انعطاف استراتيجي مؤجل… لكنه قادم
منذر سليمان
أسماء كثيرة لعبت دوراً فكريا في تحديد الاستراتيجية الاميركية، وحفل سجل حقبة بوش بلائحة من اصوليي المحافظين (بيرل، فيث، كاغان، كريستول…)، فمن ستكون مرجعية باراك أوباما: بريجنسكي أم كيسنجر أم جوزف ناي، أم… لتكون اميركا «اذكي واكثر أماناً» أو لتصبح «القوة الذكية».
شكلت استراتيجية الأمن القومي المعلنة في عام 2002 والمعدلة في عام 2006، المحطة المفصلية في اطلاق رؤيتها، حينما دعت الى ضرورة احتفاظ الولايات المتحدة بقوات مسلحة متفوقة على أي قوات مسلحة اخرى، مع تميزها بقدرات قتالية، تعتمد على سرعة الحركة والمناورة على امتداد الكرة الأرضية، اضافة الى الاحتفاظ بدرجة عالية من الاستعداد للرد السريع، في مجابهة أي طارئ، والأخذ بالضربات الاستباقية ضد أي عدو يحتمل ان يشكل خطراً على الولايات المتحدة، حتى لو لم يكن هذا الطرف قد اظهر نية عداء او مارس فعلاً ما يهدد المصالح الاميركية.
بالطبع، اختارت ادارة بوش المسرح العربي/ الاسلامي كونه البطن الرخو المسلوب الارادة السياسية المستقلة، والحاضن لأهم مخزونات الطاقة، ميدانا للاستراتيجية التي لم تكن لتتوقف عند حدود افغانستان والعراق، لولا نجاح قوى المقاومة في ردعها، وعرقلة هجومها الاستراتيجي لاعادة تشكيل المنطقة.
وفي المحصلة نقف امام مشهد لم تتحقق الهزيمة الكاملة فيه حتى الآن، لمشروع الهيمنة الاميركي وأدواته الصهيونية والعربية معاً في منطقتنا، ولكن بالتأكيد، تمكنت القوى المجابهة له من ادخاله في حرب استنزاف مكلفة عرقلت قدرته على التمدد، وأربكت أدواته الاقليمية التي لا تزال تتحين الفرص لاستغلال وجوده العسكري المباشر، لتعديل البيئة الاقليمية، بما يكفل الاحتفاظ بمواقعها وضمان أمنها.
مدارس التفكير الاستراتيجي الأميركي
شهدت العقود الاخيرة ما يمكن وصفه بثلاث مدارس او مقاربات من التفكير الاستراتيجي الاميركي، يمكن استخلاصها من متابعة عينات من الانتاج الفكري والبحثي الذي صدر في العقدين الاخيرين عن أبرز مفكريها، ونستطيع من خلال تفحصها ولو بلمحة سريعة توقع المسار الأكثر ترجيحاً في توجه الادارة الجديدة، اما المدارس الثلاث فيمكن حصرها على النحو التالي:
1ـ المدرسة التقليدية المحافظة.
2ـ المدرسة التدخلية الحازمة (الاحادية الجانب).
3ـ المدرسة التدخلية المتدرجة (الانتقائية) بالشراكة.
المدرسة التقليدية المحافظة
تجدر الملاحظة الى امكانية اعتبار المدرسة التدخلية الانتقائية والمدرسة الواقعية مساراً واحداً في حقل الممارسة. وأبرز مفكري المدرسة الاولى وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر، ويمكن مطالعة آرائه بالعودة الى كتابيه: «الدبلوماسية (1994)»، «هل تحتاج اميركا سياسة خارجية؟ نحو دبلوماسية القرن الواحد والعشرين (2001)». أما المفكر الآخر فهو ريتشارد هاس، الذي كان آخر منصب رسمي له «مسؤولية التخطيط السياسي في الخارجية الاميركية»، ويمكن العودة الى كتابه: «الفرصة، لحظة اميركية لتعديل مسار التاريخ (2005)».
والجدير بالذكر ان كتابات هاس في السنوات الاخيرة تلقى صدى واسعاً، وهو يشغل حاليا منصب رئيس المركز البحثي السياسي بمجلس العلاقات الخارجية، وصاحب مقولة «عالم بلا اقطاب». ورغم التفاوت النسبي في مقاربات كل من كيسنجر وهاس لما يجب ان تكون عليه السياسة الخارجية الاميركية، إلا انهما يشتركان في نظرة اكثر واقعية، مفادها ان الخطر الاساسي الذي يواجه اميركا هو عدم استقرار وتوازن العلاقات بين القوى الرئيسية في العالم، ويعتبران ان دور التحالفات والشراكة اساسي بينها. ويركز هاس على ضرورة تطوير شراكة عالمية بين اميركا، اوروبا، الصين، اليابان، والهند بصورة اساسية. كما يجب على واشنطن اعتماد القوة العسكرية والدبلوماسية معا، والسعي لاقامة توازن دولي مستقر، وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط لا يبديان حماسة لدعم اقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، رغم قبولهما لهذا التوجه كوسيلة من وسائل ادارة افضل للصراع العربي ـ الاسرائيلي.
المدرسة التدخلية الحازمة
«يتقاطع مفكرو المدرسة التدخلية الحازمة في نظرتهم الى ان التهديد الأخطر الذي يواجه الولايات المتحدة هو ما يمكن تسميته بحزام الفوضى الجنوبي من الكرة الأرضية والإرهاب».
ينتمي أبرز مفكري المدرسة التدخلية الحازمة عموما الى ما اتفق على تسميته بالمحافظين الجدد، الذين وقعوا على وثيقة القرن الاميركي الجديد، لكن ليس كل الاسماء التي لمعت في الاعلام الاميركي مثل بيرل، وولفويتز، وفيث، كاغان، وولسي، وكروثهامر، وكريستول وليدين… الخ. وينسب إليهم تقديم وجهات نظر متماسكة ومعبرة مثلما قدم كل من والتر راسل ميد في كتابه: «القوة، الإرهاب، السلام، والحرب: خطر محدق باستراتيجية اميركا في العام (2004)»، او نيال فرغوسون في كتابه: «ثمن الامبراطورية الاميركية (2004)»، او روبرت ليبير: «العصر الاميركي: القوة الاستراتيجية في القرن الواحد والعشرين (2005)».
ويتقاطع هؤلاء في نظرتهم الى ان التهديد الاخطر الذي يواجه الولايات المتحدة هو ما يمكن تسميته حزام الفوضى الجنوبي من الكرة الأرضية والإرهاب، ولا يعلقون اهمية كبرى على دور التحالفات والشراكات، ويؤمنون بأحقية التدخل العسكري المنفرد للولايات المتحدة بحسب رغبتها، ولا يقيمون وزناً فعلياً لدور الامم المتحدة، او حتى لحلف الناتو، اذا لم يتفقا مع ما يعتبرونه المصلحة الاميركية الخاصة.
ويعتبرون ان استخدام القوة العسكرية الاميركية والعقوبات الاقتصادية وسائل مشروعة دائماً للاستخدام بصورة منفردة، وبهدف القضاء على التهديدات، وترويج الافكار والنماذج الديموقراطية، ويدعون الولايات المتحدة للعب دور قيادي مع حلف الراغبين وبصورة انتقائية بحسب الطلب في مواجهة كل حالة معينة، ولا يكترثون لمن يعتقد بحدود او ضوابط للقوة العسكرية والاقتصادية الاميركية، ويمكن وصفهم فعلا في ضوء التجربة الميدانية خلال عهد بوش الابن ـ الذي نفذ رؤيتهم ـ عمليا بحلف المكابرين.
المدرسة التدخلية المتدرجة
ويمكن وصفها ايضا بالمدرسة الليبرالية المثالية، فيعد أبرز مفكريها زبيغنيو بريجينسكي، ونجد افكارها في كتابين من كتبه العديدة هما: «رقعة الشطرنج الكبرى: تفوق اميركا ومستلزماتها الجيوستراتيجية (1997)»، و«الاختيار: هيمنة عالمية ام قيادة»، وجوزف ناي في كتابه: «القوة الناعمة: وسائل الفوز في عالم السياسة.
وتتقاطع نظرة هذه المدرسة مع مدرسة المحافظين الجدد في تحديد الخطر المهدد للولايات المتحدة باعتباره قوس الازمات او الفوضى الجنوبي، بالاضافة الى الإرهاب. لكن تختلف في سبل المواجهة، اذ تعول المدرسة الليبرالية المثالية كثيرا على اهمية التحالفات والشراكة الدولية، وعلى استخدام القوة الناعمة والدبلوماسية في السياسة الخارجية الاميركية، لبناء اجماع استراتيجي وتحالفات ضرورية والنظر الى ان قيادة اميركا للتحالفات الدولية يجب ان تكون مستندة الى قناعة الآخرين الطوعية بها، ويعترف اصحاب هذه المدرسة بمحدودية القوة الاميركية.
ويركز بريجينسكي على منطقة أوراسيا كميدان رئيسي لتوجه اميركا الجيوستراتيجي، ويفرق بين التأثير على تلك المنطقة وبين السيطرة عليها، ويعتبر ان سياسة ادارة بوش قاصرة عن تحقيق ذلك، وانها ستكون المسرح الفعلي لمستقبل التوجه السياسي العالمي، ويحذر من ان عدم الحكمة في ادارة المسرح سيؤدي الى ان تتحول اوروبا تدريجا عن الولايات المتحدة وتدخل في نزاع سياسي مع روسيا.
ويدعو بريجينسكي الى تشجيع التوسع لحلف الناتو والاتحاد الاوروبي شرقا لضم اوكرانيا وبقية دول البلقان، مع اتباع سياسة توازن بين الحزم والتعاون مع روسيا، ويخشى من تنامي منافسة قطبية تستند الى تعزيز الصين لدورها الاقليمي والعالمي مقابل تنامي المخاوف اليابانية في محيطها الحيوي، ويعتبر انه من الحكمة اعتماد استراتيجية تأخذ في الاعتبار مصالح الصين المشروعة وتخفيف اي اندفاعات محتملة لها نحو طموحات امبريالية.
وينتقد البعض تركيز بريجينسكي المفرط على أوراسيا اكثر من الشرق الأوسط وعلى دعوته الصريحة للتساهل مع كل من الصين وفرنسا والمانيا، مقابل تصميمه على احتواء وضم الدول التي انسلخت عن الامبراطورية السوفياتية سابقاً.
وتتقاطع نظرة المدرسة الليبرالية المثالية مع مدرسة المحافظين الجدد في تحديد الخطر المهدد للولايات المتحدة باعتباره قوس الازمات او الفوضى الجنوبي، بالاضافة الى الإرهاب، لكن تختلف في سبل المواجهة.
ويحذر بريجينسكي من التركيز او التضخيم لخطر ما يسمى بالإرهاب او اعتماد المقاربة العسكرية الاحادية للتعامل معه، لانه سيقود في نهاية المطاف الى عزلة اميركا، ويدعو الى التمييز بين التدخل الاستباقي والتدخل الوقائي المدعوم بالشراكة والتحالف. كما يطالب بريجينسكي بأن تلعب اوروبا دوراً اكبر وتتحمل مسؤولية اضافية في احتواء او ادارة الازمات الأمنية العالمية.
وتتلخص مقاربة جوزيف ناي في ان اميركا اعتمدت صورة مفرطة على القوة العسكرية ويجب عليها اعتماد القوة الناعمة الى جانبها، ويعتبر ان عولمة الاقتصاد والافراط في استخدام القوة الخشنة احدثا ردود فعل سياسية واجتماعية تحمل الولايات المتحدة المسؤولية، وتشكل احد اهم اسباب الغضب والعداء على مستوى عالمي ضد الولايات المتحدة.
وتقتضي النظرة الشاملة لمساهمات التفكير الاستراتيجي الاميركي عدم تجاهل الاصوات التي تصدر من حين لآخر، والتي تتقاطع مع بعض جوانب في تفكير المدرستين الليبرالية المثالية والمحافظة، والتي تدعو الى عزلة جديدة لاميركا والتحول الى الداخل، والسعي لاقامة توازنات اقليمية تخفف من حاجة الولايات المتحدة للتدخل الخارجي المكلف.
(للبحث تتمة)
السفير