صفحات العالم

جَذْر البلاء

خيري منصور
لا يصح على الإطلاق وبكل المعايير الفكرية والأخلاقية أن يكون هناك تعامل باستخفاف مع أي مشهد إنساني مبقع بالدم، لكن فقه الاختزال الذي أصبح مقرراً على العالم لا مانع لدى منظريه والمتنطعين له من التلاعب حتى بالمصائر، ما دامت هناك حسابات معظمها إجرائي وتكتيكي، يقاس فيها الربح بما هو متحقق في المدى المنظور، فالظواهر الاجتماعية عندما يتمخض عنها حراك سياسي، يكون لمفاعيله ما هو أبعد من الانفجار النووي، لأن هناك معادلات تُقلب وموائد تستدير بعد أن كانت حادة الزوايا.
إن جذور الانتفاضات الشعبية أبعد مما يظن من يعتمدون على العين المجردة، حتى لو زعم أحدهم بأنه زرقاء اليمامة لهذا الزمن، فالأسباب غائرة في الذاكرة الجماعية، وثمة ما يتراكم بانتظار أن يعثر على قشرة رقيقة يندلع منها، وقد يبدو هذا الكلام حكراً على إيران وما يجري في شوارعها وساحاتها بسبب التوقيت الذي نطرح به هذه التساؤلات التي لن ترقى إلى مستوى المساءلات من دون إتاحة ما يكفي من الشفافية وتسمية الأشياء بأسمائها حتى لو كانت جارحة وبالغة الفجاجة.
إن منطقتنا هذه عانت لزمن طويل من عدة مكبوتات وفي مختلف الميادين فتحول المؤجل إلى مديونيات سياسية واجتماعية قبل أن يتحول إلى مديونيات مادية بالمعنى الاقتصادي، وما قيل مراراً عن دولة الاستبداد الشرقي رغم اختلاط النوايا وتفاوت المقتربات لا تغيب أشباحه وظلاله الداكنة عن ذاكرتنا كلما شاهدنا ما يشبه الحرب الأهلية في عواصم هذه المنطقة، فهي منطقة منكوبة بامتياز وما عصف بها من أعاصير السياسة وانفجارات الايديولوجيا قد يكون أعتى من “اعصار كاترينا” الأمريكي أو تسونامي الآسيوي، لكن آفة الاختزال والاستسلام إلى عادات ذهنية ترسخت بسبب البطالة السياسية تحجب ما هو جوهري وأساسي، فلا ترى من الغابة إلا شجرة واحدة، ومن منابع التيار غير ما يطفو عليه من زبد.
ثمة طريقتان لا ثالثة لهما في تحقيق سلام اجتماعي في أي بلد في العالم، أولاهما الاقرار بحق الشراكة في صياغة المصير الوطني، بحيث لا تكون الوصاية هي البديل عن الحوار المتكافئ بين الأطراف المختلفة.
وثانيتهما تداول السلطة على أسس متعارف عليها وراسخة، وليس بأسلوب المحاصصة أو توزيع الغنائم.
وسوف تتورط شعوب هذه المنطقة في المزيد من الفوضى غير البناءة، وتفقد رشدها الوطني لمصلحة حروب أهلية تأتي على الأخضر واليابس والصالح والطالح إذا لم تأخذ التحولات الكونية بجدية ودونما استخفاف سلطوي تصبح الحلول العاجلة وغير الجذرية فيه منوطة بالقوة وحدها.
لقد تتالت الدروس منذ العراق واحتلاله وإن كان لبنان قدم مسودات أولى لهذه الدراما خلال حرب أهلية دامت أكثر من عقدين، لكن هناك من يصرون على التعامي وصرف الانتباه عما يحدث كي يبقى تكراره ممكناً، ومضموناً في بعض الأحيان، فالديدان والذباب لا يفرحها شيء كوفرة الجثث المهجورة على الأرصفة، إن العالم يتغير ولا يعبأ بمن يعيشون كأهل الكهف، ومن يعجزون عن التأقلم مع إيقاعه المتسارع سيدفعون الثمن من أغلى ما يملكون وهو الدم ومستقبل أحفادهم.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى