قانون الاحوال الشخصية الجديد

مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد: اقتراحات للخروج من النفق المظلم!

الأرشمندريت الأب أنطون مصلح
فيما يلي سوف نقدم بعض من كثير من الملاحظات حول المشروع، واقتراحات للخروج من نفقه المظلم، ومن ثم لمحة عن تاريخ المحاكم الروحية، وأخيرا محاولة إجابة على سؤال إن كانت قوانين الأحوال الشخصية تشكل امتيازا ممنوحا للطوائف المسيحية في سورية.
فبتاريخ 7/6/2007 أصدر السيّد رئيس مجلس الوزراء القرار رقم /2437/ القاضي بتشكيل لجنة مهمتها إعداد مشروع قانون أحوال شخصية سوري جديد، وعملت اللجنة بسرية تامة لمدة تصل إلى السنتين، حتى انتهت من إعداده بتاريخ 5/4/2009.
وجاء المشروع ليشمل في أحكامه جميع السوريين على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم الطائفية والدينية. واحتوى بين دفتيه على /665/ مادّة، خص منها الطائفة الدرزية بالمادة /619/، والطوائف المسيحية بالمواد /620-655/ والطائفة اليهودية بالمواد /656-665/.
وبمناسبة هذا المشروع بدأ البعض يطرح موضوع تعدد محاكم الأحوال الشخصية وقوانين الأحوال الشخصية في سورية، ويذهب إلى أن في ذلك مخالفة لهذه الشريعة أو تلك، اعتمادا على آراء خاصة، ومن غير عودة إلى التاريخ لتبين أصول نشأتها، وهو ما سنتطرق إليه في القسم الثاني والثالث من هذه الدراسة. فيما سنخصص قسميها الأولين لبعض الملاحظات حول المشروع، ولاقتراح للخروج من نفقه إلى مظلة الدستور.
أولا: مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد
لن أتناول في هذا البحث الملاحظات الكثيرة التي تتعلق بهذا المشروع. حسبي أن أقصر بحثي على المواد التي تتعلق بالمسيحيين (الذميين كما سماهم المشروع في مسودته الأولى)، ألا وهي المواد /620-655/ والمواد /590-625/ من النسخة المعدلة والتي لا تختلف عن المسودة الأولى كثيرا ولا يوجد فيها تعديلات جوهرية سوى استبدال بعض الكلمات بأخرى.
ومن الملفت للنظر في هذا المشروع أن اللجنة (السرية) المكلفة بإعداده قد أعطت لنفسها الحق بأن تشرع ببساطة في عقائد الآخرين، ضاربة عرض الحائط باحترام العقائد وبما نص عليه الدستور السوري.
1- لن أناقش بالتفصيل مواد هذا الباب لأن المبدأ العام هو الخطأ بعينه: فقد تجرأ واضعو المشروع على التشريع ضمن العقائد المسيحية. ذلك أن الزواج المسيحي، وإن استعملت كلمة عقد للتعبير القانوني عنه، إنما هو سرّ. والسرّ في المسيحية ما هو بالشيء الخفي، بل هو عمل الله في الإنسان. وبالتالي فإن الزواج المسيحي هو عمل ديني تنظمه العقائد الدينية، والكنيسة هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن ترجمة هذه العقائد بتشريعات قانونية، من منطلق سلطتها الدينية، من جهة، ولأنها الأقدر على فهم كنهها ومقتضياتها، من جهة أخرى.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد شرع المشروع الجديد موضوع الطلاق. والطلاق مرفوض في المسيحية، استنادا إلى قول السيّد المسيح: “ما جمعه الله لا يفرقه إنسان”. وما شرعته بعض الطوائف المسيحية في موضوع الطلاق، إنما جاء على سبيل الاستثناء، وفي أضيق الحدود، كما لعلة زنى مثلا. أمّا المبدأ العام فهو أن لا طلاق في المسيحية. فيما نجد أن المشروع الجديد قد تجرأ وشرع الطلاق للطوائف المسيحية كمبدأ لحل الزواج وفسخه.
وأسوق مثالا آخر على التطاول على العقيدة المسيحية، ألا وهو تشريع تعدد الزوجات في المسيحية، وبما لا تقبل به العقيدة المسيحية التي تنص على مبدأ الزواج الأحادي، أو الوحدانية في سر الزواج، التي هي من خصائص الزواج المسيحي. فبالعودة إلى نص المادة 607 نجد:
المادة 607
يجوز لكل من الزوجين أن يطلب التطليق بسبب زنى الزوج الآخر، أو زواجه الثاني.
إذن إذا لم يتقدم الزوج الآخر بدعوى التطليق فالزواج الثاني يبقى قائما سواء أكان للزوج أم للزوجة. وهكذا نجد أن التشريع الجديد لم يقر مبدأ تعدد الزوجات للرجل وحسب، بل وأجاز تعدد الأزواج أيضا بالنسبة للمرأة. وهذا أمر مرفوض قطعا في المسيحية.
هذا غيض من فيض. وقد سقت النقاط السابقة على سبيل المثال لا الحصر، لأخلص إلى القول أن مبدأ التشريع في العقائد المسيحية مرفوض بحد ذاته، وأنه مخالف للشريعة الإسلامية: “لكم دينكم ولي دين”.
2- التمييز بين الأديان وترجيح دين على آخر:
من مطالعة، وإن كانت سريعة، لنص هذا المشروع (في مسودته الثانية)، نجد أنه يخالف مخالفة صريحة نص الدستور السوري القائل: “المواطنونَ متساوونَ أمامَ القانونِ في الحقوقِ والواجبات”: المادةُ 25 الفقرةُ 3 من الدستورِ؛ والمادة 35 الفقرة 1 القائلة: “حرية الاعتقاد مصونة وتحترم الدولة جميع الأديان”؛ والمادة 42: “الحفاظ على الوحدة الوطنية وصيانة أسرار الدولة واجب على كل مواطن”.
لنستعرض الأحكام الواردة في مشروع قانون الأحوال الشخصية التي تميز بين السوريين على أساس ديني بشكل ضمني أو صريح:
1- المواد 9 و10 و12 تجعل المحكمة الشرعية مختصة بمسائل الولاية، والوصاية والنيابة الشرعية… مانحة إياها السلطة بشكل مطلق وعام، بدلا عن المحاكم الروحية والمذهبية.
فهل تجوز ولاية المسلم على المسيحي على اعتبار انه لا ولاية على المسلم لغير المسلم. أما كان الأحرى بالمشرع أن يترك الأمر للمحاكم المدنية، عوضا عن أن ينزعها من محكمة طائفية إلى محكمة طائفية أخرى؟
2- المادة 14 نصت على أن أحكام المحكمة الروحية قابلة للطعن أمام غرفة شرعية خاصة في محكمة النقض، يكون أحد أعضائها من غير المسلمين، ويختاره مجلس القضاء الأعلى. وقد جاء ذلك خلافا لأحكام المادة 46 من قانون السلطة القضائية التي حددت رقابة محكمة النقض وحصرتها بـالأحكام الصادرة عن المحاكم الروحية في مواضيع الاختصاص:
أ‌- مخالفات الأحكام للقانون والأصول.
ج- قابلية الأحكام للتنفيذ.
د‌- تشكيل المحاكم الروحية.
نجد أن المشروع الجديد قد أعطى لمحكمة النقض أن تكون محكمة موضوع، بما يخالف قانون السلطة القضائية؛ عدا عن أن الزواج المسيحي، كما أشرنا إليه أعلاه، هو زواج ديني يخضع لشرائع وعقائد دينية، وبالتالي لا تعقده إلاّ الكنيسة ولا تحله إلا الكنيسة.
3- المادة 15 جعلت الاختصاص للمحكمة الشرعية في جميع القضايا بما في ذلك النسب والوقف الخيري… مرة أخرى أعطى هذا المشروع للمحكمة الشرعية الولاية العامة على غير المسلمين، وكان حري بالمشرع أن يترك الأمر لمحكمة مدنية.
4- المادة 17 تخالف ما نص عليه قانون الأحوال المدنية لجهة اختصاص محكمة الصلح المدني بتصحيح الأحوال المدنية، وكذلك اختصاص المحاكم الروحية.
5- ميز القانون بين السوريين على أساس ديني في المادة 37 فقرة 3 التي نصت على أنه: “تجوز شهادة الكتابي إذا كانت الزوجة كتابية، حين الضرورة، ولكن لا يثبت الزواج إذا جحده الزوج المسلم، ويثبت إذا جحدته الكتابية”. وذلك خلافا لأحكام الدستور ولاسيما المادتين 25 و35 ومنه.
وهكذا نجد أن واضعي هذا المشروع قد جعلوا من الكتابيات (المسيحيات) سبايا لا يستطعن أن يجحدن الزواج وإن كان بادعاء غير صحيح.
