صفحات سورية

حين يجري الخلط بين السياسة وفنون الإدارة

null
حسن شامي

«الاتجاه الأساسي لكل فكر بيروقراطي تحويل مشكلات تتعلق بالسياسة الى مشكلات تتعلق بنظرية الإدارة». هذا التوصيف التعريفي الطابع مأخوذ من كتاب صدر عام 1929 بالألمانية ثم نقل الى الانكليزية في 1937، وتأخرت ترجمته الى الفرنسية قرابة ثلاثة أرباع القرن بالرغم من شهرة مؤلفه وشيوع الاستشهاد به وبعمله في أوساط الباحثين الفرنسيين في الخمسينات والستينات. الكتاب هو «الإيديولوجيا واليوطوبيا» للباحث الألماني، المجري واليهودي الأصل كارل مانهايم الذي لجأ الى لندن عام 1933، فراراً من النازية الصاعدة والمكتسحة، تاركاً منصبه في جامعة فرانكفورت بعد ثلاث سنوات فقط من شغله وظيفته الجامعية. على أننا لا نريد الآن عرض هذا الكتاب الشيق علماً بأن صاحبه (المولود في بودابست عام 1893 والمتوفى في لندن عام 1947) ساهم بقوة في بناء «علم اجتماع المعرفة» واعتبر أحد أبرز وجوه مؤسسي المدرسة الألمانية في علم الاجتماع، الى جانب معاصره الذائع الصيت ماكس فيبر. سنكتفي، ها هنا، بالإشارة الى ان المقطع الذي استشهد به آنفاً جاء في دراسة مطولة في عنوان «هل السياسة كعلم أمر ممكن؟» تشكّل جماع الكتاب الذي يتمتع بالتأكيد بناظم مشترك وبوحدة داخلية تربط بين الدراسات الخمس التي كتبت في أوقات وسياقات مختلفة.
في محاولته المشار اليها يستعرض مانهايم، على نحو تطبيقي لمشكلة العلاقة بين النظرية والممارسة العملية (البراكيس)، خطابات النماذج الكبرى للتفكير الأوروبي آنذاك في هذا المجال. فيرصد بالتحليل خمس مدارس أو مذاهب فكرية كبرى هي: النزعة البيروقراطية المحافظة، والتاريخانية المحافظة، والفكر البرجوازي الليبرالي – الديموقراطي، والمفهوم (أو التصور) الاشتراكي – الشيوعي، وأخيراً الفاشية. ولا حاجة ربما للقول ان مياهاً كثيرة جرت ما بين عام صدور كتاب «الايديولوجيا واليوطوبيا» في 1929 وأيامنا هذه، وحفلت هذه الفترة الطويلة والصاخبة بأحداث كبرى مثل الحرب العالمية الثانية، والاستقلالات الوطنية ونزع الاستعمار، والحرب الباردة، ومن ثم انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية العتيدة. على ان التحولات البارزة التي شهدتها هذه الفترة الطويلة والمضطربة والتي أسفرت منذ عقدين ونصف عن تعاظم الليبرالية الجديدة وحرية السوق وتعميم التنافس والخصخصة، لا تمنع من احتفاظ مقاربة مانهايم بقدر من القيمة المعرفية، خصوصاً ما يتعلق بتمييزه بين «بنية معقلنة» وبين مساحة لاعقلانية، في ما يخص الصراعات داخل المجتمع وركائز السلطة والعلاقات بين الدول، وهو التمييز الذي يسمح، بحسب مانهايم، بتعريف السياسة كنشاط وفعل. يمكننا، وان مؤقتاً، أن نضع جانباً النموذجين الأخيرين من نماذج التفكير الغربي، أي التصور الاشتراكي – الشيوعي والفاشية، بالنظر الى الضمور الملحوظ لقيمة تمثيلهما في أيامنا، من دون التقليل من حظوظ تجدد صورهما في هذا البلد أو ذاك، ويمكننا، وان على سبيل محاولة لا تخلو من المجازفة، أن نلحظ، في المقاربات الغربية الموصوفة بأنها «سياسية» لقضايا ساخنة في منطقتنا، نوعاً من التراكب المتفاوت الدرجة والتسويق، بين عناصر بارزة في الاتجاهات الثلاثة الأولى، أي البيروقراطية المحافظة، والتاريخانية المحافظة والفكر الليبرالي – الديموقراطي.
لنأخذ مثلاً خطاب رئيس الحكومة البريطانية غوردون براون الذي قام منذ أيام قليلة بزيارة الى العراق واسرائيل والأراضي الفلسطينية مروراً بالأردن. فقد شدد بعد لقائه ومحادثاته مع رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي على أن بلاده ستواصل سحب قواتها من العراق لكن من دون «تحديد جدول زمني مصطنع». وكان براون قد أعلن أمام مجلس العموم البريطاني ان استراتيجية بلاده في العراق تبدأ بتحقيق الوفاق السياسي ثم الأمن وبعدها «العمل من أجل الاقتصاد العراقي». وهذا ما يترجمه قائد القوات البريطانية في العراق بلغة بيروقراطية – عسكرية قائلاً بوضوح: «يوجد في البصرة نفط وغاز ومرفأ ومطار، والآن هناك الأمن. نحن نحتاج الى تنمية اقتصادية». في منظار الميجور جنرال بارني وايت، صاحب هذه الكلمات الجامعة المانعة، توجد أمور ينبغي تسييرها، وهذه هي السياسة بعينها، ولا داعي لاستغراب غياب مقولات مثل المجتمع والدولة عن خطابه الإداري هذا. من ناحية ثانية، يبدو النقاش الدائر حول عبارة مثل «الأفق الزمني» لانسحاب القوات الأميركية من العراق بحسب ما توصلت اليه واشنطن وبغداد قبل يوم من زيارة براون، أشبه بأحجية دلالية تعادل أحجية «اسم الوردة». فالعبارة جاءت بدلاً من وضع جدول زمني لخروج القوات الأميركية من العراق، من دون أن تزيل الالتباسات الممكنة. وهذا، على الأرجح، ما حدا بالناطق باسم الحكومة العراقية علي الدباغ أن يقول شارحاً بأن الأفق الزمني لا يعني وضع جدول محدد لسحب القوات الأميركية. ويضيف الشارح العراقي نزعاً للالتباس ان «الأفق الزمني لا يعني الجدول الزمني، انما هو تواريخ محددة للانسحاب وليس جدولاً زمنياً». ذلك ان الحديث عن جدول زمني يرتبط بالظروف على الأرض وظروف القوات، ولا يريد الطرفان أن يلزما نفسيهما بجداول زمنية قد لا تتحقق. غير ان نوري المالكي أعرب في حديث الى مجلة «دير شبيغل» الألمانية عن دعمه لخطة المرشح الديموقراطي باراك أوباما لسحب الوحدات الأميركية المقاتلة في غضون 16 شهراً في حال انتخابه رئيساً. ورأى المالكي أن هذه مهلة جيدة للانسحاب، إلا إذا حصلت تغييرات طفيفة. كما شدد على وجوب أن تغادر القوات الأميركية البلاد «في أسرع وقت»، مضيفاً ان الولايات المتحدة تواجه حتى الآن صعوبة في تحديد موعد ملموس للانسحاب «لأنها تشعر بأن ذلك بمثابة اعلان هزيمة، وهو أمر غير صحيح». لنقل ان العراقيين سيزدادون انقساماً في الأيام المقبلة بين «أهل الأفق الزمني» وأهل الجدول الزمني، وسيحفل هذا الانقسام بنقاش دلالي وذهني لمضمون وحمولة العبارتين. وكان كارل مانهايم يرى بحق ان الفكر الليبرالي – الديموقراطي يتسم أساساً بالذهنوية Intellectualisme وبنوع من التفاؤل العنيد الناجم عن الاعتقاد بقدرته على ايجاد الوصفة العقلانية للتحكم بالمساحة اللاعقلانية التي يقر هذا الفكر بوجودها. وعليه يختزل هذا النمط من التفكير مسائل السياسة الى «نقاش واقعي» للأمور. وكل هذا يحصل، في راجح الظن، كي تتفادى الإدارة الأميركية الحالية الخروج بخلاصة عن حملتها العراقية تذكر بالنكتة  الطبية المعروفة عن البيروقراطية الإدارية – العسكرية وهي: لقد نجحت العملية الجراحية، ولم يشبها سوى أمر صغير وهو أن المريض مات.
ما يموت، في العمق، هو السياسة في معناها النبيل. وحين ننظر الى حديث غوردون براون عن السلام بين إسرائيل والفلسطينيين نجد خليطاً من البيروقراطية المحافظة ومن الذهنوية الليبرالية، وهو خليط يجعل حديثه لعثمة متأففة. فهو في مقالة في «الحياة» (الأحد الفائت) يضع الخطوط الكبرى للحل الدائم التي تحتاج في نظره الى قرارات سياسية رئيسية يجب اتخاذها «ويجب أن تبقى ذات أولوية مطلقة» ولا يمكن للمساعدة الاقتصادية أو غيرها أن تحل محل الشجاعة السياسية. على ان براون نفسه يرى ان تحسين الاقتصاد يمكنه أن يكون نقطة البداية لبناء علاقة جديدة لتحقيق المصالح المتبادلة. ويقول براون إنه أعد، حتى قبل أن يصبح رئيساً للوزراء «خريطة طريق اقتصادية» لأجل السلام. هذا ما يقوله رئيس حكومة بلد عقلاني واضعاً العربة قبل الحصان مع الحرص الذهني على اقناعنا انهما قابلان للتناوب، وما يجيز ذلك هو رهانه على انقسام بين أهل العربة وأهل الحصان.

الحياة     – 27/07/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى