درس التاريخ الذي أغفله أوباما
سمير كرم
أشاد أوباما بالإسلام كما أشاد بالولايات المتحدة الأميركية، وأظهر حرصاً على أن يذكر حقيقة تاريخية، وهي أن أول دولة أجنبية اعترفت بالولايات المتحدة كدولة مستقلة، بعد إصدار «إعلان الاستقلال» الأميركي، كانت دولة عربية إسلامية، هي المغرب… لكن أوباما، لم يشر إلى أن أول حرب شنتها أميركا بعد الاستقلال كانت ضد بلدان عربية.
كأنما كان باراك أوباما أول أميركي ـ وليس فقط أول رئيس أميركي ـ يتحدث عن الإسلام والمسلمين بهذه الطريقة الإيجابية مادحا ومشيدا بالدين والحضارة التي نتجت منه تاريخيا.
غير أن الحقيقة هي غير ذلك. فأكثر المؤرخين ـ مستشرقين وغير مستشرقين ـ وما أكثر رجال الدولة والدبلوماسيين والعلماء الاجتماعيين الأميركيين، والسياسيين منهم أيضا الذين أكدوا احترامهم للإسلام والشعوب. ويقول المؤرخ الروسي البارز بونداريفسكي ـ في كتاب له بعنوان «الغرب ضد العالم الإسلامي» (1985) إن هؤلاء الأميركيين «يشيرون في الوقت ذاته الى أن الولايات المتحدة الاميركية، خلافا للمستعمرين الاوروبيين، لم تشرع في القيام بنشاط عسكري وسياسي في العالم الإسلامي إلا بعد الحرب العالمية الثانية». وهم يحاولون أن يؤكدوا للرأي العام الإسلامي أن الأساطيل الاميركية لم تظهر إلا آنذاك في البحر الابيض المتوسط وفي المحيط الهندي.
ولقد اهتم أوباما، في خطابه التاريخي الذي وجهه إلى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة، بأن يرسم صورة إيجابية للعالم الإسلامي وللولايات المتحدة الأميركية على السواء. وأظهر حرصا على أن يذكر حقيقة تاريخية مهمة هي أن أول دولة أجنبية اعترفت بالولايات المتحدة كدولة مستقلة بعد إصدار «إعلان الاستقلال» الأميركي كانت دولة عربية إسلامية هي المغرب، وكانت بالتالي أول دولة أقامت علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة.
غير أن أوباما، ربما إمعاناً منه في الحرص على إظهار كل ما هو إيجابي، تجنب الحقيقة التاريخية المؤكدة ما يثبت أن أول حرب وراء البحار شنتها الولايات المتحدة الأميركية بعد استقلالها بوقت قصير جداً كانت ضد بلدان عربية .. غير بعيدة عن المغرب، بل ضمنها المغرب. أغفلها الرئيس أوباما مع أنها مذكورة بالاسم في النشيد الذي يتغنى به المارينز (مشاة البحرية) الأميركيون عن نشاطهم «بين تلال مونتيزوما وشواطئ البحر المتوسط».
تقول موسوعة التاريخ الأميركي الأسرية (1975) إنه لمدة تربو على قرنين قبل أن تصبح الولايات المتحدة دولة مستقلة، كانت الدول الأوروبية تدفع فدية مقابل حماية سفنها في البحر الأبيض المتوسط من غارات القراصنة البربر الذين كانوا يمارسون نشاطهم من قلاع حصينة في دول البربر: المغرب والجزائر وتونس وطرابلس (وهو الاسم الذي كان يطلق على ليبيا ككل). وفي أيامها الأولى كدولة مستقلة سارت الولايات المتحدة على خطى الدول الأوروبية فكانت تدفع فدية لحمايتها، لكن طرابلس رفعت فجأة قيمة الفدية التي كانت تحصلها في العام 1801م. عندئذ رفض الرئيس الأميركي (الثالث في ترتيب الرؤساء الأميركيين) توماس جيفرسون أن يدفع الفدية بالزيادة أو بدونها، وأرسل مجموعة من السفن الحربية الأميركية إلى البحر الأبيض المتوسط لتعقب قراصنة البربر. لكن الأسطول الأميركي الذي أرسل لهذه المهمة أثبت عدم قدرته على إخافة طرابلس.
وفي العام 1803 أرسلت أميركا قائداً جديداً لأسطولها في البحر المتوسط هو الكومندار إدوارد بريبيل، وأضافت إلى قوة أسطولها سبع سفن أخرى كانت إحداها أشهر قطع الأسطول الأميركي آنذاك، والتي كانت تحمل اسم البارجة «كونستتيوشن» أي الدستور، والفرقاطة «فيلادلفيا». وكانت البداية الجديدة للأسطول الأميركي سيئة أيضا، إذ جنحت فيلادلفيا عند شاطئ طرابلس خارج مينائها مباشرة بينما كانت تحاول أن تتعقب «الأعداء» الذين كانوا يغيرون على قطع الأسطول الأميركي. وعندئذ تمكنت طرابلس من أسر قبطان السفينة وطاقمها.
تغير الوضع في شباط / فبراير العام 1804 عندما تمكن قائد إحدى السفن الأميركية من أسر سفينة طرابلسية وأغار بها على مرفأ طرابلس، وهناك أحرق السفينة الأميركية الجانحة فيلادلفيا، وتمكن بعد ذلك من الهرب دون أن يفقد أياً من رجاله. وفي هذه الظروف الجديدة تمكن الكوماندرا بريبيل من قذف ميناء طرابلس ومدينتها بعنف بالقنابل. وفي يوم 3 آب / أغسطس العام 1804 أسر ثلاثة من الزوارق المسلحة الطرابلسية وأغرق ثلاثة أخرى. وبعدها أرسلت تعزيزات جديدة إلى الأسطول الأميركي في البحر المتوسط وعين قائد جديد له، حين أعلن باي من طرابلس استعداده للدخول في محادثات سلام .
في تلك الأثناء تمكنت الولايات المتحدة من أخذ تعهد من بعض العرب، من غير منطقة البربر، وكذلك من اليونانيين والإيطاليين بالمشاركة في اقتحام طرابلس إذا لم تستسلم. وفي 4 حزيران / يونيو العام 1805 وقعت معاهدة مع طرابلس. وبينما ألغت المعاهدة الفدية، فإنها ألزمت الولايات المتحدة بأن تدفع 60 ألف دولار مقابل إطلاق سراح قبطان وطاقم الفرقاطة فيلادلفيا.
ظلت الولايات المتحدة تدفع الفدية لـ«القراصنة البربر» الآخرين، أي الجزائريين والمغاربة والتونسيين، مقابل حماية سفنها. وفقط عندما انتهت حرب العام 1812 م بين الولايات المتحدة وبريطانيا تمكن الأسطول الأميركي من غزو مرفق الجزائر العاصمة وأجبر الباي على توقيع معاهدة أنهت دفع الفدية وأعادت كل الممتلكات الأميركية المصادرة. ولم تلبث أن وقعت معاهدة مماثلة مع كل من تونس وطرابلس.
منذ ذلك الوقت بقي الأسطول الأميركي في مناطق البحر الأبيض المتوسط. يوضح هذا التاريخ أن أول صدام عسكري خاضته الولايات المتحدة بعد إعلان استقلالها عن بريطانيا كان مع العرب المسلمين، وأن أول هزيمة عسكرية (بحرية) لحقت بها كانت على يد العرب المسلمين .. وإن اختلفت النتائج بعد ذلك.
ويعلمنا التاريخ أن السفن التجارية والحربية الأميركية الأولى، والتجار والدبلوماسيين وعملاء المخابرات الأميركيين، ظهروا في بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية في أواخر القرن الثامن عشر. آنذاك ظهر اهتمامهم بهذه المنطقة في المقام الأول كنتيجة لتجارة الأفيون التي كانت شعوب الشرق تنظر إليها على أنها «أعمال إجرامية» ولكنها كانت ذات نفع هائل لرأس المال الأميركي. إذ كان التجار الأميركيون يشترون الأفيون في أزميل وغيرها من مرافق الإمبراطورية العثمانية وينقلونه بسفنهم عبر البحر المتوسط والمحيط الأطلسي وحول رأس الرجاء الصالح وعبر المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي إلى كنتون في جنوب الصين.
ومع بداية القرن التاسع عشر أخذ التجار الأميركيون، في معارك التنافس مع التجار البريطانيين، ينقلون سنوياً إلى جنوب الصين حوالى خمسة أطنان من الأفيون الذي كان يباع لملايين المدمنين الصينيين. وكان هؤلاء التجار يبتزون فائدة تربو على خمسمئة في المئة من المال المستثمر في هذه العمليات … أي مئات الملايين من الدولارات.
وكان نجاح هذه العمليات «التجارية» يتوقف إلى حد بعيد على مواقف حكام المسلمين في المغرب والجزائر وتونس وطرابلس، وكان هؤلاء يعترفون بسيادة الإمبراطورية العثمانية. وكانوا يجبون رسوما ضخمة عن مرور السفن الأميركية المحملة بالأفيون في مياههم الإقليمية وعن تزويدهم بالماء والأطعمة أثناء زيارتهم المرافق العربية وعن ضمان سلامتها.
كانت السفن الأميركية التي تمضي إلى مرافق الإمبراطورية العثمانية بشحن الأفيون تنقل إليها الأرز والأسماك بأسعار باهظة. وكانت تنقل في طريق عودتها من الصين الشاي وسلعاً مماثلة أخرى. وكان التجار الكبار من بوسطن يوظفون الأرباح الطائلة التي يستخرجونها من الصناعة والتجارة في ولاية ماساتشوستز، الأمر الذي يعود عليهم بأرباح إضافية وكذلك بنفوذ سياسي متعاظم في الأوساط السياسية الأميركية. لقد تمكن التجار أرباب الأعمال الذين كانوا يجنون الملايين من تجارة الأفيون ومن التبادل غير المتكافئ مع بلدان الشرق من أن يشكلوا كتلة باسم «شركاء بوسطن»، وكان لهم تأثيرهم في انتخابات الشيوخ، بل في تعيين الوزراء. وعندما طالب حكام الدول الإسلامية في الشمال الأفريقي بتغيير المعاهدات القديمة ووقف تعسف البحارة الأميركيين وزيادة المدفوعات والإعانات، سلكت الحكومة الأميركية «على المكشوف» تحت ضغط شركاء بوسطن طريق العدوان على مسلمي أفريقيا الشمالية.
وفي سنة 1800 ظهرت قطعتان كبيرتان بحريتان في القسم الغربي من البحر المتوسط بذريعة مكافحة القراصنة، فكانت حرب السنوات 1801 ـ 1805 ضد طرابلس الغرب وحاصر الأسطول الأميركي المدينة، وبدأ الدبلوماسيون الأميركيون بعلم الرئيس جيفرسون وبتعليمات من وزير الحربية في إدارته يهيئون بنشاط انقلاباً في طرابلس جنبا إلى جنب مع التدخل المسلح. ولهذا الغرض أقاموا صلات مع حامد كرمنلي شقيق حاكم طرابلس الذي كان يعيش في المنفى آنذاك في مصر، فوقع حامد مع القنصل الأميركي اتفاقية تعهدت الولايات المتحدة بموجبها بتقديم الدعم العسكري والمالي لحامد كرمنلي ليصبح حاكما، بينما تعهد حامد بأن يوفر للأميركيين وضعاً مميزاً في البلد وأن يعزز النضال ضد التجار الأوروبيين الذين يزاحمون الأميركيين، ونصت المعاهدة نفسها على تعيين القنصل الأميركي في تونس قائداً أعلى لقواته المسلحة (…).
ساعد كرمنلي القنصل الأميركي ومشاة البحرية (المارينز الأميركية) في الاستيلاء على مدينة درنا ورفع على قلعتها العلم الأميركي. فلم تعد بعد ذلك حاجة إلى مهاجمة طرابلس. وهكذا انتهت أول حرب استعمارية تشنها الولايات المتحدة الأميركية في الوطن العربي. وهذا ما خلده نشيد المارينز في قوله «من تلال مونتيزوما إلى سواحل طرابلس، في السماء وفي الأرض وفي البحر خضنا معارك الوطن»، ولا يزال هذا النشيد يتردد على ألسنة المارينز الأميركيين حيثما اتجهوا في ما وراء البحار والمحيطات.
ربما كان الرئيس أوباما محقاً في إخفاء هذه الحقائق التاريخية عندما أراد أن يذكر كل ما هو إيجابي في خطابه إلى العالم الإسلامي.
وربما كان محقاً في اعتقاده اننا لا ندرس تاريخ وطننا العربي بإتقان، كما يدرسه غيرنا .. بمن فيهم الأميركيون، وبمن فيهم بنوع خاص أولئك الذين يدرسون في إطار وكالة المخابرات المركزية الأميركية. وهؤلاء شاركوا بدور لا يستهان به في مد خطاب أوباما بكثير من معلوماته عن «الاحترام الأميركي المخلص للثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية».
السفير