6- وفي المادة /87/ لم يكتف مشروع القانون بالتمييز بين السوريين على أساس ديني، بل زاد عليها حالة زواج المرتد أو المرتدة التي لم تكن موجودة في القانون النافذ: 1- زواج المسلمة بغير المسلم باطل. 2- لا ينعقد زواج المسلم بغير المسلمة ما لم تكن كتابية. 3- لا ينعقد زواج المرتد عن الإسلام أو المرتدة ولو كان الطرف الآخر غير مسلم. وفي هذا ما يتعارض مع المادة 35 من الدستور، ومع كافة المواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها سوريا.
7- ويعود مشروع القانون للتمييز بين السوريين على أساس ديني في المادة 307 التي نصت:”1-ابن المسلم يكون مسلما. 2- ابن غير المسلمين يكون على دين أبيه. 3- إذا أسلم الزوجان معا كان القاصر من أولادهما مسلما، سواء أكان مولودا بعد الإسلام أم قبله. 4-إذا اسلم أحد الزوجين كان دين الصغير هو الإسلام، على أن يبقى له حق اختيار الدين عند بلوغه سن الرشد خلال شهر من بلوغه، شريطة أن لا يكون قد صدر عنه ما يدل على إسلامه قولا أو فعلا. 5-لا يطبق حق اختيار الدين على الصغير الذي ولد بعد إسلام أبيه. وذلك خلافا لأحكام المادة 129 من كتاب قدري باشا المنصوص عليه في قانون الأحوال الشخصية السوري النافذ، التي نصت حرفيا على أنه: ((إذا أسلم أحد الزوجين وكان بينهما ولد صغير أو ولد لهما قبل عرض الإسلام على الآخر أو بعده يتبع من أسلم منهما إن كان الولد مقيما في دار الإسلام سواء كان من أسلم من أبويه مقيما بها أو في غيرها، فإن لم يكن الولد مقيما بدار الإسلام فلا يتبع من أسلم من أبويه)). ومعروف أن مفهوم دار الحرب، ودار الإسلام قد سقط نهائيا على يد كمال أتاتورك عندما أنهى الخلافة العثمانية.
8- المادة 154 (لا نفقة مع اختلاف الدين إلا للأصول والفروع) تتناقض مع المادة 546 التي تمنع الإرث مع اختلاف الدين. فكيف يلزم بالنفقة إذا كان ممنوعا من الإرث.
9- المادّة /253/ فقرة 2 “تثبت الولادة وتعيين المولود بشهادة الواحد العدل المسلم ذكرا كان أم أنثى.” ولكن في حال كانت العائلة مسيحية، أو كانت المحلة ذات أغلبية مسيحية، فهل تحتاج أن تبحث عن شخص مسلم كي تثبت الولادة؟ وهل شهادة المسيحي لا يعتد بها لإثبات ولادة المسيحي أو المسلم؟
10- المادة 268 الفقرة “ج” (ضرورة اتحاد الدين بين الرجل الحاضن والمحضون) أي أنه إذا أسلمت الزوجة أتبع الأولاد حسب المشروع إلى دين الأم (الإسلام) ويحرم الوالد بالتالي من حضانة أولاده والولاية على النفس حسب المادة 338 في حين أنه ملزم بالإنفاق عليه.
11- وأما المادتان 276 – 277 فقد نزعتا حضانة الأم غير المسلمة للطفل عندما يبلغ أربع سنوات من عمره. فهل يعقل نزع هذا الطفل من حضن أمه فقط لأنها مسيحية؟ أم أن المسيحية ليست أما ولا تتمتع بمشاعر الأمومة؟
12- التمييز في العدة على ما نصت عليه المادة 594: (لا يجوز العقد على من انتهى زواجها إلا: أ- بوضع الحمل المستبين. ب- بعد سنة لغير الحامل من تاريخ انتهاء التطليق أو وفاة الزوج). بينما نصت المادة 231 من نفس مشروع القانون على أن عدة المرأة المسلمة للمتوفى عنها زوجها إن لم تكن حاملا بمضي أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام من يوم وفاته، وثلاثة أشهر للمرأة المطلقة..!). فإضافة إلى فرض مفهوم العدة غير الموجود في التشريع المسيحي، لم يكتف المشرع بهذا التمييز، بل وقع بالتناقض مع المادة 623 التي تنص على: “مدة العدة سنة من تاريخ الفراق ولو وضعت الزوجة حملها”.
13- تفضيل المسلم على غيره في المادة 261 التي اعتبرت الطفل المهمل مسلما إذا وجد وليدا مجهول الأبوين. وما هو مصير من وجد في منطقة مسيحية هل يعتبر مسلما أيضا؟؟؟ أو وجد معه ما يدل على دين أبويه كصليب أو ورقة تحمل اسمه أو…؟؟؟ وهذا يناقض ما ورد في قانون الأحوال المدنية.
وراجع أيضا من هو الطفل المهمل بحسب المادة 257
14- المادة /361/ “على الوصي أن يودع باسم القاصر في خزانة الدولة أو في مصرف إسلامي..” وهل باقي المصارف لا تتوافق مع قانون الدولة أو النظام المصرفي في سورية لكي يجبر الوصي المسيحي على وضع أموال القاصر في المصارف الإسلامية؟ هذا لا يعني أنني ضد المصارف الإسلامية ولكن للدلالة على ذهنية من وضع القانون من جهة، وللدلالة على المشروع الأكبر الذي يرمي له واضعو المشروع، من جهة أخرى.
هل يمكنُ أن يكونَ هذا حقيقة؟ هل يمكنُ أن يكونَ هناكَ تناقضٌ ما بينَ نصِّ الدستورِ وروحِ الدستورِ من جهة، ومشروع القانون الجديد؟.
وكيفَ يمكنُ تفسيرُ هذا الأمرِ على الصعيدِ القانوني؟
لهذه الأسباب ولغيرها فإننا نرفض مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد جملة وتفصيلا وإن كان لا بد من قانون أحوال شخصية موحد لكافة السوريين فإننا نقترح الآتي:
ثانيا: اقتراح للخروج من هذا النفق المظلم والمجحف بحق شريحة من المواطنين
الدستورُ يجمعُنا، والقانونُ يُفَرقُنا.
لنبحثْ هذا على ضوءِ الدستور- والدساتيرُ كما نعرفُ هي عنوانُ تقدمِ الأممْ ومعيارُ حضارَتِها- ومن خلالِ المقارنةِ مع مشروع قانونِ الأحوالِ الشخصية، أي القانونِ الذي ينظمُ حياةَ الأفرادِ والجماعات، ذكورا وإناثا، والتي بدونِها لا تستقيمُ الأوطان.
قبلَ كلِّ شيء، لا بدَّ من التذكير بما يلي: “فخلقَ اللهُ الإنسانَ على صورتِهِ، على صورةِ اللهِ خلقَهُ، ذكرا وأنثى خلقهم” (سفر التكوين 1/ 27). وإذا كانَ سبحانَهُ وتعالى قد آثرَ أن يخلقَ حواءَ من ضلعِ آدم، فذلك كي يشعرَ آدمُ أنَّ حواءَ ما هيَ إلاّ لحمٌ من لحمِهِ وعظمٌ من عظمِهِ، أي أنها مثيلتُهُ. “لذلكَ يتركُ الرجلُ أباه وأمَّهُ ويلزَمُ امرأَتَهُ ويصيرانِ جسدا واحدا (تكوين 2/ 24).
أمّا الذهابُ إلى تفسيراتٍ خاطئةٍ تقومُ على الشعورِ بدونيَّةِ المرأة، وعدمُ اعتبارِها مخلوقا كاملا، فهو ما لم ترمِ إليه مشيئتُهُ عزَّ وجل، في مسيرةِ هذا الكونِ الفائقِ في عظمتِهِ وروعتِهِ وتكامُلِهِ.
وما هذهِ التفسيراتُ الخاطئةُ في نظرةِ الرجلِ للمرأةِ إلاّ نتاجُ موروثٍ اجتماعيٍّ لفتراتٍ غيرِ مضيئةٍ في تاريخِ البشرية.
ففي العصورِ القديمة، كانتِ المرأةُ في مرتبةِ الآلهة، وكانت رمزا للإنتاجِ والخصوبةِ والخير، وارتبطَ وجودُها مع الأرضِ المعطاء التي تُطعِمُ البشرَ من خيراتِها الطيبة.
والشرائعُ الشرقيةُ القديمةُ، ومنها شريعةُ حمورابي، حفظَتْ للمرأةِ مكانتَها الساميةَ ودورَها الرائدَ في الحياةِ الاجتماعية. وتظهِرُ النصوصُ الناظمةُ لحياةِ الأسرةِ أنَّ المرأةَ كانَ من حقِّها الطلاقُ من زوجِها, وكانَ من حقِّها رعايةُ أبنائِها, وممارسةُ العملِ التجاري, وكانَ لها أهليةٌ قانونية, وذمةٌ ماليةٌ مستقلةٌ عن ذمةِ زوجِها. وبالمقابلْ، كانَ لها الحقُّ في تلقي الرعايةِ والنفقة.
