صفحات سورية

العقدة الكردية في المنشار القومي الاجتماعي

null
إبراهيم فرحان خليل
لإخواننا في الحزب السوري القومي الاجتماعي نظرية لا تقلّ تاريخيةً عن نظرية إخواننا في حزب البعث، ففي حين يرى البعثيون أنّ جميع الأقطار التي تكلّمت وتتكلم اللغة العربية من المحيط إلى الخليج، كانت منذ الأزل دولة واحدة ذات آمال وآلام مشتركة وذات حدود طبيعية ( لا يقسمها البحر الأحمر )، فصلت بينها في الوقت الحاضر حدود مصطنعة وضعها الاستعمار اللعين، ليحول دون اتحاد الوطن العربي والأمة العربية في وجه المؤامرات والمخططات التي تستهدف وجودها، يرى إخواننا القوميون السوريون أنّ نظرية الأشقّاء البعثيين فضفاضة بعض الشيء، وتضمّ أشتاتاً وأخيافاً ولذلك فقد تواضعوا من جهتهم واقتصروا على المطالبة بـ”سوريا الطبيعية”، التي لا تضمّ بين دفتيها سوى كيانات (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق والكويت وقبرص ) فقط، أي سبع دول بالتمام والكمال، واحدة منها تحتلّها إسرائيل بالكامل منذ أكثر من نصف قرن، والثانية تحتلّها أمريكا منذ سنوات، والثالثة يحتلها مناصفةً منذ قرون العدوّان التركي واليوناني أعني جزيرة قبرص السليبة.
ومقابل التسمية البعثية الأيديولوجية للدولة(قطر)، هناك التسمية القومية السورية الاجتماعية(كيان) للإشارة إلى دول قائمة ومعترف بها وبحدودها عالمياً، وهذا بالطبع جزء من اللعبة اللغوية الأيديولوجية يمكن إدراجها دون تحامل تحت مسمّى الخداع الإعلامي والوعي اللا مطابق.
ولمّا كان الزعيم اللبناني “أنطوان سعادة” هو أيقونة هذا الحزب ومؤسّسه وأباه الروحي قد قدّم هذا الطرح قبل تسليمه التاريخي إلى السلطات اللبنانية من قبل الرئيس السوري “حسني الزعيم”، ثمّ إعدامه مباشرة وتحوّله إلى صنم بمرتبة شهيد، فقد كان لا بدّ لطروحاته من أن تتحوّل إلى مقدّس لا يمسّ، مهما تغير المكان وتبدل الزمان، وكان لا بدّ لـ(نشوء الأمم ) الموضوع منذ سبعين سنة، من التحول في أيامنا هذه من مجرّد كتاب يحمل المعارف النظرية إلى إنجيل يحمل الحقائق المطلقة، كما يحدث عادةً لكتب الزعماء الخرافيين في بلداننا المسكينة.
ولأن (السوريون أمّة تامّة) شعار يتناقض جزئياً مع (الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة)، لأنه ينفي عن الحوزة سكان الحجاز ووادي النيل والمغرب العربي، وهي أجزاء غالية جداً على قلب حزب البعث، ولا يمكنه بأيّ شكل من الأشكال القبول بحذفها من الخريطة، فقد وقع التناقض الذي لا بدّ منه بين الحزبين خلال تاريخ سوريا المعاصر، خاصةً بعد إقدام السوريين القوميين منذ عقود على اغتيال واحد من أكبر أنصار البعث، وهو العقيد عدنان المالكي، فكان الخلاف العملي الذي جاء تالياً للخلاف الفكري وتجسيداً له، وتمت معاقبة الحزب بحرمانه من دخول ملكوت الجبهة الوطنية التقدمية السورية حتى بعد أكثر من ثلاثة عقود على إنشائها.
إما أكراد وإما سوريون !!!
القضية الكردية بالنسبة إلى حزب البعث شبه محلولة نظرياً وفق القاعدة العفلقية الشهيرة التي تعرّف العربي( العربي هو كل من عاش على الأرض العربية أو تاق إلى العيش عليها)، وباعتبار الكرد عائشين على الأرض العربية منذ آلاف السنين فهم عرب، وهكذا فالقضية لا تحتاج إلى كثير من الجهد في محاولة إثبات العكس. أما على الصعيد العملي الميداني فإنّ الكرد ورم سرطاني وتكلّمهم بلغتهم الهندو أوربية الغريبة مجرّد خطأ تاريخي ارتكبه بعض مشايخ الدين وآغوات الإقطاع، وساهم الاستعمار والإمبريالية في إبقائه وتعزيزه، بهدف تفتيت الأمة العربية. ولا بدّ لتصحيح هذا الخطأ من تعريب الكرد، وهذا بالضبط ما حدث ويحدث على جميع البقاع العربية التي يعيش عليها الكرد وعبر وسائل وأساليب مبتكرة لا تخلو من إبداع.
أما بالنسبة للحزب القومي الاجتماعي، فإنّ القضية الكردية، بل مجرّد وجود الكرد داخل أراضي سوريا الطبيعية (وبالذات الكيانين السوري والعراقي)، لم يكن حتى عهدٍ قريب أمراً ذا بال يستوجب المناوشة، ولم تكن آفاقه النظرية لترى أبعد من (التلاحم الإسلامي المسيحي) الذي يمثل قساً وشيخاً يزرعان معاً شجرة في حديقة الوطن، هذا الوطن الذي تجمعه وتحتضنه اللغة العربية آخر لغةٍ مشتركة بين كلا الطائفتين السوريتين، إلى أن وقعت الانقلابات السياسية الأخيرة في جزء عزيز ومركزي من الوطن (السوري الطبيعي) وهو العراق، فقد طفا الكرد على السطح كطبقة حاكمة وتعرّضت هوية العراق إلى الخطر، الأمر الذي لفت أنظار السوريين القوميين للمرة الأولى إلى وجود مشكلة اسمها مشكلة الأقليات وخاصةً الأكراد بسبب وجودهم، وإن بصورة مصغرة، في جزء عزيز آخر هو الكيان السوري قلب سوريا الطبيعية النابض (وقلب العروبة النابض في الخطاب البعثي).
ولما كانت النظرية القومية السورية الاجتماعية تقوم على الرابطة الجغرافية وليس العرقية القومية كما هو حال رابطة البعث، فقد رأى عتاولة منظّريه – ومعظمهم لبنانيون – أنّ وجود الكرد وغير الكرد على الأرض السورية لا يشكل أية معضلة، وأن من الحق بل من الواجب اعتبارهم سوريين كإخوانهم العرب السوريين الآخرين واعتبار لغتهم جزءا من العبقرية السورية التي انطلقت مع بناء أوّل سفينة فينيقية، وحفر أول أبجدية في أوغاريت على جدار أول كهف. هكذا بكل طوباوية وأفلاطونية خرقاء تغيّب عفواً أو قصداً التاريخ والجغرافيا معاً لصالح الوعود الخلابة والنوايا الحسنة والعموميات المضحكة.
في محاضرة نادرة وقعت في المركز الثقافي العربي في الحسكة منذ فترة، وحاضر فيها شخص من قيادات القومي السوري في لبنان – وأقول نادرة لأنها بالفعل كانت سابقة فريدة قد لا يقدر لها أن تتكرر، فقد شهدت قاعة المحاضرات في المركز وللمرة الأولى في تاريخ هذه المدينة حراكاً ديمقراطياً حقيقياً على الملأ وليس داخل الغرف المغلقة في مناطق العشوائيات كما هي العادة – ألقى الأستاذ القيادي محاضرةً حول الأقليات، تطرق فيها بشكل رئيسي إلى الوضع السياسي في لبنان، وقال في أمريكا ما لم يقل مالك في الخمر، وأشاد بممانعة سوريا وصمودها في وجه المؤامرات والمخططات، كما أشاد بحزب الله وكأنه الناطق الإعلامي بلسان السيد حسن نصر الله. وما أن فرغ من مدائحه وطوى صفحة معلقته وطالب جمهوره بالأسئلة والمداخلات والتعليقات، حتى برزت له النخبة المثقفة التي كانت قد تداعت للحضور فتكلّم الكرد والبعثيون والشيوعيون والناصريون والمستقلون على راحتهم، ودون أي اعتبار لوجود الإخوة المخابرات المندسين بالزي المدني ضمن الجمهور.
أعتقد جازماً أنّ السيد المحاضر قد فوجئ بهذا العدد من المعارضين لنهجه – في مدينة صغيرة وتافهة تقع في أقصى الشمال السوري – خاصةً من المثقفين الكرد الذين علّمتهم السنوات أصول اللعبة السياسية ومبادئ الحوار الديمقراطي وقواعد التعامل مع السلطات، ويبدو أنه كان قد تمّ التغرير بالسيد المحاضر وإفهامه أنه سيسلق درساً سريعاً على مجموعة من التلاميذ الذين لن يفكّروا سوى في استيعابه وحفظه بعد ذلك.
من جهتي، كانت خلاصة ما فهمته من المحاضر أنه يعتبرنا – نحن السوريين – إخوته وأحبابه من لحمه ودمه وعظمه، وإلا لما تكبد كل هذه المشقات للوصول إلينا في الحسكة، وتلك بالتأكيد مشاعر طيبة لا يليق بنا جحودها. كما فهمت منه أنه يخيّر جميع الكرد، الذين تداخلوا بعد انتهاء محاضرته، بين أن يكونوا كرداً أو يكونوا سوريين، وذلك بالتأكيد خيار صعب وغير جائز يشبه أن تخيّر العربي بين أن يكون عربياً أو يكون سورياً.
قال مجاملاً إخوته وأحبابه من الكرد السوريين: “نحن معكم أن هناك بعض القوانين وبعض التصرفات غير العادلة تجاه الكرد في الكيان السوري ويجب مراجعتها وإصلاحها في حال وجود الخلل. ولكننا لسنا معكم أبداً إذا كنتم تطمحون إلى إنشاء دولة باسم كردستان داخل سوريا. بل إننا عندها سنكون في مواجهة بعضنا البعض”، وأشار بنطح أصابع يديه المفتوحتين ببعضها البعض كتأكيد حركي إيمائي عدواني على جديته.
ورغم أن أحد المتداخلين تلا على أسماعه سيمفونية الحركة الكردية السورية الخالدة وهي (إننا سوريون لسنا إنفصاليين) إلا أن الرجل كان على ما يبدو مصمماً على أن لدى الكرد نوايا سيئة ومكبوتة تجاه سوريا وعروبتها!! وكان من جهة أخرى يراوح بين مسلّمة “حقوق الشعوب في تقرير مصيرها “، التي لم يكن يبدي اعتراضاً عليها وبين كون الكرد شعباً. وهذا ما سبب له ارتباكاً منطقياً حاول بكل جهده أن يتداركه ولكن عبثاً، خاصة مع هذا الحضور الكردي الكثيف الذي سدّ عليه منافذ الهواء وجعل تغزّله بحزب الله غير ذي قيمة.
تسلق المنبر بعد ذلك أحد المسؤولين الحكوميين، فأشاد على مضض بالأخوّة العربية الكردية وباللحمة الوطنية التي تربط جميع مكونات سوريا العربية، ذاكراً نضالات حزب البعث في طلب الوحدة العربية، ثم ختم بأن رمى بأقذع الصفات دعاة الشعوبية الذين يحاولون تمزيق الأمة الواحدة (يقصد الأمة العربية بالطبع)، فهزّ السيد المحاضر رأسه موافقاً (وقد فهم أنّ المتداخل يقصد الأمة السورية).
ولا أدري إن كان من اللائق هنا أن أعبّر عن ذهولي من أنّ العصر الحديث ما زال فيه مثل هذه الرؤوس المربعة التي لا تجد غضاضة في استخدام تعابير عنصرية مقيتة تعود إلى العصر العباسي مثل هذا التعبير القبيح (الشعوبية) ليصف بها أقرانه من دعاة القومية، والشعوبية لمن لا يعرفها صفة كان غلاة القوميين العرب حينها يطلقونها على كل من تسول له نفسه أن يدعو لقوميته من غير العرب.
ثم صعد المنبر مسؤول أدنى منصباً من سابقه، فأفادنا من فائض علمه بالوجود الآشوري في سوريا، ولكنه بين أن البعض يخطئ فيعتبر الآشوريين قومية. وبين لنا هذا المسؤول الصغير أن الآشوريين مجرد مرحلة تاريخية مرّت بها سوريا (كذا !!)، وأنا واثق لو أنّ هذا المسؤول الصغير كان يعيش في الإمبراطورية الآشورية أيام عزّها لما كان رأيه في العرب ليكون سوى أنهم بعض الحفاة العراة العصاة الهائمين على الحدود والذين يجب إبادتهم عن بكرة أبيهم.
وصعد آخر وكان كردياً فعدّ على أصابعه يديه وقدميه، وبنبرة استرحامية استجدائية مخزية، عشرات القادة والأبطال الكرد الذين ضحوا من أجل سوريا قديماً وحديثاً، وأخذ على السلطة السورية نزعها الجنسية عن مئات آلاف الكرد بدون وجه حق في ستينيات القرن الماضي، فأيّده المحاضر فيما قال لأنه جاء متسقاً مع بعض المعلومات التي كانت “منفذية الحسكة” قد لقنته إياها على ما يبدو. وتلاه آخر فآخر فآخر وبدا أن المحاضرة (سيرة وانفتحت) ولا أحد يريد تفويت الفرصة في عرض عضلاته أو مآسيه أو ولائه، خاصةً وأن الحزب السوري القومي هو الآخر معدود في الأقليات في خارطة الأحزاب السورية بسبب قاعدته الجماهيرية المحدودة جداً. ولكن ما أثلج الصدر في كل ذلك بالفعل هو التنوع والتعدّد إذ أن كلّ متداخل كان له رأيه الخاص والمختلف إلى درجة التناقض مع رأي من سبقه.
وإذا استثنينا النبرة العدائية لدى بعض المتداخلين المعبّئين أيديولوجياً من العرب والكرد الذين شهدوا المحاضرة بناء على إغواء عنوانها (الأقليات)، لا ليتحاوروا ولكن فقط ليطرحوا أفكارهم المسبقة وحقائقهم اللاهوتية، فإنّ الجوّ العام كان جواً ودياً توافقياً وتوفيقياً. ومرّت المحاضرة بسلام واقتصرت على استخدام الأصغرين، ولكن للأسف دون أن يتم الاتفاق في النهاية على موقع الكرد وغيرهم من القوميات غير العربية في خارطة الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولا حتى الاجتماع على وضع تعريف نهائي للسوري، هل السوريون أمة أم شعب؟ وهل السورية انتماء قومي أم وطني؟ وهكذا ذهبت كل مجهودات سعادة أدراج الرياح في الحسكة …
لم تلبث المحاضرة أن انتهت واشتغل تبويس الشوارب ودعوات العشاء بين الرفاق، في حين لملم أبناء الأقليات أسماءهم وكلماتهم التي ذهبت أدراج الرياح وغادروا القاعة مغادرة المتهم الذي تأجلت قضيته.

رغم كل شيء، كان المشهد ديمقراطياً ويبشر بالخير خاصةً في ظل الأوضاع القلقة التي يمر بها الوطن العربي وسوريا الطبيعية والكيان السوري معاً، ولعلنا نأمل بالفعل أن يكون أول الغيث قطرة وأن تعود أيام المناقشات والمجادلات والمناظرات المنفتحة على الملأ، وأن تغدو الحرية عرفاً، ويغدو الحوار قانوناً بين أبناء الأقليات وأبناء الأكثريات وأبناء المراحل التاريخية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ليس هناك عقدة كردية… بل هناك أكراد معقدين… كاتب المقال مثال حي… مقالة سطحية محشوة بالدس الرخيص

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى