النار تحت أقدام الأمهات: في مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد
إيمان أحمد ونوس
وضع الإسلام مكانة الأبوين بمرتبة رفيعة بدليل ما جاء في سورة الإسراء إذ قال تعالى: ((وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما، فلا تقل لهما أُفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا( الإسراء الأية23)
كما وضع الإسلام المرأة الأم بمنزلة القداسة عندما قال الرسول: ” الجنة تحت أقدام الأمهات”
وأيضاً في الحديث الشريف عندما جاء أحدهم يسأل النبي أيهما أحق بحسن صحابتي، قال: أمك، قال ثم من قال أمك، قال ثمّ من قال أمك، قال ثمّ من قال أبوك.
وهذا مؤشر على ما منحه الدين للأم من مكانة تحسدها عليها حتى الملائكة. لكن وللأسف ما نلمسه في التشريع الجديد يشي بما يخالف هذه المكانة والأهمية.
فلنقف لحظة تأمل في مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد، ولنرَ كيف يتعامل المشرّع مع هذه المرأة/ الأم، وماهية الاحترام التي تخلى عن إتباعها كما نصت الآيات والأحاديث.
لقد أعطاها حق الاشتراط على الزوج في عقد الزواج ألاّ يتزوج عليها، وهي عندما تفعل ذلك تعتقد أنها تحمي نفسها وبيتها وأطفالها من التفكك وخراب الأسرة، بحيث تُلزم الزوج بعدم الزواج ثانية. لكن يأتي المشرّع ليحمي الزوج ورغباته النفسية الموتورة بالقول أنه ليس ملزماً للزوج، لكن يحق لها طلب فسخ عقد النكاح كما ورد في المادة 41
4- وإذا اشترطت المرأة في عقد النكاح ما يفيد حرية الزوج في أعماله الخاصة أو يمس حقوق غيرها كاشتراطها عليه أن لا يتزوج زوجة أخرى، أو أن يطلق ضرتها أو أن تكون العصمة بيدها بشكل مؤقت أو دائم، كان الاشتراط صحيحاً ولكنه ليس بملزم للزوج، فإذا لم يف الزوج به فللزوجة المشترطة طلب فسخ النكاح.
لتصبح هنا كالمستجير من الرمضاء بالنار، لأن شرطها في عقد الزواج لا قيمة له طالما هو غير ملزمٍ للزوج، حيث تبقى حياتها واستقرارها وأمنها الروحي والنفسي مرهوناً برغبات الزوج وأهوائه التي من المؤكد أنها ستدمّر الأسرة وتدفعها باتجاه الضياع والتشتت، وطبعاً بحماية من رجال التشريع الأشاوس الذين جعلوا القوامة للرجل بحكم رجاحة عقله- حسب رأيهم- وقدرته على التحكّم بانفعالاته، بينما جردوا المرأة حتى من الولاية على نفسها كالمعتوه أو المجنون أو السفيه، وجعلوها لا تستفيد مما اعتبروه حق لها في الحفاظ على استقرارٍ أعطوه لها باليمنى ليأخذوه ليس فقط باليسرى وإنما بكل ما أوتوا من قوة وعنجهية بربرية متمردين على صيانة الحقوق واحترام الأمومة وقداستها التي منحها إياها الدين، ليتركوها تتلظى بنار الطلاق وتبعاته المريرة من نظرة اجتماعية متخلّفة للمطلقة، إلى أعباء تنوء تحت كلكلها أعظم الرجال كتربية الأولاد وتأمين متطلبات عيشهم في ظل أوضاع اقتصادية معاشية لا تُطاق من جهة، وتلاعب الأب بحياتهم وتلبية رغباته الموتورة التي أطاحت باستقرارهم وأمنهم من جهة أخرى.
ثمّ لتأتِ المهزلة الأفظع في التشريع الرائد من خلال المواد/66، 67، 71/ والتي تظهر فيها مسايرة الشرع أو دعمه الفاضح لأهواء الزوج من خلال السماح له بتعدد الزوجات شريطة ألاّ يتعدوا الأربع في عهدته، فإذا رغب في الخامسة ما عليه إلاّ أن يختار كبش الفداء من نسائه الأربع الذي يحلل له تلك الرغبة من خلال طلاقها ورميها وأولادها للمجهول، ولتصبح الأمومة على قارعة الفاقة والحاجة والتلاشي، وربما الانحراف الداعي لارتكاب جرائم الشرف بامتياز.
ثمّ كيف أن المشرّع ينظر للمرأة على أنها سلعة تُباع وتُشرى في سوق النخاسة الزوجي عندما ينص في المادة/67/ لا يجوز للرجل أن يتزوج امرأة طلقها ثلاث مرات، إلا بعد انقضاء عدتها من زوج آخر، دخل بها فعلاً في زواج صحيح دون توقيت صراحة، أو ضمناً.
ونعرف كم هي القصص التي تُروى في هذا الشأن من رجال قبلوا أن يكونوا جسراً أو مطية لزوج دفعه استهتاره بزوجته وأسرته لطلاقها ثلاث مرات، ثم يعود ويرغب بامتلاكها، وما عليها إلاّ أن تُباع ثانية لرجل آخر فيطلقها لتعود للفارس الأول، وهنا يتمّ التلاعب بمصير هذه الزوجة وبتعاون من الأهل أحياناً عندما يزوجونها رجلاً مطية من أجل إعادتها لزوجها الأول، فيرفض المطية طلاقها رغم اشتراطهم ذلك.
كيف سيكون مصير الأطفال في هذه الحالة، بل كيف ستكون نفسية الزوجة/ الأم وهي تنتقل من زوج لآخر وفق رغباتهم المقززة، ألا تعتبر هذه دعارة شرعية لا تستلزم جريمة الشرف، بل تستلزم من المرأة الخنوع والخضوع لما يرغبونه منها. هم وحدهم المخولون بتخوين المرأة أو طهرها بما يتلاءم مع أهوائهم المريضة العفنة. بل هم المعنيون بحماية الشرف الرفيع بتنقلها بين أزواج قيّمين على تنفيذ الشرع.
ولا يقف الوضع عند هذا الحدّ من إهانة المرأة/الأم، بل يتعداه لتكون مجرد خادمة للزوج والأولاد تتقاضى أجرة التربية والرضاع في حال الطلاق، وتحجب عنها تلك الأجرة في حال قيام الزوجية، متغافلين أن الأمومة أسمى من ذلك بكثير، كما أن الأم تهب حياتها لأولادها دون منّة، فكيف بها تأخذ أجرة رضاعة..؟ لماذا يُنظر لتلك الأمومة بهذه الطريقة المادية البخسة..؟ حتى في حال أعفت الزوج من أجرة الإرضاع واضطرت لترك الطفل قبل نهاية المدة المشترطة عليها فإنه يرجع عليها بقيمة إرضاع الطفل المدة المتبقية حسب ما جاء في /191/ وأيضاً المادة329
يجب على الأم إرضاع طفلها إذا لم يمكن تغذيته من غير لبنها، أو كان الطفل لا يأخذ غير ثديها، أو كان أبوه معسراً ولا يوجد من ينفق عليه.
تُعتبر هذه المواد تبخيساً فظيعاً للأم وللأمومة باعتبارها إجبارية، لأن الأمومة لم تكن يوماً هكذا ولا في عصر من عصور التاريخ البشري. فمجرد طرح الموضوع بهذه الصيغة هو إهانة لا مثيل لها لكل أمهات سورية الحبيبات. إنه جحيم يطوّق الأمومة الطبيعية الحنون.
المادة 192
إذا كانت الأم معسرة وقت المخالعة، أو أعسرت فيما بعد، يجبر الأب على نفقة الولد وتكون ديناً له على الأم.
المادة310
إذا رفضت الأم الحاضنة الحضانة مجاناً ولم يكن للصغير مال وكان أبوه معسراً، ولم توجد متبرعة من محارمه تجبر الأم على حضانته وتكون أجرتها ديناً على أبيه.
المادة316
إذا لم يكن الأب متوفياً انتقلت الحضانة إليه بعد انتهاء مدتها، إلا إذا طلبت الأم تمديد الحضانة حتى سن الرشد فتىً كان أو فتاة، ورأى القاضي مصلحة المحضون في ذلك، ووافق المحضون على هذا التمديد.
المادة317
لا تستحق أجرة الحضانة خلال فترة التمديد.
أين الرحمة والاحترام اللذين حضّ عليهما الدين تجاه الأم…؟ أين التعاطف الإنساني مع امرأة رغبت في الاحتفاظ بأمومتها وحضانة أولادها…؟ فبدل أن تتم إعانتها ومساعدتها على مهامها الجسام يكويها المشرّع بنار الديون المترتبة للأب، وكأن هؤلاء الأولاد أولادها وحدها وليسوا أولاده أيضاً. مصاريف وديون ونفقات لا حصر لها ينوء تحتها الأبوين معاً، فكيف بامرأة تصارع الحياة منفردة وربما بلا عمل أو وظيفة تعينها على ذلك.
ثمّ، لماذا هذا التناقض الواضح في القانون من حيث مدة حضانة الأم لاسيما إن رغبت في تمديد فترة احتضان الأولاد، أو إجبارها على قبول الحضانة..؟ أجيب أن سبب هذا التناقض الواضح والفاضح في كثير من مواد مشروع القانون هو الانحياز الكامل للرجل، ومحاباة وضعه ورغباته وفقاً لأهوائه ومدى الإساءة التي يستطيع من خلالها إذلال الزوجة/الأم برعاية كريمة من المشرّعين الأشاوس.
ولنأتِ للمواد الأكثر قسوة ووحشية في حرق وسحق مشاعر الأمومة بلا رحمة أو شفقة، أو وازع من ضمير، والسبب أن الأم غير مسلمة، والخوف أن تربي ابنها على غير دين أبيه كما جاء في المواد/293- 294/
المادة293
الأم الحاضنة غير المسلمة أما كانت، أو غيرها، تستحق حضانة ولد المسلم، حتى يعقل الولد معنى الأديان، أو يخشى أن يألف غير الإسلام وإن لم يعقل الأديان، لأنهن أحرص على حضانته على أن لا يتجاوز عمره أربع سنوات.
المادة294
1-تقتصر الحضانة على الأم المسلمة فقط إذا خشي على المحضون أن يألف غير دين الإسلام وعاداته، أو كانت الحاضنة تستغل ضعف الطفل لتنشئته على غير دين أبيه الإسلام.
لنتخيل حالة طفل لم يتجاوز الأربع سنوات وهو يُنتزع من حضن والدته فقط لأنها غير مسلمة، وأتساءل هل تختلف الأمومة مابين الإسلام وسواه من الأديان حتى تُعامل الأمومة بهذه الطريقة المرعبة..؟
وهل الأم المسلمة حكماً مثالية في تربية ابنها التربية الدينية الحقيقية كما يراها المشرّع..؟ ثمّ، هل تقتصر التربية فقط على النواحي الدينية..؟
لماذا لم تؤخذ بالحسبان باقي النواحي التربوية والحالة النفسية لطفل لا يتجاوز سنواته الأربع، هذا العمر الذي هو بأمس الحاجة لوجود أمه معه ولا أحد سواها حسب علماء النفس والتربية. وأيضاً هل وصل حدّ الإجرام تجاه الأمومة هذا المستوى الذي يصل لانتزاع ابنها من حضنها بقوة الشرع الذي عليه بالأصل احترام الأمومة التي وضعها الدين في مرتبة القداسة..؟
ثمّ، لماذا هذا التفريق الفاضح بين الأديان حتى على مستوى الأمومة، والعمل بعكس توجه الأديان السماوية الداعية إلى المحبة والتعاون بين الأديان كافة، إضافة إلى أنه رأس حربة في وجه التعايش الإنساني بين شرائح المجتمع السوري بكافة أطيافه الدينية والعرقية. ألم يقل الرسول: ” لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى”
من هنا نجد أن مشروع القانون قد انحدر بالأمومة من مستوى القداسة إلى مستوى الابتذال والإهانة الفظيعة التي تبتعد كثيراً عن كل القيم والمفاهيم الإنسانية في التعامل مع الأم. وبذلك ينتفي الحديث الكريم القائل: ” الجنة تحت أقدام الأمهات” ليتحول وفق منظور فقهاء القرن الحادي والعشرين إلى: ” النار تحت أقدام الأمهات”
موقع ثرى
للاطلاع على كامل مواد مشروع القانون الجديد يمكنك الذهاب الى الرابط التالي
https://alsafahat.net/blog/pdf/Syrian_safahat001.doc