الخطر الداخلي المتمثل بالفساد المنتشر في البلاد.. أم إنكم نسيتم تلك الأخطار في غمرة هجومكم المتواصل على مشروع قانون الأحوال الشخصية.؟
قلت له: لا ..لا طبعاً لم ولن ننسى الخطر الخارجي ورأس حربته المشروع الصهيوني المدعوم أمريكياً، ولا ذلك الخطر الداخلي المتمثل بالفساد والذي يشكل ركيزة أساسية من ركائز الخطر الخارجي علينا. فكما أكدت سابقاً أؤكد الآن وفي المستقبل إن نجاحنا في التصدي للخطر الخارجي، خاصة خطر المشروع الصهيوني وإفشاله ومنعه من تحقيق أهدافه، أو على الأقل تحجيم الخسائر التي قد تلحق بنا إلى أدنى حد ممكن، إنما يتوقف على مدى قدرتنا على تنظيف بيتنا من الفاسدين والمفسدين والمنافقين والمرتشين، وأيضاً يتوقف على مدى قدرتنا في وقف خطر الفساد المستشري، هذا الخطر الذي شكل ومازال يشكل إحدى أخطر بوابات العبور التي يحاول الخطر الخارجي النفاذ منها إلى الداخل السوري لتنفيذ أهدافه التي عجز عن تنفيذها من خلال سياسة الضغوطات والتهديدات الخارجية.وقلت أيضاً ولازلت أقول إن نجاحنا في التصدي للمشروع الصهيوني وكل الأخطار الخارجية، إنما يتوقف أيضا وأيضاً على مدى قدرتنا نحن السوريين في الانفتاح على بعضنا البعض، واحترام الإنسان الأخر المختلف عنا، وحقه في أن يقول رأيه وإن كان مخالفاً لرأينا، ويتوقف أيضاً على مدى قدرتنا في إعادة صياغة العلاقة القائمة بين الدولة ومواطنيها على أساس عقد جديد يقوم على الالتزام الطوعي والاحترام المتبادل والمساواة بالمشاركة الفعالة لجميع السوريين في تحمل مسؤولية بناء الوطن على أساس مبدأ المواطنة بصرف النظر عن أي ولاء سياسي أو ديني أو الجنس أو اللون أو العرق..
أما هل يشكل مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد خطراً على سوريا؟ فإن الجواب بكل أسف، نعم يشكل خطراً بكل تأكيد على سورية والسوريين الذين استشعروا خطر هذا المشروع، خطر يعيدهم مئات السنين إلى الوراء، وهو خطر لا يقل خطورة عن تلك الأخطار التي تحدثت عنها يا صديقي. فالخطر ليس في خشيتنا من إقرار مشروع الأحوال الشخصية الذي نعتقد بعدم إمكانية إقراره على الأقل حالياً، وإن الخطر ليس في أحكامه المهينة لكل السوريين رجالاً ونساءً، وليس لأنه يشرع العنف ضد المرأة ، ويعتبرها مجرد عبدة للذكر. وليس لأنه يشرع العنف ضد الأطفال،خاصة اغتصاب الطفلات تحت مسمى البلوغ واحتمال أجسامهن.. وليس في تمييزه الفاضح بين السوريين على أساس ديني ، وليس لأنه يبث الفرقة الدينية والطائفية، ويدعو صراحة إلى تكريس الطائفية، بدل قيام الدولة المدنية الحديثة، وليس في أنه يخالف صراحة أحكام الدستور السوري. والاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها سورية.ويخالف المقاصد السامية للأديان السماوية…وحسب.
بل لأن الخطر الأكبر يأتي من مجرد وجود فئة تفكر بهذه العقلية الظلامية في القرن الواحد والعشرين، التي لا تسيء لنا كأشخاص، قدر ما تسيء إلى مستقبل أولادنا وبلادنا، وبدولة المواطنة والمؤسسات التي نسعى إلى تحقيقها. هذه العقلية الظلامية التي ينشط أصحابها بكل حرية وأمان، لا بل إن بعضهم احتل مركزاً مرموقاً في سدة المسؤولية..وبعضهم الأخر عُهد إليه تعليم أبنائنا وبناتنا في بعض الجامعات والمعاهد والمدارس… فماذا ننتظر بعد؟ بل إن حاملي تلك العقلية وذاك الفكر الظلامي هم من جعلوا دروس “العلوم” في مدارسنا ..مجرد دروساًً على الورق، وإلا بماذا نفسر قيام العديد من المعلمين والمعلمات بالمرور على تدريس الجهاز التناسلي مروراً سريعاً وتجنب شرحه باعتباره يخدش الحياء ويخالف الشرع، وهم الذين يقفون وراء تلك الدعوات التي نسمعها بين الحين والأخر بمنع الاختلاط في المدارس باعتباره يفسد أخلاق الطلاب والطالبات، ويدفع الذكور للتحرش بالإناث،وما ينتج عن ذلك من زنا واغتصاب وفساد في الأخلاق، وهم الذين وقفوا ومازالوا يقفون ضد الدعوات المتكررة بضرورة إلغاء ما يسمى بجرائم الشرف واعتبار مرتكبها مجرماً ومعاملتهم مثل مرتكبي جرائم القتل…الخ.
فهل تريدنا بعد كل ذلك يا صديقي أن نترك هذا الفكر الظلامي يتمدد وينتشر حتى يُحكم سيطرته على سورية والسوريين والسوريات ؟؟ أم نطالب المسؤولين ليس بتجميد هذا المشروع حتى تهدأ عاصفة الردود والانتقادات ،وهي لن تهدأ ؟ بل وبرد هذا المشروع رداً كلياً، واعتباره كائناً لم يكن، فهذا المشروع الذي يفتت سورية ويحط من قدر أبنائها لا يصلح أبداً أساساً للنقاش، ونطلب إليهم تعديل قانون الأحوال الشخصية الحالي، الذي أصبح عاجزاً ومتخلفاً عن مواكبة التطورات الحاصلة في الأسرة والمجتمع السوريين، والتوجه مباشرة إلى تشكيل لجنة وطنية يشارك فيها ذوي الشأن والاختصاص، خاصة من المتخصصين بعلم القانون والاجتماع والتنمية وممثلين عن منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية والمنظمات النسائية الحكومية وغير الحكومية لإعداد مشروع قانون وطني عصري للأحوال الشخصية يوّحد جميع السوريين على أساس قانون مدني يستلهم الفكر النهضوي الحديث، قانون يقوم على أساس مبدأ المواطنة بصرف النظر عن السياسة والدين والعرق واللون والجنس، قانون يعزز من مكانة الأسرة السورية على أساس من الشراكة في الحقوق المتساوية بين الرجل والمرأة، على اعتبار أن الأسرة هي الخلية الأساسية التي يقوم عليها المجتمع، وأداة الدفع الرئيسية في عملية التنمية، والرافد الوحيد الذي يغزي المجتمع بعناصر الاستمرار والبقاء.
فسوريا التي نؤمن بها وطنناً نهائياً لنا نحن السوريين.. لا يمكن ولن نستطيع المحافظة عليها وتطويرها ورفع شأنها عالياً بين الأمم من خلال سياسة الاسترضاء للتيار الديني، كغض النظر عن النشاطات الدينية والسماح بإنشاء المعاهد والمدارس الدينية المسيحية والإسلامية، التي شكلت تاريخياً وما تزال تشكل الوعاء الذي انطلقت وتنطلق منه الحركات الدينية الإقصائية والتكفيرية تحت شعار” الجهاد في سبيل الدين والله”. وهذا الكلام ليس من فراغ، بل له سنده في تلك الاعترافات التي بثها التلفزيون السوري لأعضاء المجموعة الإرهابية التي نفذت التفجير الإرهابي في حي القزاز بدمشق من أن أغلبية أعضاء المجموعة كانوا يتلقون الدروس الدينية في أحد المعاهد الدينية في دمشق، بينما يجري التضييق المستمر على عمل منظمات المجتمع المدني ومؤسساته المختلفة وفي المقدمة منها التضييق على نشاط الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والعمالية والإعلامية، التي لا تؤمن قطعاُ بالعنف، بل تنبذه نهائياً، وتسعى إلى نشر الوعي المجتمعي بين الناس في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية واحترام الإنسان الأخر المختلف..الخ
إن الواجب الوطني والأخلاقي يفرض علينا نحن السوريين أن نحافظ على سورية ونصونها ونحصّنها في مواجهة التحديات والأخطار التي تواجهها اليوم وفي المستقبل، وفي مقدمها خطر انتشار الفكر الظلامي والخطر الصهيوني.
و إن جل ما نحتاجه اليوم حتى نستطيع هزم عقلية التطرف في عقولنا وفي ممارساتنا الفكرية وسلوكنا اليومي، هو أن يُتاح لجميعنا ممارسة حياته بحرية وانفتاح على بعضنا البعض في إطار فكر وسياسة تتسع للجميع بعيداً عن أي تهميش أو إلغاء على قاعدة مبدأ المواطنة بصرف النظر عن الجنس واللون والعرق أو أي انتماء سياسي أوديني .
فسورية بحاجة إلى كل جهد ,وهي تستحق منا جميعاً كل تضحية من أجل عزة وكرامة أبنائها وبناتها.
كلنا شركاء
للاطلاع على كامل مواد مشروع القانون الجديد يمكنك الذهاب الى الرابط التالي
https://alsafahat.net/blog/pdf/Syrian_safahat001.doc