وقد وُضِعَتْ عقوباتٌ قاسيةٌ على الشخصِ الذي يسيءُ معاملتَها, أو ينتهكُ حقا من حقوقِها الثابتة.
وفي العهدِ الإغريقي، في جمهوريةِ أفلاطون, احتلتِ المرأةُ دورا مميزا، وتبوأَت مكانة عالية، عندما ساوى أفلاطونُ بينها وبينَ الرجلِ في إدارةِ الدولة.
غيرَ أنَّ هذهِ المكانةَ انتكستْ وتقهقرَتْ. وبدلا من أن تتقدمَ المرأةُ بما يتناسبُ مع قيمتِها الإنسانيّة، ودورِها الكبيرِ كشريكٍ للرجلِ وكعضوٍ فاعلٍ في المجتمع، تراجعَ وضعُها على الصعيدِ الاجتماعي والاقتصادي والقانوني، إلى الحدِّ الذي بدأت نساءُ العالمِ تواجِهُ معهُ تحدياتٍ كبيرة لإثباتِ وجودِها، وتحقيقِ المساواةِ مع الرجل.
ورغْما عن أنَّ المهمةَ الأولى للدستورِ الحديثِ هي بناءُ مؤسساتٍ ديمقراطية تكونُ دعامة حقيقية لمجتمعٍ مستقرٍ، وتكريسُ سيادةِ القانونِ واحترامُه، وتفعيلُ الرقابةِ المؤسسيةِ الفاعلةِ المستندةِ إلى القوانينِ والدستورِ معا، فقد تجلى هذا التراجعُ في مكانةِ المرأةِ وحقوقِها في العديدِ من دساتيرِ الدول، وفي الكثيرِ من قوانينِها.
لذلكَ، وتاليا لشيوعِ مبدأِ المساواةِ في العالمِ وفقَ ما نصَّتْ عليهِ المواثيقُ الدولية (ميثاقُ الأممِ المتحدةِ والإعلانُ العالمي لحقوقِ الإنسان – العهدانِ الدوليان)، توالتِ القراراتُ الدوليةُ لتحسينِ أوضاعِ المرأة، حيثُ اعتمدتْ عام 1952 اتفاقيةَ الحقوقِ السياسيةِ للمرأة، وعام 1957 اتفاقيةَ جنسيةِ المرأةِ المتزوجة، وبعدَها كانتْ اتفاقيةُ الرضى بالزواج، والحدِّ الأدنى لسنِّ الزواج، وتسجيلِ عقودِ الزواجِ لعام 1962. وعُقِدَتْ بعدَها عدةُ مؤتمراتٍ دوليةٍ، وأُعلِنَ عامُ 1975 عاما دوليا للمرأة، وتضافرتِ الجهودُ الدوليةُ إلى أن كانت اتفاقيةُ القضاءِ على جميعِ أشكالِ التمييزِ ضِدَّ المرأةِ المعروفةِ باسمِ “سيداو” التي أُقِرَّتْ عامَ 1979، ودخلتْ حيزَ التنفيذِ عامَ 1981
وتُعتبَرُ هذه الاتفاقيةُ ثمرةَ ثلاثينَ عاما من الجهودِ والأعمالِ الدولية، التي قامَ بها مركَزُ الأممِ المتحدةِ الذي أُسِّسَ عام 1946، تكريسا لأهميةِ إيجادِ الحلولِ لمشكلةِ التمييزِ ضدَّ المرأة. وقد تضمنتْ برنامجا كاملا حولَ كيفيةِ القضاءِ على كافةِ أشكالِ التمييزِ بينَ الجنسين.
ولا عجب أن تعمدَ سورية إلى توقيعِ اتفاقيةِ سيداو، التي تُعتبَرُ بمثابةِ إعلانٍ عالميٍّ لحقوقِ المرأة، لما تتمتعُ بهِ من شموليةٍ في معالجةِ قضايا التمييزِ ضدَّ المرأةِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ العامةِ والخاصةِ، والتي اعتبِرَت الأساسَ القانونيَّ والعمليَّ للقضاءِ على التمييزِ ضدَّ النساءِ في العالم، وبمثابةِ مؤشرٍ على التزامِ الدولِ الأطرافِ فيها بتحقيقِ المساواةِ أمامَ القانونِ في تشريعاتِها الوطنية، وتعديلِ ما هو مخالفٌ لها. وهي التي كانتْ من الأعضاءِ المؤسسينَ لميثاقِ الأممِ المتحدةِ الذي اعتُمِدَ في سان فرانسيسكو إِثرَ انتهاءِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ في العام 1945، والذي يُعتَبَرُ أولَ معاهدةٍ دوليةٍ تشيرُ بعباراتٍ محددةٍ إلى تساوي النساءِ والرجالِ في الحقوق. فقد كانت سوريةُ من بينِ الدول الثماني والأربعين التي صوتتْ لصالحِ اعتمادِ الإعلانِ العالميِّ لحقوقِ الإنسان، في جلسةِ الجمعيةِ العامةِ للأممِ المتحدةِ التي انعقدتْ بتاريخ 10 كانون الأول 1948، وهي صادقتْ على العهدِ الدوليِّ الخاصِ بالحقوقِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ لعامِ 1966 وذلكَ بتاريخِ 21/4/1969.
وهذا ما يفسرُ أنَّ الدستور الصادرَ بالمرسوم رقم 208 للعام 1973، والذي أُقِرَّ نتيجة للاستفتاءِ العامِ بتاريخ 12/3/1973، قد جاءَ ليكرِّسَ مكانةَ المرأةِ الساميةِ، ومساواتَها معَ الرجلِ في الحقوقِ والواجبات.
كما يفسرُ أن تكونَ الاتفاقياتُ الدوليةُ التي وَقَّعَتْ عليها سوريةُ، هي تلكَ التي تتفقُ تماما معَ ما جاءَ في الدستورِ، حولَ هذه المساواةِ في الحقوقِ والواجباتِ.
لقد نصتْ المادةُ 25 الفقرةُ 3 من الدستورِ على ما يلي:
“المواطنونَ متساوونَ أمامَ القانونِ في الحقوقِ والواجبات”.
والمواطنونَ كما نعلمُ همُ السوريونَ، ذكورا وإناثا.
لكنَّ المؤسفَ هو أنَّ هذه المساواةَ التي نصَّ عليها الدستورُ تصطدمُ في الواقعِ بعقباتٍ لا يمكنُ التقليلُ من أهميتِها، خاصة وأنَّ مصدرَها هو قانونُ الأحوالِ الشخصيةِ الصادرِ عام 1953، الذي يعتمِدُ على قانونِ حقوقِ العائلةِ العثماني وغيرهِ من المصادرِ البالغةِ في القِدَمْ، أي أنهُ قانونٌ يتبنَّى مفهومَ الثقافةِ الذكورية.
وتتمثلُ المشكلةُ في أنَّ قانونَ الأحوالِ الشخصيةِ، وهو القانونُ الذي ينظِمُ حياةَ الأسرةِ على صعيدِ الزواجِ والطلاقِ والولايةِ والحضانةِ والوصايةِ والوصيةِ والإرثِ والنفقةِ وحريةِ المرأةِ في الخروجِ للعملِ وحريةِ السفر الخ…، مخالفٌ في معظمِ موادهِ لموادِ الدستورِ، لاسيما المادّة 25 الآنفةُ الذكرِ والمتعلقةُ بالمساواةِ والحريةِ ومبدأِ تكافؤِ الفرص، والمادّةُ 44 المتعلقةُ بحمايةِ الأسرةِ وإزالةِ العقباتِ الماديةِ التي تعيقُ الزواجَ وتَحمي الأمومةَ والطفولة، والمادّةُ 45 أيضا التي تنصُ على إزالةِ القيودِ التي تمنعُ تطورَ مساهمةِ المرأةِ الفعالةِ ومشاركتَها في بناءِ المجتمع.
وفي حين تقضي المادّةُ 153 من الدستورِ أن “تبقى التشريعاتُ النافذةُ والصادرةُ قبلَ إعلانِ هذا الدستورِ ساريةَ المفعولِ إلى أن تُعدَّلَ بما يوافِقُ أحكامَهُ”، فقد جاء مشروع قانون الأحوال الشخصية غير متوافق مع أحكام الدستور لا بل يخالفها مخالفة صريحة وعلى أكثر من صعيد.
وتتمثلُ المشكلةُ في أنَّ قانونَ الأحوالِ الشخصيةِ ليسَ قانونا موحَّدا لكافةِ السوريين، إذ أنه يَضُمُّ بينَ دُفتيهِ ثمانيةَ قوانينَ للأحوالِ الشخصية: قانونا للمسلمينَ، وقانونا للدروزِ وخمسةَ قوانينَ للطوائفِ المسيحيةِ بمختَلفِ مذاهبِها، وواحدا للطائفةِ اليهوديةِ، وفي أنَّ هذهِ القوانينَ “الطائفيةَ” لا تساوي بينَ المواطنينَ في الحقوقِ والواجباتِ، فهناك طائفةٌ تعطي للمرأةِ حقوقا أكثرَ مما تعطيهِ الطوائفُ الأخرى، وهناكَ طائفةٌ تمتلِكُ رؤية خاصة للمرأةِ تختلِفُ فيها عن غيرِها من الطوائِفْ.
وإذا كانتْ معظمُ موادِ القانونِ محفوظة للطوائفِ المسلمةِ، فهناكَ:
1- المادّةُ 307 الخاصّةُ بالطائفةِ الدرزيةِ، التي تجيزُ لأبناءِ هذه الطائفةِ تطبيقَ تشريعاتِهمِ الدينيةِ على صعيدِ الزواجِ والطلاقِ والإرثِ والوصيةِ الخ…
2- المادّةُ 308 التي تقضي بأنْ تطبِّقَ الطوائفُ المسيحيةُ واليهوديةُ ما لديها من تشريعاتٍ دينيةٍ في موضوعِ الخطبةِ، والزواجِ وشروطِ عقدِهِ وفسخِهِ وبطلانِهِ، وفي الحضانةِ ونفقةِ الزوجةِ ونفقةِ الصغيرِ، وكذلك في البائنةِ أي “الدوطة”.
وهناك موادٌ تتعلقُ بالدروزِ والمسيحيينَ واليهودِ، لكنَّ الاختصاصَ معقودٌ فيها للمحاكمِ الشرعيةِ، التي تنظرُ فيها بحسَبِ أحكامِ الشريعةِ الإسلامية.
هذا التوزيعُ القانونيُّ أربكَ المواطنَ وشتتَهُ، وجعلَهُ يتساءَلُ كلّما اعترضَتْهُ مسألةٌ قانونيةٌ عنِ الجهةِ القضائيةِ الصالحةِ للبتِّ فيها، أهي المحكمةُ الشرعيةُ أم الروحيةُ أم المذهبيةُ!!! وهلِ القانونُ الواجبُ تطبيقُهُ هو الشرعُ الإسلاميُّ، أم التشريعُ المسيحيُّ الخاصُ بالطائفةِ، أم التشريعُ الدرزي!!!
وعدمُ وجودِ تشريعٍ واحدٍ يخضَعُ له الجميعُ، جعلَ المساواةَ مفقودة في بعضِ المجالات، كالنفقةِ على سبيلِ المثالِ، أو حريةِ العملِ والسفرِ، أو التعويضِ عن مسؤوليةِ فكِّ عُرى الزواجِ، وتركِ مرارةٍ كبيرةٍ في قلوبِ أولئكَ الذينَ يرَوْنَ أن تشريعَ الطائفةِ الأخرى هو أفضلُ من تشريعِهم لجهةِ النفقةِ أو التعويضِ أو الإراءةِ الخ…
وكلُّ هذا يخلقُ إشكالية قانونية كبيرة مع ما نصَّ عليهِ الدستورُ- الذي هو في الأساسِ الإطارُ العامُ للقوانينِ -، إشكالية من شأنِها أن تؤدي، على الصعيدِ الاجتماعي، إلى خللٍ خطيرٍ في العلاقاتِ الأسريةِ والاجتماعيةِ.
كيفَ السبيلُ للخروجِ من هذهِ الإشكاليةِ، وتحقيقُ المساواةِ التامةِ بين الرجلِ والمرأةِ بحسبِ ما نصَّ عليهِ الدستورُ؟
نقترِحُ الحلَّ التالي، الذي نعتقدُ أنهُ الحلُّ الأمثلُ لإعادةِ الحياةِ إلى المادّةِ 153 من الدستورِ.
– فحيثُ أن المادّةَ 35 الفقرةُ 1 من الدستورِ قد نصتْ على أنَّ: “حريةَ الاعتقادِ مصونةٌ وتحترِمُ الدولةُ جميعَ الأديان”.
– وحيثُ أنَّ قانونَ الأحوالِ الشخصيةِ يتضمَّنُ نوعَينِ من المفاعيل:
أ‌- المفاعيلَ الدينيةَ وهي التي تتعلقُ بموضوعِ الخطوبةِ والزواجِ وشروطِ عقدِهِ وفسخِهِ وانحلالِهِ.
ب‌- والمفاعيلَ المدنيةَ المتعلقةَ بما ينشأُ عن الزواجِ من آثارٍ مدنيةٍ ترتبطُ بالحضانةِ والنفقةِ والمسكنِ الشرعيِّ والأشياءِ الجهازيةِ والولايةِ والوصايةِ والإرثِ والوصيةِ إلى ما هنالكَ من أمورٍ.
– وحيثُ أنَّ المفاعيلَ الدينيةَ للزواجِ، أي شروطَ عقدِهِ وانحلالِهِ وفسخِهِ وطلبِ الهجرِ هي تلكَ التي تمسُّ العقيدةَ، أي الناحيةَ التي تلتصقُ بالفردِ وبالمجتمعِ التصاقا تاما وتُمثِّلُ بالنسبةِ له قطاعا لا يجوزُ المساسُ بهِ أوِ الاقترابُ منهُ:
أولا – تُترَكُ المفاعيلُ الدينيةُ هذهِ إلى المرجعياتِ الدينيةِ الخاصةِ بكل طائفةٍ من الطوائفِ.
وهذا يصونُ المعتقداتِ الدينيةَ لكلِ فردٍ من أفرادِ المجتمعِ السوريِّ.
ثانيا – يُسَنُّ قانونُ أحوالٍ شخصيةٍ موّحدٌ.
وذلكَ لكلِ أشكالِ الطيفِ التي تشكلُ نسيجَ هذا الوطنِ، ينظمُ حصرا المفاعيلَ المدنيةَ للزواجِ المنوهَ عنها أعلاهُ، أي تلكَ التي تشمَلُ كما نعرفُ المسكنَ الشرعيَّ ونفقةَ الزوجةِ ونفقةَ الأولادِ (صغارا وكبارا) ونفقةَ الأقاربِ، والولايةَ، والحضانةَ، والوصايةَ، والإرثَ والوصيةَ الخ…
شريطةَ أن يُحقِّقَ هذا القانونُ الموّحدُ المساواةَ التامةَ بينَ الرجلِ والمرأةِ في الحقوقِ والواجباتِ كما نصَّ عليهِ الدستورُ وأن يحترم الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها سورية.
ثالثا – يتمُّ إنشاءُ محكمةٍ يُطلَقُ عليها اسمُ “محكمةُ شؤونِ الأسرةِ”.
وتكونُ هذهِ المحكمةُ مختصة للنظرِ في الدعاوى المتعلقةِ بالمفاعيلِ المدنيةِ للزواجِ لكافةِ السوريينَ. أمّا القانونُ الواجبُ تطبيقُهُ، فهو قانونُ الأحوالِ الشخصيةِ الموّحدُ الآنفُ الذِّكر.
هذا الحلُّ يحققُ الغاياتِ الثلاثَ المرجوةَ من وراءِ التغييرِ المطلوبِ، والتي تتمثلُ بما يلي:
1- احترامُ الاتفاقياتِ والمعاهداتِ الدوليةِ من جهةٍ، والدستورِ من جهةٍ أخرى.
2- المحافظةُ على العقيدةِ والحرياتِ الدينيةِ.
3- وضعُ حدٍّ للإرباكِ الذي يقعُ فيه المواطنُ وذلكَ من خلالِ سَنِّ قانونٍ موّحدٍ للمفاعيلِ المدنيةِ يحفظُ المساواةَ الكاملةَ بينَ السوريينَ جميعا في موضوعِ الحقوقِ والواجباتِ، وتنظرُ بهِ محكمةٌ موّحدةٌ هي محكمةُ شؤونِ الأسرةِ.
ومن شأنِ هذا الحلِ أيضا أن يضعَ حدا للإشكالياتِ الاجتماعيةِ الناتجةِ عن الزواجاتِ المختلطةِ، والتي يساهمُ اختلافُ القوانينِ الخاصّةِ بكل طائفةٍ من الطوائفِ في إحساسِ أحدِ طرفَيْها بالغبنِ، وذلك نتيجةَ هيمنةِ تشريعاتِ الطرفِ الآخرِ على حياتِهِ ومصيرِهِ.
وهكذا، لا يعودُ من الجائزِ القولُ إنَّ نصَّ المادّةِ 153 من الدستورِ، والذي سبقَ ذكرُه أعلاهُ، هو معطلٌ، أو أنه حبرٌ على ورقٍ.
كما لا يعودُ من الجائزِ القولُ بأنَّ المادةَ 27 من الدستورِ التي تنصُ على ما يلي: “يمارسُ المواطنونَ حقوقَهُم ويتمتعونَ بحرياتِهمْ وِفقا للقانونِ” تعني في الحقيقةِ ” وفقا للقانونِ الخاصِ بِكلِّ طائفةٍ”.
فلنعملْ معا من أجلِ أبناءِ هذا الوطنِ الحبيبِ سورية، مهدِ الحضاراتِ.
ولننشرْ ثقافةَ حقوقِ الإنسانِ التي كانتْ سوريةُ، وكما ذكرنا آنفا، رائدة فيها منذُ منتصفِ القرنِ الماضي.
والإنسانُ هو الرجلُ وهو المرأةُ، دونَ أيِّ تمييزٍ بينهُما.
وفي الختامِ، ومن وجهةِ نظرٍ خاصةٍ، أعتقدُ أنَّ هذا الحلَّ أو هذا الاقتراحَ هو السبيلُ الأمثلُ لإعادةِ الحياةِ إلى نصِّ وروحِ الدستورِ، من حيث أنهُ يصونُ الحرياتِ والمعتقداتِ الدينيةَ المتعلقةَ بالزواجِ من جهةٍ، ويوّحدُ بينَ المواطنينَ في كلِ ما يتعلقُ بآثار الزواجِ المدنيةِ من جهةٍ أخرى.

لنستعرض تاريخ المحاكم الروحية وقوانين الأحوال الشخصية:
ثالثا – لمحة عن تاريخ المحاكم الروحية
اختلف فقهاء القانون في أسباب وتسمية ما تمتعت به الطوائف المسيحية عبر التاريخ من حقوق في تشريعاتها وقضائها وممارسة طقوسها الدينية، منذ السنة 318 ميلادية، أي منذ أن منح الإمبراطور الروماني قسطنطين الكبير الأساقفة السلطة القضائية، واعتبرهم قضاة، وأجاز المرافعة أمامهم، واعتبر أحكامهم مبرمة غير قابلة للاستئناف، وهو ما استمر بعد الفتح الإسلامي حتى يومنا هذا.
فمنهم من ربط بين هذه الحقوق وبين الامتيازات الأجنبية القديمة في عهد السلطنة العثمانية منذ عهد السلطان محمد الفاتح، في حين أن تلك التشريعات المسيحية ومحاكمها وممارسة الطقوس هي أقدم عهدا من ظهور الدولة العثمانية وفتوحاتها، وما منحته من امتيازات للأجانب فيها.
ومنهم من ربط بينها وبين أحكام الشريعة الإسلامية، المؤسسة على نظرية شخصية القوانين.
في هذا المجال، يقول العلامة دي روزاس de Rousas، أحد عمداء كلية الحقوق الفرنسية في القاهرة سابقا، في كتابه “نظام الامتيازات في الامبراطورية العثمانية”: ((إن أصل الامتيازات يرجع إلى أن الشريعة الإسلامية مؤسسة على نظرية “شخصية القوانين”، في ما يختص بأهل الكتاب. فلم يكن القانون الذي يخضع له الشخص يتحدد بجنسيته، بل بعقيدته ودينه [ شرح الأحوال الشخصية للأستاذ تادرس ميخائيل تادرس ص 6 ])).
يترتب على ذلك أنه منذ ظهور الإسلام، وانتشاره في البلاد العربية، بقي سكان تلك البلاد خاضعين لقانونهم الشخصي لا لشريعة الفاتحين.
أما العثمانيون، فقد اعتبروا هذه الحقوق امتيازات، ما لبثت أن أخذت شكل اتفاقيات.
ويؤكد فريق من علماء القانون ما ذهب إليه العالم دي روزاس de Rousas من إعراض الشريعة الإسلامية عن التدخل في عقائد أهل الكتاب، تاركة لهم الفصل في منازعاتهم، طبقا لعقائدهم، عملا بالآية الكريمة “فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم” (المائدة 42 – قرآن كريم)، أي أن القاضي الشرعي المسلم لم يكن مختصا بالأحوال الشخصية لغير المسلمين، إلاّ إذا تراضى الخصمان على اختصاصه اختياريا بالنسبة إليهم، بينما يرى فريق آخر من علماء القانون عكس ذلك، أي أن القاضي الشرعي المسلم كان مختصا بكل نزاع مهما كان نوعه، إلاّ إذا اتفق الطرفان على عدم طرح نزاعهما عليه.
والرأي الأول معناه أن الشريعة الإسلامية ذات طابع شخصي في حين أن الرأي الثاني يعتبرها إقليمية.
والرأي الأول يتفق مع نص الآية المشار إليها، وهو الرأي الذي أخذ به أكثر الفقهاء المعاصرين.
وبهذه المناسبة، فقد ذكر الأستاذ أحمد صفوت، رئيس محكمة استئناف الإسكندرية السابق، في كتابه “قضاء الأحوال الشخصية للطوائف الملّية” ص 2 طبعة سنة 1947، أن الشريعة الإسلامية ما كانت تأبى التدخل في عقائد أهل الكتاب بالنسبة إلى أحوالهم الشخصية فحسب، بل وفي المعاملات الأخرى أيضا، واستقى هذا الرأي من كتاب “صبح الأعشى”.
1- العهدة النبوية:
بدأتْ الأمورُ مع أولُ عهدٍ أعطاهُ النبيُّ الكريمُ محمدٌ إلى النصارى ورهبانِهم، والمعروف باسم العهدةِ النبوية. كتبهُ عليُّ بن أبي طالبٍ ووُضِعَ في مسجدِ النبي في السنةِ الثانيةِ للهجرة، وحُمِلَتْ منهُ نسخةٌ للأديار، ومن ذلكَ نسخةٌ كانت محفوظة في ديرِ طورِ سينا الأرثوذكسي. ولكنَّ السلطانَ سليمَ الفاتحَ العثماني حملها إلى الآستانةِ في أوائلِ القرنِ السادسَ عشرَ، حيث تُرجِمَتْ إلى اللغةِ التركية، وأُرسلت النسخةَ التركيَّة منها إلى الديرِ، فيما أُبقيت النسخةَ العربيةَ الأصليةَ في الآستانة.
و هذا نص ما يعرف بالعهدة النبوية:
هذا كتابٌ كتبه محمدٌ بنُ عبدِ الله إلى كافةِ الناسِ أجمعين، رسولُه مبشّرا ومؤتمنا على وديعةِ اللهِ في خلقِه لئلاّ يكونَ للناسِ على اللهِ حجةٌ بعدَ الرسول، وكان اللهُ عزيزا حكيما. كتبهُ لأهلِ ملّةِ النصارى ولمن تنحَّلَ دينَ النصرانيةِ من مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، قريبِها وبعيدِها، فصيحِها وعجمِها، معروفِها ومجهولِها. جعلَ لهم عهدا فمن نكثَ العهدَ الذي فيهِ وخالفَهُ إلى غيرِه وتعدّى ما أمرَهُ، كان لعهدِ اللهِ ناكثا ولميثاقِه ناقضا وبدينِه مستهزِئا وللعنتِهِ مستوجبا، سلطانا كانَ أم غيرَه من المسلمين. وإن احتمى راهبٌ أو سائحٌ في جبلٍ أو وادٍ أو مغارةٍ أو عمرانَ أو سهلٍ أو رملٍ أو بيعةٍ، فأنا أكونُ من ورائِهم، أذبّ عنهم من كلِ غيرةٍ لهم بنفسي وأعواني وأهلي ومِلتي وأتباعي، لأنهم رعيتي وأهلُ ذمّتي، وأنا أعزِلُ عنهُم الأذى في المؤنِ التي يحملُ أهلَ العهدِ من القيامِ بالخراجِ إلاّ ما طابتْ له نفوسُهم وليسَ عليهم جبرٌ ولا إكراهٌ على شيءٍ من ذلك. ولا يغيّر أسقفٌ من أسقفيتِه ولا راهبٌ من رهبانيتِه ولا حبيسٌ من صومعتِه ولا سائحٌ من سياحتِه ولا يُهدَمُ بيتٌ من بيوتِ كنائسهِم وبيَعِهِم، ولا يدخلُ شيءٌ من مالِ كنائسهِم في بناءِ مساجدِ المسلمينَ ولا في بناءِ منازلِهم، فمن فعلَ شيئا من ذلكَ فقد نكثَ عهدَ الله وعهدَ رسولِه، ولا يُحمَلُ على الرهبانِ والأساقفةِ ولا من يتعبدُ جزية ولا غرامة. وأنا أحفظُ ذمتَهم أينما كانوا من برٍ أو بحرٍ في المشرقِ أو المغربِ والجنوبِ والشمال، وهم في ذمّتي وميثاقي وأماني من كلِّ مكروه. وكذلك من يتفردُ بالعبادةِ في الجبالِ والمواضعِ المباركةِ لا يُلزمُهم مما يزرعونَه لا خراجٌ ولا عُشرٌ ولا يشاطَرون لكونِه برسمِ أفواهِهم ولا يُعاونِون عند إدراكِ الغَلّةِ، ولا يُلزَمون بخروجٍ في حربٍ وقيامٍ بجبرية، ولا من أصحابِ الخراجِ وذوي الأموالِ والعقاراتِ والتجاراتِ مما هو أكثرُ من اثني عَشَرَ دِرهما بالجملةِ في كلِّ عام، ولا يُكَلَّفُ أحدٌ منهم شططا، ولا يجادَلون إلاّ بالتي هيَ أحسنُ ويحفظونَهم تحت جناحِ الرحمةِ يَكُفُّ عنهم أذيةَ المكروهِ حيثُما كانوا وحيثُما حلّوا. وإن صارتِ النصرانيةُ عند المسلمينَ فعليها برضاها ويمكِنُها من الصلاةِ في بِيَعِها، ولا يُحال بينها وبينَ هوى دينها. ومن خانَ عهدَ الله واعتمدَ بالضدِّ من ذلك، فقد عصى ميثاقَه ورسولَه ويعاونِونَ على مرمة بيعِهم ومواضعِهم وتكونُ تلكَ مقبولة لهم على دينِهم وفِعالِهم بالعهد. ولا يُلْزمُ أحدٌ بنقلِ سلاح، بل المسلمونَ يذبّونَ عنهم، ولا يُخالفُ هذا العهدُ أبدا إلى حينِ تقومُ الساعةُ وتنقضي الدنيا.
