الحلقة الرابعة لرواية “كما ينبغي لنهر”
منهل السراج
يومان قضتهما ترص الحواجز الترابية التي شكلتها حول الأحواض، تسقي ورق الليمون وورق قلب عبد الوهاب، الختمية والعراتلية المتعربشة. ترقب الجرذ وتستقبل أقاربها بكؤوس شراب التوت المثلجة، ناسية أومتناسية نتيجة التحليل:
“علام أستعجل معرفتها؟”.
تنادي لميس، تقرآن معاً ديوان شعر منسياً في مكتبة البيت الكبير، تقرآن سورة مريم بلا تجويد. تودع الصبية حتى الباب مرددة مليون وصية، تستمر في متابعتها خارجاً نصفها من الباب الكبير، حتى تغيب عن عينها، تناديها:
ـ عودي بعد انتهاء حصة الدرس.
بانتظار عودة لميس شاغلت نفسها بالبيت.
كانت حاملة باقة أزهارها المريضة في يد، وفي اليد الأخرى كيساً مملوءاً بثمار حديقتها العجيبة، كريفون وليمون ونارنج وعنب والتي تحمل طعماً متشابهاً حامضاً ممزوجاً بمرارة خاصة، عندما قرع الباب بيد صاخبة ومرحة، توقعت:
“عمي عبد الحكيم وعمي جميل”.
فتحت الباب بيدين مشغولتين.
ـ معروفة، فطمة تحوش الحديقة، صاح عبد الحكيم.
دخل جميل متأملاً النوافذ، الدرج، سور بيت الجيران:
ـ بعمري لا أنسى العيشة في هذا البيت.
رجعت لميس، تتفقد خالتها في طريق عودتها من مركز الخلية الذكية:
ـ خالتي أنا أحب هذا المركز لِمَ تمقتينه؟ تشير بنظرها إلى الضفة الأخرى إلى ما بعد الجسر، تسترسل: هناك أرى العالم، ألتقي أصدقاء من جنسيات مختلفة عبر الانترنيت، الهندي، الصيني، الياباني، السويسري، الفرنسي، أحب وجوههم الملونة: سمر وبيض وسود وشقر، أحس وأنا معهم أنهم يحبونني وأحبهم.
تجيب فطمة بصوت منخفض:
ـ أبوشامة هدم بيوت الضفة الأخرى وعمّر هذا المركز و..
ـ خالتي أبو شامة لا يعنيني، أقصد أني أريد أن أعرف كل شيء، هذا المركز وسيلتي، كي أطلع على اللغات والأديان والمدارس والبيوت والبلاد، أحب الاكتشاف.
ـ تحبين السفر إليهم؟.
ـ أحب السفر كي أتعلم، هم أراهم عبر الشاشة.
ـ هل هذا يكفي؟.
ـ طبعاً يكفي، تهمني عقولهم، ثقافتهم، فلسفتهم.
ـ ألا تقلقين عليهم من حدوث مكروه؟.
ـ لا أفكر هكذا، لِمَ لا تأتين معي مرة وتزورين المركز، أطلعك على صورهم؟.
قال عبد الحكيم:
ـ هل يمكنك أن تلتقطي معلومات عن الطيور؟.
ـ طبعاً هناك موسوعة ” CD ” وصلت السوق حديثاً، يمكنني أن أحضرها لك وأحصل على أية معلومة تريدها عن الحمام والطيور.
ـ أريد أن أعرف معلومات عن الهزاز والمنقط و..
رشق حبة فستق في فمه. رفعت لميس كتفيها محتارة. جاء دور جميل الذي قال بهمس متوقعاً هجوم عبد الحكيم عليه:
ـ يوجد نسوان في المركز؟.
ـ لدي عبر الشاشة صديقات من جنسيات مختلفة عندي صور لهن سوف أريك إياها.
ـ أريد نسوان بلحم وشحم، تقول صور!!..
قال عبد الحكيم وهو يشرب من كأس التوت:
ـ والله يا فطمة عينك تشوف جميل كيف يبيع النسوان القماش، كل “ما عم يكبر عم يقل عقله أكثر”. يقوم من مكانه كي يقلّده: “شوفي ها القماشة المسيها، بالله عليك مو مثل خد البنت؟” لا يكتفي باستعراض المساطر*، بل إنه مستعد أن يفرد كل البضاعة من أجل أن تمكث الزبونة دقيقتين زيادة فيما “يدبّل” لها بعينيه.
انتبهت فطمة وهي تضحك مع عميها وابنة أختها أن لميا واقفة عند الباب الكبير الموارب تستجمع بصاقاً كثيفاً في فمها كعادتها، ناوية قذفه في جهة ما:
ـ لميا ادخلي، خذي هذا العصير للقطة.
تناولته لميا مهرولة إلى الخروج.
قال عبد الحكيم ساخراً:
ـ كلنا يعرف أنها من سيشرب هذا العصير وليست القطة.
ـ ترى أين أرادت أن تبصق؟.
ـ هوووو، “بلشنا”، السلام عليكم.
بعد أن غادر العمّان البيت الكبير اقتربت لميس من خالتها، مسحت شعرها:
ـ متى تقصين علي قصة لميا؟.
ـ لميا متدلية من سور الجسر، عمر يجر ذيل الورق الذي ركّبه الأولاد له ويركض: لن تبعث يا حاج عمر، الأطفال يلحقون به مصفقين.
أيقظوها من نومها كي تلد، كبر بطنها كثيراً، وحين ولدت كان طفلاً أصفر صغيراً. استيقظت بصعوبة قاتلة، كي تلد كما أرادوا، وظلت طوال ساعة الولادة تصرخ، ليس من الألم، بل بطلب الرجعة إلى النوم. قالت ابنة خالتها وهي تنظر في وجه الطفل:
ـ إنه يحتاج إلى تغيير دم.
لكن الحماة نظرت شزراً قائلة:
ـ ولد مثل الفلة، لايحتاج شيئاً.
لم يعش الطفل “مثل الفلة” طويلاً، ولو عاش لكان مختلاً، بكت فطمة على كتف ليلى:
ـ هذا ما كنت قادرة على إنجابه؟ قطعة لحم، شقفة لحم.
دفع أخو زوجها باب البيت داخلاً عليهم، حاملاً كيساً أسود، تكومت في أسفله قطعة قماش خضراء صغيرة.
سألته حماتها ببساطة:
ـ أحضرت الكفن؟.
كانت رائحة الصابون التي تنبعث من قطعة اللحم، قبل دفنها، تلطم مركز التنفس في دماغ فطمة، راح الزوج يبكي نادماً:
ـ فطمة سنبدأ من جديد.
لكنها أجابت متأكدة:
ـ فات الأوان.
ثم شردت:
“أخذ الموت رفيق الدرج، وأول طفل، وأرجو أن يأخذني أيضاً”.
فجر يوم نتيجة تحليل الغدة، توضأت قلقة وصلّت ساهية. رددت الأدعية المعتادة لحماية أولاد أخوتها وأحفادهم، الغائبين والحاضرين. طوت ثياب الصلاة، وهّمت بالقيام عن السجادة، فدارت الدنيا. ارتمت على الأرض بقسوة.
لم تصح من إغمائها إلا على صوت الجرس الخارجي، أحست بقادم من عالم بعيد. قامت مسرعة كي لا تتأخر عن الطارق المنتظر، كان مراقب عداد الكهرباء.
ناولته الكرسي وهي تترنح، طلبه كي يصعده ويسجل آخر قراءة للعداد. وقفت تنتظر:
“نتيجة التحليل لا تنتظر”.
أغلقت الباب وراءها. واتجهت ببطء إلى مخبر التشريح المرضي.
تمهّل سائق باص النقل الداخلي، منتظراً كي تصعد من جهته. أخذ الأجرة منها، ليرتان. جلست وراءه مباشرة بقدها النحيف. تابع مسيره، الطرقات فارغة في ساعات الضحى، شردت:
“على أية حال لن تزدحم كثيراً في الأوقات الأخرى”.
كان السائق في ملكوته المرح يرقص فوق مقعده مع اهتزاز الباص الفارغ إلا من بضعة ركاب، محيطاً نفسه بزينة كثيفة من البلاستيكيات الرخيصة، عصافير ملونة ملصق عليها ريش عصافير، عناقيد عنب مختلفة الأشكال والألوان، ذكّرتها بعنب حديقتها الذي يمتصه العصفور قبل أن ينضج، مفاتيح، عيون زجاجية زرقاء تحمل عبارات ضد الحسد. أمامه صورة تحجب عنه بعض الرؤية. في الأعلى تحذير، “ممنوع التدخين تحت طائلة الغرامة”، إلى الأسفل توجد حكمة السائق الخاصة، “حاقد على النساء”، مخططة بأحرف ملونة. على المسند الذي يقابلها كتبت ذكريات بحبر كثيف، أحرف أولى من أسماء شلة مدرسة صعدوا الباص في مناسبة أو بلا مناسبة فأمعنوا في حفر الذكرى مستخدمين السكين في تسطيرها. فوجئت بأن السائق قد خلع خفه البلاستيكي ودعس دواسة البنزين بأصابع عارية، أطالت مراقبتها له مثلما يحدث حين يشدها تفصيل ما. انتبه السائق، المتابع لمحيطه عبر مراياه، إلى دهشة فطمة، فابتسم بمودة وعدم تكلّف. فكرت:
“زادت مودتهم بعد هجوم أبو شامة، متفاهمون رغم صمتهم”.
دفعت باب المخبر ذا الأبواب الأربعة، الذي ابتدعه الأوربيون ثم استغنوا عنه و”بطلت موضته”.
عندما رأتها الممرضة رحبت بها بعطف شديد متجنبة النظر في عينيها. توجهت مسرعة إلى غرفة الطبيبة التي كانت ترص حجابها بحرص، سألتها عن النتيجة، فأجابتها مشيحة بوجهها أنها أرسلتها إلى الطبيب. لم تلح، قطعت شارعين بدقيقة واحدة متجاهلة شتيمة أحد السائقين النزقين، كانت تلهث، تستعجل المشي على زفت الشوارع. لم تقرأ اللافتات المعلقة كعادتها، ولم تنتبه للسماء أوللشمس أولمواقف الباص ولم تراقب انتظار الناس، لم تداعب طفلاً يلعب ولم ترم السلام على البائعين، لم تتأمل أبجورات النوافذ المخلوعة ولم تشتم البلدية التي تخرب الطرقات وتقطع الأشجار. لم تفطن لكل عاداتها.
رأت الطبيب يشرب قهوته متأملاً صورة شعاعية تحت ضوء النيون محيطاً نفسه بطقس من الهدوء والنظافة والموسيقا، فكرت:
“يعيش كما يحلو له.. من حقه”.
تعثرت بارتفاع عن البلاط عند عتبة العيادة، فتمتمت بكلمات اعتذار جعلته ينهض مسرعاً كي يساعدها، فتأكد الهاجس لديها:
“وراء هذا التعاطف، خبر سيء”.
قال بشفقة مزعجة:
ـ لماذا تأتين بمفردك دائماً؟.
سألته حاسمة حديثاً جانبياً:
ـ هل الورم خبيث؟.
بعد صمت قصير، أجاب بصوت ضعيف:
ـ أملنا بالله دائماً.
أرخت جفنيها، نظر إليها. كان استحضارها للصبر يبدو من أصابع كفيها التي تفرك أطراف أكمام معطفها، من حركة رموشها السريعة، من حرصها على أن تخفي ضعفها، من رغبتها أن يحملها بساط سحري، ويرميها في قبو قبوها عند ضفة النهر. تريد أن تفكر بغدها، غد الأشجار والبيت الكبير، مصير الناس، لميا والحاج عمر والأستاذ عاصم ولميس وفارس، انصرفت تماماً عن محيطها.
ليلة موت الطفل شربت علبة حبوب كاملة ونامت. حملوها إلى المشفى، ثم أعادوها في اليوم نفسه، وضعوها في سريرها وغادروها صامتين.لم تحاول الانتحار مرة ثانية، لكنها أفهمتهم جميعاً أنها تريد الصمت، التزموا الصمت كما أرادت فيما راحت في عزلتها تنهي كل أسبوع علبة مهدئات.
“انصرف أهلي لأشغالهم حاملين شعوراً بالتعاطف، ما معنى أن أنجب طفلاً ميتاً؟”.
أرسل الزوج وأهله لها ورقة الطلاق مبللة بدموعهم جميعاً، الأب، الأم، الأختان العانسان.
بعد بضعة أسابيع بدأت تتعافى وتنسى موت الطفل والطلاق.. ثم شيئاً فشيئاً انشغلت مع أهل البيت بالصراع الذي مازال دائراً بين نذير وجماعته وبين أبو شامة.
أدارت المفتاح دافعة الباب، كان الدلوان اللذان سقت بهما تربة أبيها يستندان على حافة البحرة، ينبئان أن استخدامهما مازال وارداً. لم تدر أنها جلست بجانبهما بقية النهار، حقيبتها على ركبتها، وأوراق التحليل مطوية في يدها، فكرت:
“دوامة السرطان.. كيف سأتدبر أمري؟ من يمكنه من أخوتي أوأولادهم مساعدتي؟ كم سأعيش؟. خافت من الكلمة، يبدو أن الورم في أواخره. ربما حمّام ساخن يوقظني، علّ ما قاله الطبيب كان كابوساً”.
