وهل لنا نحن أيضا تاريخ مفبرك؟
منصف المرزوقي
ما من شكّ في أن كتاب “كيف تمّ اختراع الشعب اليهودي” للمؤرخ اليهودي الإسرائيلي شلومو زانت الذي أثار جدلا واسعا في إسرائيل وترجم إلى 26 لغة في أقل من سنة، نزل بردا وسلاما على كل القراء العرب ومنهم كاتب هذه السطور.
ما يثبته بوضوح هذا الرجل، الذي لا يمكن أن يتهم بأن عداءه للصهيونية قناع على معاداة السامية هو خواء المطلب الصهيوني بأرض فلسطين. وهو يبرهن استنادا على كمّ هائل من المراجع -الكثير منها يهودية- على أن تهجير اليهود بالقوة من أرض فلسطين بعد تدمير الهيكل الثاني من قبل الرومان خرافة.. وأن بقاء العرق نقيا في المنافي خرافة.. وأن من عادوا لاحتلال فلسطين هم أحفاد من طردوا قبل ألفي سنة خرافة.. وحتى الهجرة من مصر وقيام مملكة داود ووجود سليمان، أساطير في أساطير.
إن أهمّ ما في الكتاب تتبّع المؤرخ الشجاع لكل عمليات التصنيع التي لجأ إليها المؤرخون الصهاينة في أوروبا القرن التاسع عشر لحبك الأسطورة التي ذهب الفلسطينيون ضحيتها والتي تدرّس في مدارس إسرائيل على أساس أنها الحقيقة المطلقة.
من يعلم أن بن غوريون مؤسس إسرائيل كان يقول إلى نهاية عشرينيات القرن الماضي إن الفلسطينيين هم أحفاد العبرانيين القدامى وإنهم سيفتحون أحضانهم لإخوتهم المهجّرين. لكن لمّا تمسّك الفلسطينيون بعروبتهم غيّر الرجل نظرته وتغيرت الأطروحات “الفكرية” لتجعل منهم أجانب احتلوا أرض الآباء والأجداد ويجب طردهم منها.
السؤال الذي يطرح بعد قراءة هذا الكتاب هو هل نحن أمام ظاهرة خاصة يختص بها اليهود أم هل نحن أمام قانون عام؟ أي أن كل تواريخ الأمم التي تدرس في المدارس الثانوية مفبركة من الألف إلى الياء.
ثمة ما يدفع إلى القول بهذه النظرية. خذ فرنسا مثلا, ففي كل مدارس البلد ومستعمراته، درّس ملايين الأطفال منذ نهاية القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين أن الفرنسيين ينحدرون من الغاليين Gaulois.(وهم القبائل الأصلية التي حاربت الغزو الروماني ثم انقرضت بصهرها في بوتقة كل الشعوب الغازية).
ما لا يعرفه عامة الناس وبالطبع الأطفال، أن ولادتهم من رحم الغاليين كان بقرار سياسي صدر بعد حرب 1870 التي خسرها الفرنسيون تجاه الألمان وكان كرههم حادّا إلى درجة أنه لم يكن مقبولا أن تواصل كتب التاريخ القول بأن الفرنسيين ينحدرون من الفرنجة الذين أعطوا اسمهم للبلاد، مما يعني أنهم حفدة شعوب جرمانية أي ألمانية.
قس على نفس المنوال بخصوص التاريخ الذي درسه الأطفال الروس تحت ستالين أو الأطفال الألمان تحت حكم هتلر.
الثابت إذن أن التاريخ المكتوب ليس صورة مطابقة للأصل عن الماضي -ولو بثغرات ووضوح متفاوت- وإنما هو دوما تفويض له لتفسير وتبرير أو خلق وضع خاضع لأجندة سياسية مسبقة.
هذا التفويض الذي درسه صاند بعمق بخصوص الصهيونية عملية إعادة كتابة الأحداث, والمنهجية هنا هي الإسقاط والإضافة والتضخيم والحشو وحتى الكذب المتعمّد.
هل المؤرخ إذن من يفبرك التاريخ بحسن نية في أحسن الأحوال لقلة ما يعرف عن الماضي وكثرة ما يجهل، وفي أسوأ الأحوال بنية المغالطة انسياقا وراء أهوائه أو لتحقيق مصالح مستخدمه الذي يدفع له معاشه والمحتاج لأن يكون للرعاع الذين يتحكم فيهم صورة معينة لماضيهم.
أخطر من هذا بالنسبة لنا نحن العرب السؤال وهل تاريخنا نحن أيضا مفبرك؟ وآنذاك كيف فبرك ومن قبل من ولأي أغراض سياسية أو عقائدية؟
بطبيعة الحال نحن لا نستطيع الإشارة بإصبع الاتهام لكل تاريخنا مستندين فقط على مقارنة عرضية مع تاريخ شعوب أخرى، أو على حكم مسبق بأن كل تاريخ أسطورة وخديعة.
لكن ثمة ظاهرة متينة تدعم شرعية الشكّ في الروايات الرسمية القديمة لتاريخنا انطلاقا من ظاهرة لا جدال فيها بما أنها تتطوّر تحت أعيننا.
خذ التاريخ المعاصر الذي يدرّس في كل دولة عربية. هم يسمونه في تونس “الحركة الوطنية”. كل الرواية مبنية على تضخيم في دور بورقيبة ومركزته والتعمية على دور غيره من قادة المعركة من أجل الاستقلال الأول مثل صالح بن يوسف غريمه الرئيسي (الذي اغتاله “المجاهد الأكبر”) والمرور مرّ الكرام على دور فرنسا في الحسم بين الرجلين وتسليمها السلطة لرجل كان دوما صديقها الوفيّ. ثمة أيضا مبالغات مفضوحة في إنجازات النظام وسكوت مطلق عن كل انحرافاته وآخرها تسليمه البلاد لحكم دكتاتورية بوليسية.
لماذا لا يحق لنا القول بأن ما يحصل اليوم هو ما حصل البارحة وقبل البارحة وفي كل عصر، خاصة أن كل عصر مختلف عن كل العصور إلا في عامل واحد لا يتغيّر: البشر؟
لنردّد أننا لا نقول أبدا إن كل تاريخنا المجيد تزييف كردّ فعل آلي على الموقف المقبول رسميا وشعبيا وهو أن كل تاريخنا المجيد حقيقة.
كل ما نقول ولنا كامل الحق فيه، إنه نظرا لاكتشاف عالمية فبركة الشعوب لتاريخها، وخوفنا من أن نكون نحن أيضا نتحرّك وفق أساطير وأوهام، فإننا نطالب بحقنا في تفحّص أهم أجزاء تاريخنا عبر نقاش حرّ ومسؤول وخارج التهديد والقمع لكي نزيح عنه شكّ الفبركة، أو لكي نفرز ما هو حقيقي عن ما هو مفبرك، كما هو الأمر في الأحاديث النبوية التي حارب الفقهاء طويلا لتخليصها من كل ما هو مدسوس.
الدليل نحو مناطق الظل مستوى تشنّج السلطات السياسية -والغوغاء الفكرية التي تتحرك بأمر أو تلقائيا بفعل الاغتراب الذي وضعه فيها التاريخ المفبرك- لمنع كل بحث جدّي فيها.
مثل هذه الردود المتشنجة وكأنّ الشعار “كاد المريب أن يقول خذوني” أصدق دليل على أن فيما تريد الدفاع عنه شيئا مشبوها، فالحقيقة تفرض نفسها بنفسها ولا حاجة لها لأي عنف.
بعض الميادين التي يجب تفحصها بعين جديدة.
1- هل كانت الجاهلية فعلا فترة الظلام الفكري والروحي المطلق التي تقدمها الرواية الرسمية للتاريخ المجيد، وكيف يقرأ المؤرخون الرسميون وجود حضارات عربية راقية مثل التي أسسها النبطيون في الشمال واليمنيون في الجنوب قرونا قبل الإسلام، أم كيف يمكن أن توصف بالجاهلية وهي فترة تفتح وتشبّع العرب بالحضارات المحيطة بها بل وأعطتنا أيضا الدين الجديد؟
أخيرا لا آخرا, ماذا نعرف عن الحركات الإصلاحية التي سبقت ظهور الإسلام ونحن نستشفّ وجودها من وجود شخص مثل صعصة بن ناجي بن عقل الذي انطلق في عملية فدي الموؤدات قبل ظهور الإسلام بستين سنة أو من وجود عرب نصارى ويهود وحنيفيين رفضوا الوثنية؟
2- هل شكّل فعلا ظهور الإسلام الزرّ الذي ضغط عليه التاريخ لينقلب الظلام الذي كان العرب يعيشون فيه إلى نور ساطع، أم هل أن الظلام لم يكن بالسواد الذي وصف به والنور بالقوة التي قيلت عنه وأن التحول نحو المجتمع الأفضل كان بطيئا وتدريجيا وصعبا ونسبيا ولا يزال إلى اليوم غير مكتمل؟
3- هل كان الفتح العربي بالمثالية التي تصفه بها كتب التاريخ الرسمي وهل كان فتحا أم غزوا كالذي مارسته كل الشعوب، وماذا يعني أن بعض قادة الفاتحين أو الغزاة حاولوا منع الدخول إلى الإسلام حتى يتواصل تدفق الجزية لأن من بين قواعد التاريخ سرعة تغليب الأقوياء المصالح على المبادئ التي يدعون الدفاع عنها؟
4- إلى متى سنواصل تدريس أطفالنا أن الخلفاء الأمويين والعباسيين كانوا يهدون الجواري والغلمان ويخصون الرجال ولا نلفت نظرهم لبشاعة هذا التاريخ، وهل فكرنا نحن يوما في الاعتذار عن تاريخنا الطويل مع العبودية؟
5- وفق أي مؤشرات موضوعية، مثل مستوى وانتشار التعليم والصحة وحرية الرجال والنساء والمساواة، يمكن مواصلة نشر فكرة أن الماضي كان أروع من الحاضر؟ هل أن الغلبة العسكرية هي المؤشر الوحيد على قوة الشعوب؟ وفي حالة القول إن هذا الماضي المجيد كان أيضا وخصوصا فترة خصب وعطاء حضاري، ما الذي جفّف منابع السيل وما هي مسؤولية الشيوخ والفقهاء الذين يحتلون بقوة من جديد جزءا كبيرا من الفضاء الثقافي والإعلامي في القحط الحضاري الذي داهمنا في أقل من قرنين بعد انطلاق ملحمتنا العظمى؟
بطبيعة الحال هذه مجرّد عناوين لمشاكل فكرية واجتماعية طال التعتيم عليها ولعبت الطفرة القومية ثم الإسلامية دورا كبيرا في طمرها في غياهب اللاوعي باعتبار الخوض فيها خطرا على تماسك الأمة وقوتها، والحال أن العكس هو الصحيح.
الثابت أن الأمم لا تواجه بشجاعة حقيقة تاريخها إلا عندما تتوفّر شروط ثلاثة.
– مؤرخون شجعان مثل شلومو صاند لا يخشون من كسر أخطر الطابوات ويقبلون بولوج المناطق المحرمة وفتحها لنور الفكر.
– نظام ديمقراطي يمكّن من عدم خنق الأصوات أو رمي أصحابها بين سنابك خيل فرسان الوهم والضغينة.
-رأي عام بدأ ينضج واكتسب ما يكفي من الثقة في النفس لكي يواجه مناطق الظل في ماضيه دون أن يفقد احترامه لنفسه أو قدرته على التخطيط للغد الأفضل.
للأسف لا نزال بعيدين كل البعد عن مثل هذه الشروط، ومن ثمّ سنواصل العيش تحت ظلّ تاريخ منمق ومصطنع لن يساعدنا للتخلّص منه هجمات شرسة لمن يكرهون أمتنا سواء كانوا من أبنائها أو من خارجها.
لكنها مسألة وقت فقط والمرحلة الضرورية للتطور الطبيعي قادمة طال الزمان أو قصر.
يجب أن نفتح من الآن الطريق في العقول والقلوب لمؤرخين عرب ومسلمين متعلقين بأمتهم ومتمسكين بانتمائهم لها، لكنهم يفهمون أن تحريرها من الأوهام ليس عملية حطّ من قدر الآباء والأجداد وإنما كشف عن مناطق الضعف الفعلية ومناطق القوة الحقيقية في تاريخنا ليكون التاريخ المعلّم وليس المجهّل، المنشط وليس المخدّر، المؤشر على بقية الطريق الصحيح لا على الحلقة المفرغة.
كما قيل عن الحرب إنها شيء أخطر من أن يترك للعسكريين فإنه يمكن القول إن التاريخ أهمّ من أن يترك للمؤرخين ولو من النمط الجديد، ومن ثم فعلى علماء اللغة والفلاسفة والأدباء والصحفيين والباحثين من كل الاختصاصات العودة هم أيضا للصور النمطية لتاريخنا لمحاولة تفكيكها وفهم ما وراءها.
إنها مراجعة قد تكون مؤلمة لكننا لن نستطيع تفاديها إلى الأبد حيث لا يمكن أن نصنع واقعا سليما ونحن نتخبّط في أوهام صنعت للتضليل في أسوأ الأحوال، وفي أحسنها لمواساة رخيصة التكاليف لكنها لا تعيننا كثيرا في غزو المستقبل والماضي قيد في أرجلنا.
الجزيرة نت