2- الفتحُ الإسلامي:
عندما جاءَ الفتحُ الإسلامي، ومعهُ تشريعاتُه المتنوعة، بما في ذلك الأحكامُ المتعلقةُ بالأحوالِ الشخصية، اكتفى بنفاذِها على المسلمينَ فحسبْ. أمّا المسيحيونَ، فبقيتْ لهم أحكامُهم المتعلقةُ بأحوالِهم الشخصية، محترمة، نافذة ومؤيّدة، تحكُمُ بها محاكمُ مسيحيةٌ مؤلفةٌ من رجالِ الدين.

3- الحكمُ العثماني:
في عهد الفتوحاتِ العثمانية، سلّمَ السلطانُ محمدٌ الثاني إلى البطريركِ المسكوني في القسطنطينية، وإلى غيرِه من بطاركةِ الشرق، براءاتٍ خوّلَهم بموجبِها أن يحكموا بينَ أبناءِ طوائِفِهم بمقتضى شريعتِهم التي كانت نافذة قبل الفتح، واكتفى السلطانُ بالسلطةِ السياسيةِ التي تقتصِرُ على الولاءِ للدولةِ، ودفعِ الجزيةِ والخَراج.
فالسلطان محمد الثاني، عندما فتح القسطنطينية في عام 1453 م، وجد نفسه ملكا على رعية جلها من الروم، بينما المسلمون الذين معه أقلية ضئيلة. وإذ خشي على ملكه من الإقفار إذا ما هاجر الروم إلى الأقطار الغربية، فقد سمح لهم بأن يتدبروا أمورهم بأنفسهم، نيابة عنه وعن حكامه. وما ذلك لاختلاف الدين، فحسب، بل ولاختلاف اللغة أيضا بين القلة من حكامه المسلمين، والكثرة من رعاياه المسيحيين.
للأسباب المذكورة أعلاه، منح السلطان محمد الثاني البطريرك جناديوس، بطريرك طائفة الروم، براءة شاملة في جميع المسائل الإدارية والمالية والقضائية، من جزائية وتجارية ومدنية، إضافة إلى قضايا الأحوال الشخصية.
كما أطلق يد البطريرك في فرض الضرائب على أبناء طائفته، ومنحه وصلاحية الحكم في الخلافات الناشبة بينهم وسن التشريعات اللازمة لذلك.
واستمر الحال على هذا المنوال قرونا أخرى عدة. على أن الحكومات العثمانية المتتابعة لم تبقَ في خلالها أمينة لمبدأ السلطان محمد الثاني، ولا حافظت عليه محافظة صادقة، فأخذت تنتقص من هذه الحقوق.
هذهِ البراءات التي اعتبرَها السلاطينُ العثمانيونَ الذينَ خلفوا محمدٍ الثاني بمثابةِ امتيازاتٍ، ليست في الحقيقةِ كذلك. وكما يقول دي روزاس de Rousas المذكور أعلاه:
“إن أصلَ الامتيازاتِ يرجعُ إلى أن الشريعةَ الإسلاميةَ مؤسسةٌ على نظريةِ “شخصيةِ القوانين”، في ما يختصُ بأهلِ الكتاب. فلم يَكُنِ القانونُ الذي يخضَعُ له الشخصُ يتحدّدُ بجنسيتِه، بل بعقيدتِه ودينِه”. استنادا إلى القول الكريم “لكم دينكم ولي دين”” (شرح الأحوال الشخصية للأستاذ ميخائيل تادرس ص 6).
وفي القرنِ السادسَ عشر، أخذَ السلاطينُ العثمانيونَ يشعرونَ بأن استقلالَ الطوائفِ المسيحيةِ وتمتعَها بالحماياتِ الخارجيةِ قد يحِدُّ من سلطانِهم، فأخذوا ينزعونَ عن البطاركةِ بعضَ اختصاصاتِهم بالبراءاتِ التي كانوا يمنحونَهم إياها، الأمرُ الذي أدّى إلى انزعاجِ رجالِ الدين، ودفعَهُم للاحتجاجِ عليه، فكانَ له صداهُ في الدولِ الأوربية الكبرى، التي طلبتِ الضماناتِ الكافيةَ للمسيحيين، مما اضطرَّ السلطانَ العثمانيَّ إلى إصدارِ الخطِ الهمايوني بتاريخ 18 شباط 1856، عقبَ انتهاءِ حربِ القرمِ، ليكونَ بمثابة تمهيدٍ لمؤتمرِ باريس، الذي عُقِدَ في تلكَ السنةِ لوضعِ معاهدةِ الصلحِ وتنظيم أحوال الطوائفِ المسيحيةِ بصفةٍ نهائية. وقد نصَّ الخطُ الهمايونيُّ على ما يلي:
“الدعاوى الخاصة، ويُقصدُ بها الأحوالُ الشخصيةُ مثلَ الحقوقِ الإرثيةِ في ما بينَ شخصينِ مسيحيينِ وباقي التبعةِ غيرِ المسلمة، فتُحالُ، على أن تُرى إذا أراد أصحابُ الدعوى، بمعرفةِ البطريركِ أو الرؤساءِ أو المجلس.”
أي أنَّ البطريركَ ورؤساءَ الأديانِ والمجالسَ الطائفيةَ يسترجعونَ اختصاصَهُم في مسائلِ الأحوالِ الشخصيةِ، ومنها الحقوقُ الإرثية، وذلكَ بالنسبةِ إلى من يتبعونها من غيرِ المسلمين، وبشرطِ تراضي الطرفينِ على هذا الاختصاص.
وظلَّ دستورُ الطوائفِ المسيحيةِ يخوّلُ رجالَ الدينِ سلطاتٍ واسعة بشؤونِ طوائِفهم، بمعنى أنَّ جميعَ الإعفاءاتِ الممنوحةِ منذُ القديمِ لرعايا الطوائفِ المسيحية، وغيرِها من الطوائفِ غيرِ المسلمةِ المقيمةِ بالبلاد، تثّبتُ، وتبقى قائمة ونافذة.
وفي معاهدة باريس للصلح، التي عقدت بعد انتهاء حرب القرم بين روسيا من جهة، وتركيا وإنكلترا وفرنسا من جهة أخرى، جرت الإشارة إلى الخط الهمايوني الصادر عن الباب العالي في العام 1856 والذي قضى بأن جميع الإعفاءات الممنوحة منذ القديم لرعايا الطوائف المسيحية وغيرها من الطوائف غير المسلمة المقيمة في البلاد، تثبت وتبقى قائمة ونافذة.
وفي 4 نيسان 1883 أصدرت وزارةُ العدلِ في الحكومةِ العثمانيةِ بلاغا تفسيريا للخطِ الهمايوني، أجازتْ بمقتضاهُ لمحاكمِ السلطنةِ العثمانيةِ النظرَ في جميعِ الخلافاتِ الناشئةِ بين الرعايا المسيحيينَ، والمتعلقةِ بالوصيةِ والتركةِ، عندما يَرفضُ أحدُ الخصومِ في الدعاوى قضاءَ المحاكمِ الطائفية.
وتأيَّدَ اختصاصُ المحاكمِ الطائفيةِ للأحوالِ الشخصيةِ بمقتضى منشورينِ أصدرَهُما البابُ العالي في سنة 1891 تفسيرا للخطِ الهمايوني السالفِ الذكر، أحدُهما مؤرخٌ في 3 شباط 1891 والثاني في الأول من نيسانَ من العامِ نفسِه.
وبقيَ الحالُ على هذا المنوالِ إلى أن دخلتْ الدولةُ العثمانيةُ، التي كانت تحتلُّ سوريا، الحربَ العالميةَ الأولى سنة 1914، فألغتِ الامتيازاتِ الأجنبيةَ بالنسبةِ للأجانبْ، وألغتْ جميعَ اختصاصاتِ المحاكمِ الروحيةِ بالقانونِ الذي أصدرتْهُ بتاريخ 25 تشرين الأول لعام 1915، والمسمى قانونَ حقوقِ العائلة، وذلكَ في المادة 156 منه، وأخضعَتْ جميعَ الرعايا من مسلمينَ ومسيحيينَ لهذا القانونِ الأخير، وحصرَتْ الفصلَ في اختصاصاتِه بالمحاكِمِ الشرعيةِ. وبقيَ الأمرُ كذلكَ إلى أن انهزمَتْ الدولةُ العثمانيةُ في تلكَ الحرب، وأُخرِجَتْ منَ البلادِ العربيةِ، وزالَ معها قانونُ الحقِّ العائلي.

4 – العهد الفيصلي:
بعد هزيمة الدولةِ العثمانيةِ وخروجِها من المنطقة، صدرَ في سوريا في زمنِ المرحومِ الملكِ فيصل بتاريخ 19 كانون الثاني 1919 القانونُ المتعلقُ بالنظامِ القضائي، وقد نصَّتِ المادّة 18 منه على ما يلي:
“المحاكمُ الطائفيةُ للطوائفِ غيرِ المسلمةِ تحتفظُ باختصاصاتِها القضائية، وبحقوقِها كما في السابق”.
5- عهدُ الانتدابِ الفرنسي:
أ- في أولِ عهدِ الانتدابِ الفرنسي في سوريا ولبنان، وبالنظرِ إلى ما كانَ يحصُلُ من اختلافاتٍ على الاختصاصِ بين المحاكمِ الشرعيةِ والمحاكمِ الروحية، أصدرَ المفوضُ السامي بتاريخ 5/12/1924 قرارا تحت رقم 2978 أنشأَ بمقتضاهُ محكمة خاصة، باسمِ محكمةِ الخلافاتِ، للنظرِ في التنازعِ الذي يمكنُ حصولُه بالنسبةِ إلى الاختصاصِ بينَ هذهِ المحاكم.
ب- ثم أصدرَ المفوضُ السامي دي جوفينيل De Juvenile بتاريخ 28 نيسان 1926 قرارا تحتَ الرقم 261 حدّدَ بمقتضاهُ اختصاصَ المحاكمِ الطائفيةِ للنظرِ في الدعاوى المتعلقةِ بأحوالِ الزواج:
“عقدُ الزواج، بطلانُ الزواج، حلُّ وانفكاكُ رباطِ الزواجْ، الفِراق، الطَّلاقُ، نفقةُ المعاشِ بينَ الزوجين”.
ج- وهكذا صدرت تشريعات متعددة في سورية إلى أن جاء التشريع الرئيسي الذي لا تزال معظم أحكامه نافذة في سورية ولبنان، وهو القرار 60 ل.ر. الذي صدرَ عنِ المفوضِ السامي د. دي مارتيل De Martel بتاريخ 13 آذار 1936 والمعروفُ بنظامِ الطوائفِ الدينيةِ. وقد نُشِرَ في الجريدةِ الرسميةِ صفحة /149/ لعام 1936 (وفي مجلةِ المحامون العددان شباط وآذار لعام 1966) ثم صدرَ القرارُ رقم 146 ل.ر. تاريخ 18/11/1938 القاضي بتحويرِ القرار 60 ل.ر. وتتميمِه (المنشور بالصحيفةِ رقم 1589 من الجريدةِ الرسميةِ السوريةِ لعام 1938). وقد حلت المادة 1 من هذا القرار 146 محل المادة 10 من القرار 60 ل.ر. وخضع السوريون واللبنانيون بموجبها إلى نظام طوائفهم الشرعي فيما يتعلق بأحوالهم الشخصية، وللقانون المدني في الأمور الأخرى.
د- وبنتيجةِ الاحتجاجاتِ والاضطراباتِ، أصدرَ المفوضُ السامي الفرنسي غ. بيو قرارا تحت الرقم 53 ل.ر. تاريخ 30 آذار 1939 نصَّ في مادتهِ الأولى على أنَّ القرارَ 60 ل.ر. الصادر في 13/3/1936 بتحديدِ نظامِ الطوائفِ الدينية، والقرارَ رقم 146 ل.ر. الصادرَ في 18/11/1938 والقاضي بتحويرِ القرار 60 ل.ر. وتتميمِه لا يطبقّان على المسلمينَ، ويظلاّن غيرَ مطبقيْنِ عليهِم.
6- عهدُ الاستقلال:
1- في عامِ 1953 جاءَ قانونُ الأحوالِ الشخصيةِ العام، الصادرُ بالمرسومِ التشريعي رقم 59 تاريخ 17/9/1953 والمعدلُ بالقانونِ رقم 34 تاريخ 31/12/1975، الذي نصَّ في مادتِهِ /306/ على تطبيقِ أحكامِهِ على جميعِ السوريين، سوى ما تستثنيه المادتان 307 و308.
وتضمنتِ المادّةُ 307 أنه لا يُعتبرُ بالنسبةِ إلى الطائفةِ الدرزيةِ ما يخالفُ الأحكامَ الواردةَ فيها.
ومن الجديرِ ذكره أنَّ البندَ /ح/ من هذهِ المادةِ ينصُّ على ما يلي: تُنَفَّذُ الوصيةُ للوارثِ ولغيرِهِ بالثُلُثِ وبأكثرَ منه، أي أنَّ موضوعَ الوصيةِ هوَ منِ اختصاصِ المحاكمِ المذهبيةِ لا المحاكمِ الشرعيةِ خلافا لما هو معمولٌ بهِ بالنسبةِ للطوائفِ المسيحيةِ.
وتضمنتِ المادةُ 308 أنه يُطّبَّقُ بالنسبةِ إلى الطوائفِ المسيحيةِ واليهوديةِ ما لدى كلِّ طائفةٍ منْ أحكامٍ تشريعيةٍ دينيةٍ تتعلقُ في:
– الخطبة.
– شروطِ الزواجِ وعقدِه.
– المتابعة.
– النفقةِ الزوجية.
– نفقةِ الصغير.
– بطلانِ الزواجِ وحلِّهِ وانفكاكِ رباطِه.
– البائنةِ “الدوطة”.
– الحضانة.
أمّا القوانينُ التي تُطَبَّقُ على المسيحيينَ، بخصوصِ ما استثنتْهُ المادّةُ 308 من قانونِ الأحوالِ الشخصية، فهي:
– “قانونُ الأحوالِ الشخصيةِ وأصولُ المحاكماتِ لدى بطريركيةِ أنطاكية وسائرِ المشرقِ للرومِ الأرثوذكس” (رقم 23 لعام 2004 تاريخ 27/6/2004).
– قانونُ الأحوالِ الشخصيةِ للطوائفِ الكاثوليكيةِ في سوريا (رقم 31 لعام 2006 تاريخ 18/6/2006).
– قانونُ الأرمنِ الأرثوذكس.
– قانونُ الأحوالِ الشخصيّةِ لطائفةِ السريانِ الأرثوذكس (رقم 10 لعام 2004 تاريخ 6/4/2004).
– قانونُ الأحوالِ الشخصيةِ للمحاكمِ المذهبيةِ الإنجيلية.
2- وعندما صدرَ قانونُ أصولِ المحاكماتِ بالمرسومِ التشريعي الرقم 84 تاريخ 8/9/1953، حصرَ المشرِّعُ في المادّةِ /535/ القضايا التي هي من اختصاصِ المحاكمِ الشرعية، وتسري أحكامُها على جميعِ المواطنين، وهي التالية:
أ‌- الولايةُ والوصايةُ والنيابةُ الشرعية.
ب‌- إثباتُ الوفاةِ وتعيينُ الحصصِ الشرعيّةِ للورثة.
ج‌- الحجرُ وفكُّه واثباتُ الرُّشْد.
د‌- المفقود.
هـ- النسب.
و‌- نفقةُ الأقاربِ من غيرِ الزوجينِ والأولاد.
3- أمّا قانونُ السلطةِ القضائيةِ في سورية، والصادرُ بالمرسومِ التشريعي رقم 98 تاريخ 15/11/1961 وتعديلاتُهُ، فقد نصَّ على ما يلي:
المادّة 33- تُؤَلَّفُ محاكمُ الأحوالِ الشخصيّةِ من:
أ‌- المحاكمِ الشرعيةِ للمسلمين.
ب‌- المحاكمِ المذهبيةِ، للطائفةِ الدرزية.
ج‌- المحاكمِ الروحيةِ للطوائفِ المسيحية.
وقد فرضَ المشرّعُ أن تُطَبِّقَ هذه المحاكمُ أصولَ المحاكماتِ الخاصّةَ بمحاكمِ البدايةِ في القضايا البسيطةِ حيثُ نصَّتْ المادّة 100 من هذهِ الأصولِ على ما يلي:
في الدعاوى الصلحيةِ والمستعجلةِ والبسيطة، يُعَيِّنُ القاضي جلسةَ المحاكمةِ فورَ استدعائِها بدونِ حاجةٍ إلى تبادلِ اللوائح.
وجاءتِ المادّةُ 36- من قانونِ السلطةِ القضائيةِ الصادرِ بالمرسومِ التشريعي رقم 98 تاريخ 15/11/1965 لتزيدَ الأمورَ تعقيدا وإبهاما حيثُ أنها نصّتْ على ما يلي:
تبقى المحاكمُ الروحيةُ للطوائفِ غيرِ الإسلاميةِ واختصاصاتُها خاضعة للأحكامِ النافذةِ قبلَ صدورِ القرارِ 60 ل.ر. تاريخ 13 آذار 1936.
ماذا يعني هذا النص؟ نتركُ للقارئ الكريم، وعلى ضوءِ ما سبقَ ذكرُهُ، مهمةَ التفسير. لكننا نرى أنَّ هذا النصَّ يؤكِدُ على ما جاءَ به العهدُ الفيصلي، ويعيدُ إلى المحاكمِ الكنسيةِ صلاحياتِها الشاملة.

رابعا: هل تمثل قوانين الأحوال الشخصية امتيازا ممنوحا للطوائف المسيحية في سورية؟؟
سنرى فيما يلي أن الجواب هو: لا.
ففي كتابه “الأوضاع القانونية للنصارى واليهود في الديار الإسلامية”، والذي اعتمدته جامعة Paris- Nord لمناقشته كرسالة دكتوراه دولة في القانون، والصادر عن دار الفكر الحديث للطباعة والنشر في بيروت، يلاحظ الدكتور حسن الزين، على الصفحة 127 منه، أن ((القانون الخاص بكل طائفة كان يطبق في النزاعات التي تنشأ بين أتباعها في عهدي الرسول الكريم والخلفاء الراشدين، وذلك عبر أحكام التوراة والإنجيل، دون إخضاع أهل الذمة لأحكام القرآن الكريم حتى في الحالات التي يدعى القاضي المسلم فيها لفض النزاعات القائمة بينهم)). وهذا القانون يشمل أمور الزواج والإرث والمسائل الجزائية والمسائل المدنية.
وقد ظلت سلطة القانون الطائفي مطلقة بالنسبة لهذه النزاعات ولم تتعرض للتقلص الواضح سوى في بداية العصر الأموي، حسب ما لاحظه الباحث في كتابات مؤرخي ذلك العصر، حيث نشأت مبدئيا صلاحية القانون والقضاء الإسلاميين، وانحصرت في حالات ثلاث هي:
أولا – حالة اختلاف أديان المتنازعين: حيث كان القاضي المسلم يفصل في النزاعات التي تنشأ بين أهل الكتاب والمسلمين من جهة والكتابيين من أتباع ديانات مختلفة من جهة أخرى، في جميع مسائل القانونين المدني والجزائي، ويطبق أحكام الشرع الإسلامي على النزاع القائم.
ثانيا – حالة ارتكاب إحدى الجرائم التي تتعلق بالنظام العام كالقتل تحديدا.
ثالثا – لجوء أطراف النزاع بملء اختيارهم إلى القاضي المسلم للبت بدعاواهم وقبول القاضي بذلك.
لقد أقر الفقهاء المسلمون مبدأ عدم التدخل في شؤون أهل الكتاب. فالقاعدة حسب رأيهم هي “تركهم وما يدينون”، وهم حسب رأي أبي حنيفة “مقرون على أحكامهم لا يُعترض عليهم فيها إلاّ أن يرضوا بأحكامنا أي أن يترافعوا إلينا”. فإذا ترافعوا إلى المسلمين حملوا على أحكام الإسلام، وهكذا يطبق عليهم القانون الإسلامي حكما عندما يتعرضون لأحكامه اختيارا. ويلاحظ أن رأي أبي حنيفة يخالف تماما ما اتبعه الرسول الكريم في حالة لجوء الأطراف إليه لفض نزاعهم، والمشار إليه سابقا، أو ما سار عليه الخلفاء الراشدون من بعده. ويروى أن الإمام علي بن أبي طالب، الخليفة الراشدي الرابع، كتب إلى محمد بن أبي بكر في موضوع مسلم تعاطى الزنا مع نصرانية، طالبا أن يطبق الحد على المسلم، وأن ترسل المرأة الزانية إلى سلطات طائفتها الدينية لمحاكمتها.
أما مصادر نظام الاستقلال القضائي الخاص بأهل الذمة:
فيقول الباحث في الصفحة 172 من كتابه: يستمد هذا النظام شرعيته من القرآن الكريم ومن السنة الشريفة. وبالإضافة إلى ذلك نجد في خطابات تنصيب الرؤساء الدينيين من أهل الكتاب وفي آراء الفقهاء ما يشير صراحة إلى هذا الموضوع.
آ- القرآن الكريم والسنة الشريفة:
فالقرآن الكريم يقرّ مبدأ استقلالية النظام القضائي الخاص بأهل الذمة. ونجد تأكيدا لذلك في النصين التاليين: ((فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)) (سورة المائدة 42) ((وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله)) (سورة المائدة 43)). ومن أجل تقييم تفاصيل تطبيق هذه الأحكام القرآنية لابد من دراسة سيرة الرسول الكريم الذي اضطر لفصل بعض نزاعات أهل الذمة في أكثر من مناسبة. وهناك روايتان استشهد بهما الباحث الدكتور حسن الزين في كتابه، أوردهما على الصفحة 172 نقلا عن البخاري في صحيحه وعن ابن قيم الجوزية في كتابه “أحكام أهل الذمة”.
ويقول الباحث: تظهر هاتان الروايتان أن الرسول الكريم قد طبق أحكام القرآن الكريم التي تقضي باعتماد شرائعهم. وحتى عندما جاءه بعض أهل الذمة طالبين إليه الحكم في بعض قضاياهم الطارئة، فقد حكم بينهم وطبّق أحكامهم المذهبية الخاصة. ومهما يكن فإن عقد الذمة بالذات يمنع أن تُفرض على أهل الذمة أحكامٌ تخالف معتقدهم.
وقد سار خلفاء الرسول وفقهاء عصرهم على هذا النهج متبعين هذا المثال في خضوع تام للمبدأِ الذي أقيم في هذا المجال.
ب – آراء الفقهاء حول الاستقلالية القضائية الممنوحة لأهل الكتاب.
وإذا كانت أحكام القرآن الكريم والحديث الشريف قد طرحت المبادئ الخاصة بهذا الاستقلال القضائي، فان الفقهاء قد ساهموا فيما بعد، عبر تفسير النصوص وإعمال الفكر وتقديم الآراء، في رسم أسس النظام القضائي المستقل الذي تمتع به أهل الذمة عبر أجيال من الزمن.
من بين المبادئ التي استخلصها الفقه والاجتهاد الإسلامي في هذا المجال، مبدآن يبدوان الأشد تعبيرا عن متانة وقوة الاستقلال القضائي المشار إليه، إذ إنهما يساهمان في أن يرسما من الأسس المتينة، ما يكفي لإعطائه المناعة والقوة، اللازمتين لمنع كل تدخل غير مشروع، وهما:
1- مبدأ عدم التدخل في شؤون أهل الكتاب حتى ولو كانت الأعمال التي تجيزها شرائعهم تعتبر غير مشروعة في نظر القانون الإسلامي.
2- ومبدأ احترام عقائدهم وهذا المبدأ يمنع أن تفرض على أهل الكتاب قواعد وأحكام تخالف ما تقره شريعتهم وعقيدتهم، انطلاقا من قوانينهم الخاصة وهذا المبدأ يعبر عنه أشد التعبير الحديث الشريف الداعي إلى” تركهم وما يدينون”.
يتبين مما سبق أن العمل بقوانين أحوال شخصية للطوائف غير المسلمة هو تطبيق لمبادئ القرآن الكريم والسنة الشريفة وسيرة الرسول والخلفاء الراشدين والفقه والاجتهاد الإسلاميين.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل علينا، بعدما تطورت الأحوال وأصبحنا نعيش في الدولة المدنية الحديثة، أن نبقى كما كنا، أم أننا نستطيع أن نطور القوانين والأنظمة، على غرار ما حصل بالنسبة للقوانين المدنية والجزائية؟..

نساء سورية
للاطلاع على كامل مواد مشروع القانون الجديد يمكنك الذهاب الى الرابط التالي
https://alsafahat.net/blog/pdf/Syrian_safahat001.doc

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى