صفحات العالم

من يحكم أميركا؟ [2]

بقلم الســـيد يســــين
استبشر العالم خيراً بشعار التغيير الذي رفعه الرئيس أوباما، وبخاصة في مجال السياسة الخارجية الأميركية. وذلك لأن السنوات الثماني العجاف التي رأس فيها “جورج بوش” الولايات المتحدة الأميركية، كانت مليئة بالمخاطر على السلام العالمي، بعد أن رفع شعار “الحرب ضد الإرهاب”، التي لا يحدها مكان أو زمان.
غير أن الدوائر السياسية في العالم عموماً وفي الوطن العربي خصوصاً، تتساءل عن قدرة الرئيس أوباما على القيام بتغيير جوهري في مجال حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حتى لو كان راغباً في ذلك بشدة، تحقيقاً للمصالح القومية الأميركية في المقام الأول.
وبهذا الصدد عرفت من مصدر أكاديمي عربي موثوق، أن الرئيس أوباما لديه خطة متكاملة للضغط على إسرائيل حتى تقبل بسيناريو الدولة الفلسطينية المستقلة التي تعيش جنباً إلى جنب بجوار الدولة الإسرائيلية، وأن هذه الخطة تتضمن إجراءات محددة كفيلة بجعل إسرائيل ترضخ أخيراً، وتقبل بالسيناريو المقترح، والذي أصبح محل إجماع عالمي، بعدما كان مجرد مبادرة عربية.
ومع كل ذلك، يبقى السؤال معلقاً وهو ما هي قدرة الرئيس أوباما على التغيير الموعود؟
إن الإجابة على السؤال تقتضي معرفة من يحكم أميركا؟ بعبارة أخرى ما هي مراكز القوى الأساسية في النظام السياسي الأميركي التي تمسك بخيوط الشأن السياسي، وهل هذه المراكز متعددة أم أنها مركزة في عدد قليل يهيمن على مجمل توجهات السياسة الأمريكية؟
هذه تساؤلات أساسية شغلت علماء السياسة الأميركيين منذ بداية الخمسينات، وخصوصاً بعدما أصدر عالم الاجتماع الأميركي “س. ر. ميلز” كتابه الشهير “نخبة القوة” عام 1956 والذي رصد فيه على وجه التحديد ثلاث قوى رئيسية تتحكم في السياسة الأميركية، مجموعة قليلة من السياسيين المحترفين، ورؤساء ومديري الشركات الكبرى، وكبار ضباط القوات المسلحة. ويمكن القول إن البحث عن مراكز القوى الأميركية تتنازعه ثلاث نظريات رئيسية. النظرية الأولى هي التعددية، والتي ترى أنه ليس هناك مراكز قوى محددة مهيمنة، لأن القوة موزعة بين مراكز متعددة تتبادل التأثير والتأثر، والنظرية الثانية هي “نخبة القوة” وهي وجهة نظر “ميلز” التي أشرنا إليها، والتي ترى القوة مركزة في أيدي نخبة محددة، والنظرية الثالثة والأخيرة هي نظرية “الطبقة الحاكمة المسيطرة”.
وإذا ركزنا على النموذج التعددي Pluralist لوجدنا أنصاره يقررون أن السياسة أساساً مجال أصيل للتنافس. وأن هناك عدداً كبيراً من الجماعات المتصارعة التي تمارس بسهولة نسبية حشد قواها للتأثير في عملية صنع القرار للتعبير عن مصالحها. ومن ناحية أخرى فإن النماذج المتعددة للموارد مثل الثروة والكاريسما والمكانة، يمكن ترجمتها في المجال السياسي إلى قوة، ومن هنا يمكن توزيع القوة بين أطراف متعددة بشكل واسع المدى.
ويؤمن أنصار النموذج التعددي أن النظام السياسي يتمحور حول مؤسستين أساسيتين، هما الأحزاب السياسية من جانب، وجماعات المصالح من جانب آخر. والأحزاب السياسية تتنافس في الانتخابات وتسعى إلى تأييد مختلف القواعد الاجتماعية لكي تفوز فيها وتحكم بالتالي، أما جماعات المصالح فهي تجمعات سياسية مستقلة تدافع عن مصالح اقتصادية أو اجتماعية محددة، ووسائلها في ذلك متعددة، فهي تمارس الضغوط على مصادر إنتاج القرار السياسي Lobbying، وقد ترفع قضايا أمام المحاكم لتقرر حقاً ما لأنصارها، وقد تتبرع لحزب سياسي ما لمساعدته في كسب الانتخابات، وقد تشن حملات دعائية. وجماعات المصالح تجد ترجمة لها في الواقع في صورة النقابات المختلفة، والجمعيات المهنية التي تحاول التأثير في اتجاهات القرارات الحكومية.
ومن أمثلة جماعات المصالح “المنظمة القومية للمرأة”، “والتجمع القومي لتقدم الشعوب الملونة”، وغيرها. وفي نظر أنصار النموذج التعددي فإن منظمات جماعات المصالح عادة ما تركز على موضوع محدد تناضل في سبيل تحقيقه.
غير أن المهم في الموضوع أن جماعات المصالح لا تتحرك كتلة واحدة، بمعنى أن رجال الأعمال قد تتناقض مصالحهم وكذلك العمال، وبالتالي فإن هناك تنافساً بين عدد من جماعات المصالح مما يمنع الاستقطاب الاجتماعي.
والبنية الكلية للحكومة في نظر أنصار النموذج التعددي تعددية، وذلك على أساس التفرقة المعروفة في أميركا بين النظام الفيدرالي ونظام الولايات والحكومات المحلية، والتي قد تتنافس في مجال اكتساب القوة. ونتيجة ذلك عملية الرقابة والتوازن Cheks and balances التي تمنع أن تحتكر جماعة ما تحقيق أهدافها على حساب الجماعات الأخرى، ومنع الانزلاق إلى مواقف متطرفة. وفي النهاية يمكن القول أن المصالح الجماعية تعني أن هناك اختلافات متعارضة تسود المجتمعات الحديثة، وهذه الاختلافات – يراها التعدديون – إيجابية، لأنها تمنع الاستقطاب وتقضي على المواقف المتطرفة.
ومن أبرز البحوث العلمية التي أكدت الطابع التعددي للمجتمع الأميركي دراسة عالم السياسة المعروف “روبرت دال” Dahl والتي نشرها عام 1961 عن القوة السياسية في مدينة “نيوهافن بولاية كونيكتيكت”. فقد وجد أن عدداً قليلاً من الأسر الغنية سيطرت على سياسات المدينة في القرن التاسع عشر. غير أن ذلك الوضع تغير في القرن العشرين، نتيجة موجات التحضر والنمو السكاني والتصنيع، مما أدى إلى توزيع القوة الذي أعطى جماعات المهاجرين ونقابات العمال والطبقات الوسطي دوراً فاعلاً في السياسة، بعد أن كانت محتكرة في أيدي القلة من العائلات الغنية. ومن هنا دلالة العبارة الختامية “لروبرت دال” في أنه في الواقع ليس هناك أي شخص أو جماعة محرومة كلياً من القوة، ويعني بذلك أنه مع توزيع القوة بين أطراف شتى، أصبح هناك وزن لكل فرد وجماعة في المجال السياسي.
وعلى وجه الإجمال، يمكن القول إن أنصار النظام التعددي يرون أن الاقتصاد السياسي للولايات المتحدة الأميركية ديموقراطي أساساً ويتسم بالانفتاح، وهو يعطي قدراً من القوة لكل الجماعات المتنافسة. وبالرغم من أن أنصار النموذج التعددي لا يزعمون أن القوة التي يمتلكها كل طرف من الأطراف متساوية، إلا أنهم يؤكدون أن الأقوياء لا يحققون بشكل منتظم أهدافهم بالضرورة، وأن غير المحظوظين – على العكس – قادرين على الحشد والتعبئة للحصول، على الأقل، على بعض مصالحهم، وهم يرون بالإضافة إلى ذلك أن النظام السياسي للولايات المتحدة مستقر.
غير أن نقاد النموذج التعددي يرون أن أنصاره إنما يرسمون صورة مزيفة للسياسة في الولايات المتحدة الأميركية، وذلك لأن الجماعات غير المحظوظة تعاني مشقة كبيرة في التعبئة والحشد دفاعاً عن مصالحها، وهم بالتالي مستبعدون من عملية صنع القرار. والدليل على ذلك أن حركة الحقوق المدنية التي قامت في الستينات، إذا كانت استطاعت أن تلغي قوانين التفرقة العنصرية، إلا أنها فشلت في تعديل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للأميركيين من أصل أفريقي.
ومن ناحية أخرى فقد لاحظ نقاد النموذج التعددي أن جماعات رجال الأعمال والشرائح العليا من الطبقة المتوسطة، قادرة على الحشد السياسي لتحقيق أهدافها على جبهة عريضة، وهذا ما لا تستطيعه جماعات مصالح أخرى.
ومن ناحية أخرى فإن شركات الأعمال الكبرى تمول عديداً من الجمعيات التي تمثل وجهة نظرها في قضايا متعددة.
وإذا كان صحيحا أن الطبقة العمالية لديها تنظيماتها التي تدافع عن مصالحها، إلا أنها أضعف كثيراً من تجمعات رجال الأعمال.
ويرد هذا الضعف أساساً إلى أن العمال والمستهلكين لا يملكون عناصر القوة المالية المتوفرة لدى جماعات رجال الأعمال، الذين يمولون عديداً من الجمعيات التي تؤيدهم في عديد من القضايا.
والخلاصة أن النموذج التعددي يقدم في الواقع صورة مثالية للنظام السياسي الأميركي. وذلك لأنه يدعي أن هناك تنافساً مشروعاً لاكتساب القوة بين جماعات سياسية واجتماعية شتى في الولايات المتحدة الأميركية، وأن المسألة أشبه ما تكون بمباراة مفتوحة، من حق كل طرف سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أن يشارك فيها على قدم المساواة. وأهم من كل ذلك أنه ليس هناك تركيز للقوة في يد طرف واحد أو أطراف قليلة، وليس هناك احتكار اقتصادي، ولا يوجد استقطاب اجتماعي. بعبارة أخرى كل الجماعات السياسية والاقتصادية على قدم المساواة، وتتصارع في إطار ديموقراطي لتحقيق أهدافها، من خلال محاولة التأثير على عملية صنع القرار.
والسؤال الآن ما هي موضوعية هذه الصورة المثالية للنظام السياسي الأميركي؟ وهل صحيح أن كل مواطن أميركا حر في ممارسة القوة التي يملكها والتي هي موزعة بقدر معقول من العدالة بين الجماعات السياسية المختلفة؟ أم ان هناك تركزاً للقوة في مراكز محددة كما ذهب إلى ذلك العالم الاجتماعي “س. ر. ميلز” في نظريته عن “نخبة القوة”، والتي قدمت نظرية مغايرة تماماً عن النظام السياسي الأميركي. أو أن الأمر أخطر من ذلك كله، لأن هناك – كما تذهب نظريات ماركسية أخرى – طبقة حاكمة أميركية تهيمن على كل مصائر البشر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً؟
أسئلة هامة تقضي منا أن نلقي نظرة معمّقة على النظريات النقدية للنموذج التعددي المثالي!
(باحث مصري)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى