… وتيرة جديدة لسقوط الأيقونة
دلال البزري
من يتذكّر العقود الطويلة التي أخذها تسرّب اخبار معسكرات الاعتقال («الغولاغ») في الاتحاد السوفياتي، أيقونة المستغَلين والمستعمَرين في عصر الحرب الباردة؟ عشرات السنوات و «الستار الحديدي» والتعتيم الاعلامي التام، يمكّنان نظام «استغلال الانسان للإنسان»، مقلوباً، من الاستمرار في هيمنته الفكرية على المناضلين اليساريين والقوميين والتقدميين الساعين الى الاستقلال والتحرير؛ خصوصاً من اجل تحرير فلسطين. عشرات السنوات من التسريبات والتكذيبات وألاعيب الشيوعيين واختلال موازين وحسابات والكُتب المنشقّة المتنقّلة تحت المعاطف، وروايات ادبية… لتطلع اخيراً الى العالم الخارجي الصورة الأرجح للديكتاتورية الشيوعية.
مثل ذيوع روبات الغولاغ، والكسندر سولجنتسين… موجات مرّت من الاهتزاز لصورة «الاشتراكية الواقعية» المطبّقة في الايقونة، قبل ان ينهار ستارها الحديدي بضربات معول وكتاب لرئيسها آنذاك، غورباتشوف، يقول بانعدام امكانية استمرار النظام من غير اصلاحه. 70 عاماً، عمر الاتحاد السوفياتي. 70 عاماً احتاجت هذه الديكتاتورية، المنخورة من الداخل، بطلتنا السابقة، لكي نشهد على سقوطها المدوي وبيع عتاد جيشها الوطني في البازارات التركية واليونانية. (ومع ذلك، يبقى لها «مخلصون». ولكن، هذا موضوع آخر).
الآن؛ أيقونة العصر الديني لمظلومي ومستضعفي هذه الارض، والوحي المتجدد لمُمْتشقي الدين في كل المذاهب والاديان: ايران الاسلامية. ما يحدث فيها اليوم، هل يحتاج الى عشرات السنين لكي تُنزع عنها صفة «ألوهية» نظامها؟ وهل النقاش الذي انطلق بين الأقلام والأصوات العربية المؤيدة لأكثر الأجنحة تطرفاً من هذا الحكم «الإلهي»… هل تشبه هذه المجادلة النقاش السابق بين مثقفي اليسار بخاصة، حول فساد نموذج الايقونة السوفياتي أو حول ضرورة تطعيمه بالثورة الثقافية الصينية، والتي تبيَّن لاحقاً انها، هي الاخرى، ليست سوى الصيغة المقلوبة لـ «تعذيب الانسان للإنسان»؟
الجواب الأرجح، هو لا عن كلا السؤالين. وتيرة عصرنا اسرع من وتيرة عصر الحرب الباردة. انساننا اليوم يمشي بسرعة الآلة التي اخترعها. الاعلام الالكتروني والمدونات واليوتيوب والمواقع المستحدثة. التحسينات التي ادخلها أخيراً بسرعة قياسية الإعلام الغربي خدمةً للحركة الاحتجاجية المحرومة من التغطية؛ وتنظيمه المعلومات الوحيدة القادرة على التسرّب؛ إعلام المواطن الموجود في الداخل والمستخدم بدوره لأرقى ما بلغته العولمة من قدرة على تحطيم الاسوار الحديدية، الشبكة الالكترونية. وكلها تمدّ العالم اجمع، بما لم يكن ممكناً تخيّله أيام معسكرات الاعتقال والتعذيب في العصر السوفياتي البائد. فقد اصبح بسرعة واضحاً ان النظام الذي اخترع خلخالي ومحاكمه وولاية الفقية والنزاع السنّي- الشيعي وفتاوي التكفير والإعدامات والاستشهاد بمفاتيح جنة… هو حكم مهزوز الشرعية الداخلية، ولم يُعِد الولاء اليه طوعاً كما زُيّن لنا طوال ثلاثة عقود. وان الحكم فيه ليس للدين، بل لرجال الدين. وان لهؤلاء أهواء وتغوّلات. والأهم من كل ذلك، مثله مثل نظرائه السنة، ان الاكثر تضرراً منه: نساء من كل الاجيال وشباب وأقليات عرقية ومذهبية.
ومع كل ذلك لا يغير الكثير كون الحركة الاحتجاجية آتية من أركان النظام، أو من قادته او الوجوه البارزة فيه. في لبنان ايضاً، علمانيون غير طائفيين أيدوا 14 آذار (مارس) التي هي، مثل خصومها في 8 آذار، من صميم النظام الطائفي. وحجتهم قائمة على مشروع الدولة، النسبي، الاكثر رحمة من مشروع المقاومة المطلق المراوغ.
الحملة الانتخابية نفسها، بإطلاقها للألسن اعطت شحنة الامل هذه؛ شحنة الوعد بالحرية. وعلى رغم مقولة «الغزو الثقافي»، كانت بصمات اميركا الثقافية على ديناميكية الحدث واضحة. حالات النقاش الحامية بين المرشحين، حول برامجهم وأخطائهم؛ ومناظراتهم المتلفزة في نهاية الحملة، على الطريقة والاسلوب الاميركيين، وبالتكنولوجيا التي لا يزالون يطورونها… فجرت تمرّداً، كان اكثره ظهوراً في هندام النساء. مؤيدات موسوي أرخين حجابهن وتفنّنَ بأهدابهن وخصلات شعرهن الامامية؛ بما يعرّضهن لملاحقة «شرطة الأخلاق»، وعقوبات قانونية. فيما مؤيدات نجاد يشددن على تشادوراتهن.
وإقبال النساء على موسوي، بهذا الحجم وبهذا الهندام، لم يكن ممكناً لولا زوجته زهرة رهنورد. اول امرأة في الجمهورية الاسلامية سيدة اولى، ترافق زوجها طوال حملته الانتخابية، وتعِد الايرانيات باستعادة حقوقهن المسلوبة (إلغاء «شرطة الأخلاق»، اصلاح قوانين الاحوال الشخصية…). وتصرح للإعلام: «يقولون عني انني ميشال اوباما طهران. وأنا افضّل هيلاري كلنتون، المرأة الفعالة، لا المرأة التي تقصّ الشرائط». ولكن الأهم من هذه الاشارات المبعثرة للأثر الثقافي الاميركي في الايرانيين، هناك اوباما وخطابه. هل كان ممكناً تخيّل الذي يحصل الآن في ايران لو لم يكن هناك اوباما؟ الذي يمد يده، ويعتذر عن اخطاء الماضي، مثل الانقلاب على مصدق العزيز على قلب الايرانيين، ويلغي من القاموس الرئاسي «ايران محور الشر» الخ؟ هل كان يعقل في هذه الحالة ألا يلتقط اصلاحي مثل موسوي اللحظة ويقول إن مزيداً من التمدد والتطرف الايرانيين قد ينتهيان بها الى خسارتها كل ما «راكمته» خلال العهود الثلاثة؟ والى تفريع شعارات الثورة الاسلامية «الحرية، الاستقلال، الجمهورية الاسلامية» من فحواها او جدواها؟
نوع من البريسترويكا الايرانية: اصلاح النظام من الداخل، وقبل فوات الأوان. استقلال؟ نعم. ولكن بأي كلفة؟ حرية؟ الجموع العفوية غير الغوغائية متعطّشة اليها. اسلامية؟ بل دنيوية. جمهورية؟ تنخرها الادعاءات المهدوية.
ولكن مع كل ذلك، تحية الى ايران المعاصرة التي بيّنت الفرق بين نشأة المعارضة في ظل نظام اسلامي صريح؛ ونشأتها في ظل نظام متذبْذب بين دينية ومدنية، كلتاهما مزعومة. في الأولى تنشأ المعارضة فيها على اسس اصيلة من التوق الى الحرية؛ وتكون العقول في سرّها اكثر حرية من علنيتها؛ وأكثر حرية من عقول «المعارضين» في الانظمة المائعة الصفة. ففي ظل هذه الاخيرة، تختلط في ذهن «المعارض» السلطات الدينية والمدنية، المتشابكة والمتفاسدة. ويكون «معارضاً» يطالب بالكثير من السلطة والقليل من الحرية (قارن بين المحتجين الايرانيين، وبين جموع «حزب الله» اللبناني، المنضبطة حديدياً ومركزياً).
تحية اخرى الى ايران: مصيرها يؤثر في مصيرنا. وليتنا نتشارك في صنعه… فلو بلغ الامر أن قالت اخيراً «إيران اولاً»، لن يبقى على مقلدي ملاليها ومندوبيهم «الشرعيين»، وعلى مقلّديهم المناكفين اصحاب المذاهب الاخرى، غير العودة الى اوطانهم والاعلان «انها هي اولاً». الحياة