جلست القرفصاء مقابل بيت نار الحمام. وضعت عود ثقاب في بابه بعد أن أرخت خيطاً من المازوت، منتظرة اشتعال النار. جلوس صبور، انتظار مخلص لعود الثقاب الضعيف كي يلتقط المازوت أويلتقطه. وكالعادة التقط الرأس الذكرى.. الأب أو الطفل أو رفيق الدرج.
استجابت النار وارتفعت، فاتجهت إلى خزانتها المفعمة بروائح العمر، أخرجت منشفة للرأس و”برنساً” سميكاً يحتويها مرتين أوأكثر، وخفاً من قماش. وضعت كل ما تحتاجه على كرسي واطئ بجانب حمّامها، مطمئنة إلى وجود الصابون والمشط.
فكرت فيما تفعله ريثما يتوهج جو الحمام. غسلت ركوتها وفنجانها، واضعة الملاعق الصغيرة في ركنها الخاص، معجون الجلي والاسفنجة في الطرف اليميني على بعد تحاول أن يبقى ثابتاً. أغلقت الصنبور جيداً وربتت بكفها رخام المجلى بحركة لا هدف منها. سحبت كرسياً وجلست أمام الغسالة، ترقب ثوبها ومنشفتها يتصارعان بمفردهما في الحوض الكبير، الذي يتسع لأكثر من هذا بكثير. قضت زمناً طويلاً تتأمل، من خلال الطاقة الشفافة للغسالة، دوران الغسيل الأبيض مع الرغوة الكثيفة.
علقت ثوبها ومنشفتها على حبال الغسيل الكثيرة المنتشرة جيئة وذهاباً في دروب بعدد دروب بلاط أرض الدار، تمددا في مجرى الهواء وحدهما.
عشرون بنطالاً للشباب وعشرة للرجال، ثلاثون قميصاً متفاوتة الألوان والأشكال، ثياب داخلية رجالية بيضاء، حبلان طويلان لحفاضات الأطفال المثلثة والمربعة. كانت فطمة تنشر الغسيل بتأن كما تفضّل أمها، فتسوي ملاءات الأسرّة جيداً على الحبال وتعلق قمصان الشباب من الكتفين مثبتة سراويلهم الداخلية كما تلبس، أما سراويل الفتيات الداخلية فتضعها متلاصقة مموهة، لا كما تلبس، كي لا تحرّض المارّين على التخيل.
كانت أم الحب توقظ الفتيات باكرأ جداً في الصيف، كي ينجزن الغسيل وينشرنه قبل أن ترتفع شمس الضحى المحرقة، وعندما توقظهن، تكون قد أنجزت معظم الأعمال فلم يتبق إلا مهمات الصبايا التي لا بد أن يشاركن بها، من أجل بيتهن المستقبلي، بمباركة صامتة من الجدة.
أم الحب هذه التي لا ولد لها ولم تتزوج،كانت أماً للصغار والكبار في الحارة، أحضرها الجد من إحدى سفراته وهي لم تتجاوز السابعة. رغم أنها قليلاً ما تقبل الحديث عن أصلها، تقول إن أهلها كانوا يصلّبون على كل شيء قبل أن يُحرقوا، وأن من انتشلها ورباها كان يضع فخارة أمامه أثناء الصلاة. كانوا يحبونها، من دون أن يجهدوا في معرفة جنسيتها، أو لغتها، أو دينها. حبست نفسها عامين كاملين في البيت حين غاب الشباب والرجال ولم تخرجها إلا جارتهم، عندما استنجدت بها كي تساعدها في سحب أصابع ابنتها من مكنة الكبة. يومها أمسكت أمها الأصابع المقطوعة، وضعتها في منديل، ودارت عليهم جميعاً كي يروها، لكن البنت لم تبلغ التاسعة عشرة إلا وكانت أم الحب قد وجدت عريساً لها قائلة لأم العريس هذه الفتاة تربيتي، ماسكة بيد الصبية ذات الأصابع المقطوعة، زغردت أم العريس وقبّلت كنتها الجديدة لمباركة أم الحب هذا الزواج.
رغم أن أم الحب وأم الصافي، زوجة محمود العاجز، هما الغريبتان عن الحارة، ومن المتوقع أن تجمعهما غربتهما، إلا أن كثيراً ما كانت أم الصافي تكيد لها، بسبب تقدير الجميع ومحبتهم، معيّرة إياها بالمثل القائل: “أولاد مالك وخرى بأذيالك”، ثم تتسلى بأكل وريقات الخس، فتبدأ بالوريقات الخارجية إلى أن تصل إلى الوريقات الداخلية، فتتأنى في تناولها، ثم تأكل “القرمة” من الأسفل إلى الأعلى، حيث اللقيمات تزداد طراوة، متابعة تلقين أوامرها لمن حولها، كما كان يفعل زوجها، سيدها، بها عندما كانت “الخادمة البهيمة” عند الجميع.
ظلّت أم الحب ترعى أبناء أحد أعمام فطمة، طوال العمر، متحملة لؤم أم الصافي. حمل العم ابنه يوم توفيت زوجته قائلاً:
ـ هذا ابنك يا أم الحب.
ثم توفي تاركاً الحمل كله على ظهرها.
كان لحضور أم الحب ،رغم ضآلة جسدها، هيبة تحسدها الأمهات عليها.
في الفجر البارد الذي خرج فيه الصبيان لمواجهة أبو شامة، كانت أم الحب تركض من زاوية إلى زاوية في البيت، تجرّ الأطفال صارخة بالفتيات كي يختبئن، تنهر الصبيان، تأمرهم أن يرتدوا الفروات وتنهاهم عما هم قادمون عليه:
ـ أنتم لستم قدّ أبو شامة، عودوا، سوف يذبحكم ويقبركم.
كل عصر أوعصرين تنزل فطمة القبو الأول.
دفعت باب الغرفة الواقعة على اليمين، بأصابع حذرة بسبب الغبار وشبكة العنكبوت. غنى الحاج عمر جارها “يا حنينة”. فكرت:
“لا بد أنه نسي وسواس البعث لبعض الوقت”.
تطلعت إلى أشياء الغائبين، متشوقة. لم يؤلمها الانتظار، أحست أنها المنتظرة، ستذهب إليهم، ارتعشت، ماتوا إذن، لوّحت بكفها في الهواء، لن تصدق. سمعت أنفاس لميا تتسرب من نافذة القبو العلوية المغلقة بإحكام، والتي تشرف على الحارة بجانب المصطبة التي تنام عليها. غبار كثيف ثقيل.
تمنت أن لا يكون الجرذ قد وصل إلى هذه الغرفة المليئة بأشياء، لم تعد تلزم أحداً، إلاها، تحتاجها بشدة، تحتاج هذه الكراسي، الصالحة منها وغير الصالحة:
“جلسوا عليها، وضعوا عليها بنطالاً مكوياً ومنشفة على عجل، أوحذاء ملمعاً تحتها. ثقوب المقاعد من القش الذي أصابه “التخيخ” ، وضع بعض هذه الكراسي فوق السمندرة ، مقابل النافذة، بالقرب من السقف. تكاد السمندرة تتفتق بالفرش واللحف والوسائد المغطاة بقماش من الخام الأبيض، تنبعث منها رائحة النفتلين. أبعدت ستارة السمندرة فرأت وسائدهم المطبقة منزاحة عن موضعها الأصلي، فكرت:
“ربما مثل جماجمهم الآن”.
لوحت بكفها في الهواء مرة أخرى غير مصدقة. تطل وسادة أخيها أحمد المزهرة بلون السماء والياسمين، مثل وجهه:
“كم كان صغيراً”.
رفض النوم، ليلة الهجوم، وظل ساهراً حتى ساعة متأخرة منتظراً أن يجف غطاء مخدته. أخضعهم لإرادته، فألبسوا مخدته الخاصة غطاءها الأزرق المزهر بالياسمين، رغم أن الغسيل لم يكن قد جف بعد.
أغطية صيفية كثيرة قطنية متشابهة، وأغطية شتوية بألوان الرمادي والبني والزيتي، تمتمت:
“يا سماء كانوا ملتفين بها عندما رموها عنهم، أخذوهم بالبيجامات، هل يمكن أن يصل الجرذ إليها؟”.
لوحت بكفها تريد أن تخرس صوتها الداخلي. في الزاوية ارتكزت لفافات السجاد والبسط الملفوفة بأكياس بلون الطحين، يصل بعضها إلى السقف، حيث نصب العنكبوت شبكة مطمئنة. فكرت:
“ذلك البساط المتقدم، من الواضح أنه وضع كآخر قطعة من حزمة السجاد تلك، لم يحز على غطاء متين مثل بقية القطع، وضع كملحق، لعبوا عليه “عدّى برخش” . تذكرت صعود أصابعهم الكثيرة في الهواء وهبوطها مرة واحدة وسط صخبهم المرح: “إيد مين فوق؟” تهوي أكفهم على البساط فوق بعضها، ثم يصرخون بالكف الكسولة التي لم يبق لها إلا سطح الأيدي المتكدسة، يبعدون صاحبها عن مساحة البساط، فينقص العدد واحداً. تتذكر كيف قطعوا لعبهم ليلتها وتربعوا مستمعين بخشوع لحكاية الجدة.
خزائن جدارية طويلة رفيعة وعميقة. تخشى النظر إليها، بعضها مغلق بالمفتاح، وبعضها الآخر نصف مفتوح. في داخلها كتب مدرسية لكل أفراد العائلة، عدة نسخ من كتب الصف السابع، مثلها للصفوف الأخرى، نسخ من كتب الثانوية، علمي، أدبي، فنون، تجارة وصناعة، شردت:
“يقبرون قلبي، كتبهم تشبههم”.
التمعت عيناها،كان بعضهم يحرص على تجليد كتبه المدرسية، والحفاظ عليها جديدة من دون اهتمام بمعرفة ما بداخلها، منهم من كان معتدلاً في حرصه على شكل كتابه، وعلى تحصيل التفوق في النهاية، ومنهم من أتلف كل شيء، كتابه ونتائجه. اكتشفت لأول مرة دفاترهم، محشورة بين الكتب، فتحت عدداً منها، قرأت ما كتب بخط أيديهم، مسائل حساب ورسوم هندسية، نصوص شعرية ونثرية مشكّلة بعلامات ملونة. في أسفل الصفحات أجوبتهم الخاصة عن أسئلة الدرس، كانت معظم الكتب للمرحلة الثانوية.
” كانوا فتياناً”.
كتب دُرس نصفها، والنصف الثاني لم يلمس. كانوا يستعدون للفصل الدراسي الثاني راضين، أوغير راضين عن الفصل الأول، كانت الأحداث هي الفيصل بين الفصلين. في الرف العلوي من الخزانة ما قبل الأخيرة، كتب ابن مطيعة للسنة السادسة طب، مازالت “مجعلكة” على هواه، رغم الغبار والزمن الطويل، غاب مع من غابوا، قبل أن ينهي العام، لكن أمه مطيعة أعدت قبراً تزوره كل خميس، وترسم مستقبله المبتور مبكراً، جاء من جامعته ليلة واحدة، كي تغسل أمه ثيابه وجواربه وتطعمه غذاء دسماً.
“كان مشتهياً الباطرش المتبل، يقبر أمه، ليعود بعد ذلك ويكمل امتحانه، باقي مادتان”.
“هل من معجزة تعيدهم؟.
هناك تحت المكتبة الحديدية الموضوعة في صدر المكان والتي غطى الصدأ معظمها، علبة كرتونية محشوة بدفاتر حسابات أعمامها، دفاتر بأوراق سميكة مخططة طولانياً بخطوط رمادية، وعرضانياً بخطوط حمراء فاتحة، مكتوب فيها بأقلامهم القديمة، الصادرات والواردات والملاحظات. حسابات صغيرة وكبيرة، كلٌّ حسب عمله أوحرفته، تجارة الأقمشة، تجارة الغنم ومنتجاتها، تجارة الحبوب، صناعة الأقمشة، حرف الخياطة والتخريج.
هنا في هذا الدفتر سجل ثمن بطانة جلابية أو”مزوية”، عباءة أوبند التخريج. بعضها صفحاتها فارغة، لكنها مرقمة حتى تاريخ متقدم عن تاريخ فقدانهم.
“لم يحسبوا حساباً لغيابهم”.
رُقمت رؤوس الصفحات، وتُركت المساحة بيضاء.كل هذه الدفاتر مغلفة بجلد سميك متين. رُصّت أطرافها بأطر معدنية تحميها مئة عام.
ربما كان أبو فطمة محقاً في قلقه واضطرابه، فالجميع كان مرتبكاً بعد هجوم أبو شامة على الحارة.
لا أحد يعرف لماذا أحرقت الفتيات علم بلادهن، أنزلنه من عليائه، بجنون، بعصبية، بوجه محتقن فسقط فوق الماء الموحل الدائم التجمع أسفل درجات المنصة التي يحيّين العلم منها ويرددن النشيد الوطني. أخذن يدسنه من جميع الجهات حتى تلوّث بكامله، ثم هرعن إلى غرفة الصف نزعن وعاء المازوت عن المدفأة، رجعن وسكبن المازوت فوق العلم الموحل وأشعلنه. رحن يرددن، بحناجر زرق، بوجوه محتقنة وقبضات غاضبة “يلّا برّة أبو شامة”.
في تلك الليلة الباردة جداً، تحدثت الجدة عن قصة آل المايل قائلة:
قبل ثلاثمئة عام وعند الفجر، انتشرت أصوات المؤذنين في وقت واحد، تعلن أن شاباً من عائلة المايل اغتصب أجمل فتيات الحارة. كانت تشد غطاء رأسها ناظرة إلى الأعمام، ثم تستأنف بسخرية: المؤذنون وأهل الحارة كانوا رجالاً بينما، حصنتكم بالله،.. يعني إذا كان نهركم كافراً، فماذا ننتظر منكم؟ أكملت حكايتها متمهلة عند بداية الكلمات:
ـ تجمعوا عند مدخل حارة آل المايل، حاملين هراواتهم وخناجرهم، بينما أصواتهم تهدر، مثل ماء النهر. لم ينج من عائلة المايل إلا ست أمينة التي كانت متزوجة من رجل غريب عن بيت المايل، ما زالت حارة زوجها تسمى “زقاق ست أمينة”.
ناموا جميعاً على حكاية تدور في أحلامهم، كانوا خائفين متوجسين، لم تكن الجدة تقص حكاية إلا ووقع حدث خطير في الأيام التالية، خصوصاً وأن أبو شامة، بعد أن كان رجاله يملؤون حارات المدينة، سحبهم بحركة غامضة ومفاجئة. كان انتشارهم في الحارة حتمياً معتاداً، وإن تسبب لأعمام فطمة بالركض عند سماع إطلاق الرصاص، حيث لم ينج من الركض لا الصغير ولا الكبير ولا الشيخ.
كانت فطمة نائمة بين الفرش المتلاصقة، عندما سمعت في الثالثة ليلاً صوت العم نذير يهمس للأخ الكبير بأن الأسلحة مطمورة تحت شجرة النخيل في حديقة قبو القبو.
بعد ساعة واحدة أخذ العم نذير ما خفّ حمله وغلا ثمنه، وضع على كتفي ابنه شالاً صوفياً وسحب زوجته مغادراً بهدوء.
وانفجرت الحرب.
كانت المآذن زرقاء من شدة البرد، أصوات الداعين للجهاد من أجل القضاء على أبو شامة ورجاله، تنفيذاً لوصية نذير الهارب، كانت أصواتاً حارّة، أصوات أطفال رقيقة ضعيفة، تناثرت في كل البيوت، أيقظت النائمين المتآلفين مع صوت أبو رحمون، وأخذتهم.
خلال وقت قصير عاد أبو شامة، واقتحم رجاله المدينة. تدافعت فطمة مع النساء إلى النوافذ، لمراقبة خروج الصبيان من بيوتهم صافقين الأبواب الحديدية، مندفعين بثياب النوم الخفيفة، وبالأخفاف المنزلية ملبين النداء، يحكّون أصابع أقدامهم ببعضها بتأثير “الشمطلص” والقشب اللعين. تسيل أنوفهم الحمراء، فيختلط مخاطهم وعرقهم بقطرات المطر الخفيفة. كانوا يبغون الوسيلة، وسيلة العم نذير، إلى نيل الجزاء المرتجى، “فالمبطون والمطعون وصاحب الهرم والشهيد في الجنة”، في الجنة حيث الأسرّة المتقابلة وصحاف الفضة والذهب ولباس السندس، الوجوه نضرة والفضلات تخرج من الأبدان بالتجشؤ كرشح المسك.
كانت أوجه النساء المحاطة بالأغطية البيضاء تبدو وهي ترمق الأبناء والأخوة من النوافذ، مثلثات متشابهة، وضعن أطراف الأغطية على أفواههن خوفاً من هروب شهقة أوصرخة، كن مستلبات لقدر مجهول، مستسلمات لمصير سوف يساهم فيه أولاد أكبرهم لم يتجاوز العشرين.
حملت كل منهن، بمن فيهن فطمة، هويات الشباب بصور وجوههم الفتية وأعمارهم القصيرة حيث تنبهَ الخارجون إلى ضرورة ترك هوياتهم في أيدي أمهاتهم، كيلا يورطوا غيرهم فيما أقدموا عليه، حيطة من قتل محتمل أو سجن أوخطف أو..
هجم أبوشامة برجاله وأسلحته الحديثة، لاحقوهم وهم يتراكضون من حارة إلى أخرى، حارة القصب، حارة الحور وحارة الصفصاف، كانوا يحاولون الاحتماء بجدرانها الضيقة التي تعينهم على الهروب والاختباء.
كانت الأماكن غامضة ومخيفة لرجال أبو شامة. فحين قطعوا الجسر ودخلوا حارة الضفة الثانية، غابوا في متاهاتها، نوافذها وأسطحتها، شرفاتها المتداخلة واسطبلاتها التي تصل مياه النهر إلى حوافها، انحناءاتها وأسرارها العتيقة، كل هذا أغضب أبو شامة غضباً شديداً فأمر بتدميرها من الأرض ومن الجو.
أما حارة فطمة، الضفة الأولى والجسر الصغير بينهما، بما فيه الطاحونة وحارسها وحارة اللاجئين، حارة القلعة، وحاملي سلاح نذير ببيجاماتهم الرقيقة، فقد اكتفى بقتل معظم رجالها وهدم واجهات بيوتها ومآذن جوامعها، وقبب كنائسها، ومتحفها الوحيد.
من لم ينل من الصبيان الذين خرجوا لقتال أبو شامة ورجاله، الجزاء المرتجى من الجهاد، عاد ناقماً هارباً خائفاً. كان الحلم هو الجنة أو النصر والسيادة بمسح أبو شامة وأهله من الحارة. رددت أم الحب جملة لم ينسوها:
ـ هل يمكن لبيجاماتكم الرقيقة مواجهة بدلاتهم الثقيلة، وعمكم نذير ترككم وغادر بعيداً؟.
صدقوها بعد أن حدث الذي حدث، لم يخرج كلُّ الصبيان، لكن من عاد منهم، عاد باكياً على فقدان أخيه أورفيقه، قتلاً أو خطفاً. لجؤوا إلى أحضان أمهاتهم قانطين من رحمة السماء التي أرسلت كل ما بوسعها من البرد كي يساهم مع الخوف في تيههم. قلق الصبيان لم يطل إذ سرعان ما جاء الملثم أبوالكوفية، الذي كان يرافق رجال أبو شامة، وأشار بإصبع حيادية باردة إلى وجوه من خرجوا، قبض أجره من رجال أبو شامة وولىّ هارباً من انتقام محتمل في يوم ما.
إشارات أصابع الملثمين هؤلاء، كانت سبباً لكوارث المدينة، عشرة آلاف؟ لا، بين العشرة آلاف ضحية والأربعين ألف ضحية، مجال كبير والله أعلم.
لم يعتمد رجال أبو شامة على أصابع الملثمين، بل تجاوزوها. غضب رجال أبو شامة شمل المدينة كلها، وجميع الشباب والرجال وبعض النساء والأطفال.
نجا ممن تعرفهم فطمة من حارتها وأهلها، العم جميل النسونجي، عبد الحكيم كشاش الحمام، العم أبوسليم الجربوع، المختار، وبضع أسماء قد تكمل عدد أصابع اليدين، منهم أبو فطمة، فارس النحات الذي ستقابله فطمة في هروبها وهي تغسل قدميها مرتجفة من الخوف: أهذا دمي أم دم أعمامي؟ كان يحمل لوحاته المطعونة بحرابهم ويبكي، فتؤنبه: لماذا تبكي اللوحات؟ إبك الأرواح. نجا مخلص، صاحب أهم مكتبة في الحارة: “شومكتبة المركز الثقافي؟”. الحاج عمر الذي سيبدأ كابوسه: لن تبعث يا حاج عمر. الأستاذ عاصم الذي نجا لأنه صادف يوم حصته في مدرسة المدينة القريبة.
صبراً، فلميا بعد ساعات ستصبح لميا المجنونة، تماماً عند الفجر.
باق في تنكة المازوت ليتر أو أقل، موضوعة خلف باب بيتها عند ركن الخطر مع منقل الفحم ووابور الكاز وكل ما تتوقع منه أن يؤذي طفلتها الشقية “سحورة”.
كانت لميا نائمة بعيون نصف مغلقة، ثديها مع طفلها، دفن زوجها رأسه وتنهيدته بين كتفيها خلف ظهرها. نامت طفلتها ابنة الثلاث سنوات نوماً عجيباً غريباً عند قدميها.
أغفت، من تعبها، لميا اليقظة دائماً، كذلك فعل زوجها المريض. لكن الطرق الشديد جعله يقفز من شدة الخوف، ليفتح الباب. ركلوا قامته النحيلة، داسوا أرض الدار الإسمنتية السوداء، خطوتان، وجدتهم بشعارهم المعروف”تالولة على صدر كل منهم”. سحبت ملاءتها وشدّتها عليها وعلى ابنها المتشبث بثديها. غضبت من الرضيع فرمته فوق ظهرها، لكنه ظل متشبثاً بكتفيها اللتين تحولتا إلى شرفة لمراقبة الغرباء. نخزوا بالحراب الثياب المعلقة، دفعوا بأحذيتهم القاسية خف الطفلة البلاستيكي الأحمر والمقصوصة مقدمته، رفعوا الوسادة التي تحمل رأس الطفلة وفتشوا تحتها،لم يجدوا شيئاً، تركوها، هوى رأس سحورة، لكنها لم تستيقظ. كانت عينا أنس ترقبان كل شيء من شرفته التي هي كتفي أمه المتنقلة، تصعد وتهبط وتلملم وتسوّي ما يخربه المقتحمون في بيتها الصغير. في غفلة منها، بسرعة كالحقد، أمسك أحدهم تنكة المازوت المتبقي من خلف باب بيتها وسكبها على كل شيء. أما لميا المأخوذة فقد سحبت وسادة زواجها، بدل سحورة التي لم تستيقظ، رغم كل الصخب، من غفوتها المطمئنة عند قدمي أمها، ولن تسمح لأي سبب بسحب السكينة منها.
لذلك تفحمت.
أما لميا التي فوجئت في ركضها بحملها الوسادة على صدرها بدل الطفلة. الطفل الصامت “أنس” في يد والوسادة في اليد الأخرى، فقد وقفت على الجسر، وقررت أن ترمي الوسادة التي خدعتها.
لكنها بدل أن تفعل ذلك، رمت الطفل في النهر تحت القناطر.
هكذا وجدت لميا نفسها بدون أعباء، بلا طفليها، بلا زوجها، ثم بلا عقل.
“لميا، يا لميا، أتذكرين زوجك الفقير حارس إصطبلات الخيول لأغنياء الضفة الثانية؟ حين كان يوجد خيول. أتذكرين طفليك، سحّورة بنت الثلاث سنوات وأنس ابن الثلاثة أشهر؟ أتذكرين أرض دارك الإسمنتية اللامعة المغسولة في عصرونية الصيف، وبرميل الغسيل الذي كنت تغلين فيه خرق طفلك؟”
لميا كانت كالنحلة، تقطع الجسر في اليوم الواحد عشرات المرات، تدفع أي باب بدون تكلّف، تضع خفها تحت أول شجرة، وملاءتها فوق أول غصن، تغسل يديها ووجهها ورقبتها، ترتب ما حولها وتلملم بيديها كل ما تجده في طريقها، تسقي الأحواض على عجل، تشوي الباذنجان، تقطف الملوخية، وتقلي البطاطا لعشاء الأطفال المدللين، تهرع إليها دجاجات البيت والأطفال، تسليهم، بيديها، بلسانها، بقدميها، يتشبثون بطرف ثوبها وهي تثرثر مع الجميع، ولا تكف، وإن لم تجد أحداً تثرثر معه، فسوف تغني. قد تجد أمامها صندوق فاكهة، تتناول واحدة تمسحها بثوبها، وتأكلها على تعبها مواصلة ثرثرتها، وعندما تصادف شيئاً مجهولاً، مسجلة حديثة أو آلة كهربائية فإنها تضحك ساخرة من جهلها معتذرة من كل من حولها. لا تسأل أحداً ماذا يحتاج، فهي تعرف ما يحتاجه الجميع، ولا أحد يعرف ما تحتاجه لميا، اللهم إلا حاجتها لتأمين حاجاتهم.
احترق بيتها، ثم انهار مع بيوت الضفة الثانية، وغاب زوجها مع من غابوا، ورمت الوسادة المتبقية في حضنها. رأت حارس الطاحونة يتحول إلى قط ليلي ورأت حارتها والضفة الثانية من المدينة كلها ركاماً.
دخلت الملجأ في الضفة الأولى بجانب باب النهر الكبير. كانت النساء مكومات قتلى والأطفال صرعى. رأت بطن أم العز المقتولة، يتحرك. كانت على وشك الولادة.
جلست على الأرض ملتصقة برحم المرأة حامل الطفل العنيد، وضعت خدها على البطن ثم أذنها وكفها، كانت حرارتها رغم البرد الشديد والموت تجعل كل شيء يغلي. غنت للبطن المتحرك، نامت دقائق ثم استيقظت، أخذت غطاء صوفياً عن أحد الموتى المكومين حولها، وغطت البطن المتحرك، لكن الحمى شديدة، لا بد أن الطفل قد اختنق في بيته: رحم أمه. ظلت تغطي البطن حين تحس بالبرد، وتكشفه حين تحس بالحر، ثلاثة أيام. كفّ البطن تماماً عن الحركة، وجنت لميا.
كان يا ما كان، كان هناك لميا عاقلة، وثلاثة أطفال، لا، طفلان وزوج. كان زوجها كالحمَل يرتدي بنطالاً رقيقاً وعريضاً ينظف البيوت، ويطعم الخيول المتبقية. أطعمت لميا من يديها كل البيوت، كوسا بالبندورة وعرايس زعتر ومغمومة. كانت تحوش الخبيزة بيديها، وتغطي الطفل النائم، تحقن بحقنة الماء الطفل الذي يعاني من الإمساك وتدهن بطنه بالزيت. إن صادفت في سعيها على الجسر الأطفال يسبحون، فسوف تتناولهم، تجفف وجوههم وأعناقهم الرقيقة بطرف ثوبها وتمص الماء من آذانهم، تسوي غرتهم ثم تضربهم على مؤخراتهم مداعبة: “عالبيت” رأساً.
لم تكن تنظر في كفها إن أعطوها مالاً، بل تكتفي بتمتمات خجولة، ولم تكن تطيل الجلوس في بيتها إلا للنوم أومداعبة الحمل، زوجها، طفلها.
لميا المجنونة مازالت تروح وتجيء على الجسر بين الضفتين حاملة صرة، الله وحده يعلم ما بداخلها، تقطع الجسر إلى الضفة التي كانت مملوءة بالبيوت، وأصبحت فارغة إلا من بناء الخلية الذكية، تبصق على لافتة الخلية الذكية وعلى النهر، ثم تعود إلى مصطبة فطمة كي تسترد أنفاسها، تأكل من طعام القطة الموضوع لها أصلاً.
تخيف بجنونها اليوم أبو سليم الجربوع صاحب جمعية الحمار، تخيف المختار وبعض الناس الذين تعرفهم بغريزتها، لا أحد غيرها يعرفهم، منهم أبوالكوفية الذي عاد من سفره بحماية رجال أبو شامة له. يرتعدون عندما يصادفونها، يغيرون طريقهم ظانين أنها سترميهم في النهر، يتمتمون:
ـ لكل مصيبة نهاية، ألن تحل عنا لميا الهبلة؟.
“من يعمل مع رجال أبو شامة صار يمشي مزهواً يا لميا. لم يبق مطرح لأبو الكوفية أوالملثم بينهم، صاروا يتباهون برؤوس عارية ووجوه صريحة”.
تنهدت فطمة.
تذكرت شباباً من البيت والحارات المجاورة، فقدوا بلمحة عين، منهم من لم يكمل شهادة الكفاءة، منهم من لم يكمل قصة بدأ في روايتها، منهم من وضع قماشة عند الخياط، ولم يستقر بعد على شكل جيوب البنطال، منهم من وعد أخاه الصغير بمرافقته إلى السينما، منهم من لم يبتلع لقمة كانت في فمه. رحلوا بلباسهم الذي لا يكاد يغطي أجسادهم، ظلت أشياؤهم في أماكنها، هوياتهم، حقائبهم بجانب الباب، خزانة الثياب الحديدية الثقيلة مقفلة، بينما المفتاح في درج الخزانة المجاورة مع سهم يشير إليه. في وسط الغرفة أثاث العريس الذي كان عرسه سيزغرد بعد ليلة الحكاية بخمسة عشرة يوماً، لكنه غاب مع من غابوا. طالب الطب، طالب الهندسة.. وغيرهم من الكبار والصغار.
وجدت فطمة نفسها تتجه إلى بيت المؤونة كي تتفقد قطرميزات المكدوس، وتطمئن أن الزيت مازال يغمر الباذنجان.
أعادت تثبيت القصبتين المتصالبتين على سطح المكدوس وزادت كمية الزيت. كشفت وعاء الزيتون، حركت بأصابعها قطعاً من الليمون والفليفلة وغمرتها بطبقة إضافية من زيت الزيتون، أما المربى فكانت رائحته تنطلق من غطاء الشاش الناصع البياض.
طال حصار رجال أبو شامة للمدينة. نفدت المؤونة على كثرتها من البيوت، قلّ الزيت بعد أن استخدم للإنارة، اشتدت معارك النساء حول قبضة من البرغل، حول سكين ضائعة أو غطاء صوفي لطفل مريض. كان شك الرجال، الذين تبقوا، ببعضهم على أشده، نسوا مبدأ أولاد العشرين والستين. مضوا يفتشون عن طريقة ينجون فيها من هذا الحصار. كان عزرائيل ينام في فراشهم، يخطف ملعقة الطعام منهم، ألفوا وجوده، باتوا يبحثون عن طريقة يدفنون فيها موتاهم من دون أن يبرحوا أماكنهم، حتى لا يصابوا برصاصة طائشة أو غير طائشة. غير أن أم راغب تململت من رائحة جثة ابنها ماسكة برأس ابنها المتبقي حياً في حضنها، فاتفقوا جميعاً على تحمل مسؤولية دفنه في حفرة على ضفة النهر.
كانت نخلة فطمة، رغم الصقيع، تنمو بعصبية واضحة طولاً وعرضاً، بأوراق متيبسة وخشنة.
كانوا يلتفون بالأغطية كي يمنعوا عنهم برد الأربعينية *، يصغون بانتباه إلى صوت عربة الخبز التي ترمي بالأرغفة على الأرض، يهبون من أماكنهم كي يختطفوا رغيفاً، يرسلون الصغار فيتشقلبون فوق بعضهم ويعودون باكين ممزقي الثياب يلتقطون أنفاسهم بصعوبة بالغة، عروقهم نافرة وشفاههم ترتجف من البرد والغضب مغبرة بالطحين وتراب الطريق، وهم يعلكون قطع الخبز التي استطاعوا أن يخطفوها.
شبّت خلافات استمرت أعواماً بين الناس بسبب قطعة من الخبز. لم يكن نصيب الواحد أكثر من لقيمات مغروزة بأظافر مدماة.
رغم الرعــب من الموت، أومن اغتصاب النساء، كانوا يخترعون النكات عن أبو شامة، ورجال أبو شامة، مؤخرة أخت أبو شامة. قد يدعم أحدهم معنوياتهم فيقول: يا جماعة، أبو شامة بالبراد.
حين صاح بهم رجال أبو شامة أن يخرجوا من الحارة جميعاً، حاملين رايات بيضاء، حار كثيرون في إيجاد رمز أبيض مقنع، فمنهم من خلع قميصه الداخلي ومنهم من سحب غطاء مخدته ومن حمل منشفته ومنديله. أما مطيعة فقد وزعت على من بقي من دون راية “حفاضات” ابنها، حملوها ولم يحتجّوا. تراكضوا يتخاطفون الرموز قبل القتل شاتمين مطيعة لأنها لم تخط “حفاضات” كافية لمثل هذه الأيام.
بكى أبو فطمة، حين شاهد رجال أبو شامة يملؤون غرف البيت الكبير، باحثين عن العم نذير أو أي دليل عنه.
كان الأعمام يهرولون إلى الخارج غير مصدقين ما يحدث. التفت الأب إلى الفتيات وقال بعصبية خافتة باكية:
ـ جميع الفتيات يجلسن في زاوية غرفة الجدة وليغطين أرجلهن بالأغطية.
صرخت فطمة:
ـ لا.. ليس إلى هذه الدرجة، لسنا كسيحات.
أجهش الأب بصمت:
ـ آخ.. آخ.
ردت أم الحب تنهر فطمة:
ـ بنات كسيحات، نعم، كي لا يتحرك شيطان هؤلاء، إصبع قدم أو إظفر سبابة أو خصلة شعر من رأسكن يمكن أن تحرك شياطينهم. قالت ذلك وبكت على بكاء أبو فطمة.
كان عم فطمة الكبير أول من أمسك به رجال أبو شامة، علّقوه إلى الدبابة. تحركت الدبابة وراحت تجرجر الرجل، ثم سحبوه وغاب عن العيون.
لم يكن الأب يستطيع الكذب، فعندما سأله أحد المقتحمين عن العم نذير، أجاب وهو يضع إبهامه وسبابته على ذقنه مع ابتسامة رعب على شفتين بيضاوين:
ـ وهل هذه الذقن الشايبة يمكن أن تكذب؟ ثم أمسكه وقبّله.
“لم ينتظر أبوشامة أكثر من هذه النشوة، نشوة إذلال أولادي”. شتمت الجدة في سرها.
عندما فُتحت أبواب البيت، أصاب رجال أبو شامة الذهول، أشياء ثمينة تملأ زوايا البيت الكبير، وإن لم يكن ثمة من ترتيب معين تخضع له، إلا أن كثرتها بهرتهم. اتجهوا إلى صندوق الجدة الخشبي المعتم، فتحوه، ففوجئوا ببقجتها ملفوفة بعناية مثبتة بدبوس من الذهب، مطرزة بقطع فضية ذات أشكال زخرفية مختلفة، مغازل، معينات، أو في هيئة زهرة الكشمير. شدوا غطاءها من دون أن يحلّوا دبوسها، فوقع كفن الجدة على الأرض ومناشف موتها وغطاء رأسها. صرخ رئيسهم فيهم أن ينصرفوا إلى التفتيش عن نذير.
كانت الجدة تقول لأولادها:
ـ أراد أبوشامة الإثبات لوجهاء بلده أنه قادر أن ينتقم من أهل بلدنا، و سوف يدعس رأس نذير، ويركعه، لأنه من سلالة البكوات والباشوات. وتضيف باشمئزاز: عديم وقع في سلة تين.
ربما كانت عمامة نذير الهارب موضوعة في تختية البيت ، تطل من تحت الستارة، وربما قصت البنات الصغيرات من قماشها كي يصنعن عرايسهن.
كان الهلع يلف الأب، عينيه، يديه، كتفيه، يتلفت مسترحماً، بصمت، أن يتركوهم ويرحلوا، مشفقاً على واجهة البيت التي هدمت. وبيوت الضفة الثانية التي تنهار أمامهم وذنب أهلها أنهم من بلد العم نذير.
البيت سور عال من الأحجار المرصوفة، سوداء وبيضاء، تبدو مخلخلة، لكنها ثابتة. له سبعة أبواب ألغيت عندما بدأ تهديد أبو شامة فأبقوا فقط على الباب الكبير الذي يسمى “باب النهر الكبير”. يوجد أمامه حجران كانا يوماً للجلوس والحراسة. بقي الحجران الآن ورحل من كان يجلس عليهما: خدم أو حرس. حاول رجال أبو شامة زحزحة الحجرين عبثاً:
ـ إبصق على الحجرين، اركلهما، ربما جلس عليهما جدي أوجدك.
لكن قَسَم أبو شامة أن يضع قدماً على الضفة العليا وقدماً على الضفة السفلى، داعساً كل من يعارضه، جعل نذيراً يسد شرفة البيت الكبيرة الموجودة في الواجهة الأمامية للمنزل ويحولها إلى نوافذ كبيرة، نافذتين أماميتين ونافذتين جانبيتين، مغلقة بإحكام بواسطة أبجورات مغطاة من الخارج بالنايلون الشفاف لمنع دخول الغبار، مما يجعل غرفة نذير الفارغة معتمة، نظيفة وباردة. أما الواجهة الخلفية للبيت فقد تألفت من ثلاث مراحل، العلوية عبارة عن نوافذ مصفوفة أفقياً، تبدو كفرسان متقاعدين مازالوا بكامل لباسهم الذي حال لونه، صامدين في أماكنهم إلا من ارتخاء في المفاصل والأضلاع، “مفاصل الأبجورات، وحزوز الخشب”. تفصل النوافذ أحياناً شرفات صغيرة مسوّرة بقضبان حديدية متباعدة مشغولة بدقة تهيء للناظر من الخارج رؤية واضحة شاملة. أما المرحلة الثانية، فهي القبو المحجوز عن الخارج بسور منخفض، رصف حجارة غير مرصوصة وغير متينة وبلا تكلّف، لأن القسم الخلفي يطلّ على النهر. رأي الجد: “النهر منا وفينا”. أما قبو القبو فهو المرحلة الثالثة لا ينفصل عن النهر بحاجز بل ينساب معه ويشكل بتراب حديقته طمي ضفته، وقد زرعت ثمة، منذ عشرات السنين، أشجار كثيرة منها نخلة جدة فطمة.
شغلت فطمة غرفة نوم أبويها بعد أن فرغ البيت من الجميع. أغلقت كافة الغرف التي كان يطلق عليها قاعات، ومنها غرفة نذير الكبيرة، تاركة قاعة الضيوف في الطابق السفلي مفتوحة لاستقبال الزوار مستغنية عن بقية القاعات إلا صالة الجلوس الكبيرة والتي تحتوي صندوق الجدة وكرسيها.
تقول الجدة: الصيف فرج. فتفرش أرض “الديار” وقت النوم. كانوا يستغرقون وقتاً طويلاً في الاستعداد للنوم ومثله عند الاستيقاظ وكثيراً ما كانوا ينامون ناسين الباب الخارجي مفتوحاً.
في ليلة مقمرة جاء بدوي غريب إلى الحارة، دخل البيت الكبير واندس بين الأولاد ثم نام باطمئنان. في الصباح وبينما كانت أم الحب تتفقد أغطية النائمين اكتشفت وجوده، خاف كثيراً عندما أيقظته مستفسرة عن سبب نومه بين الأعمام. قال إنه ظن البيت الكبير نزُلاً فحدّث نفسه أن يريح رأسه بين النزلاء النائمين وليؤجلْ دفع ما يستحق عليه حتى الصباح وها هولم يهرب. جلس بينهم، تناول فطوره. جاد البدوي في الحديث عن كراماته ونوادره. مرة رفع غطاء برميل صغير ظاناً أنه برميل ماء، فوجده خمراً، أغلقه وطلب ماء للشرب. قال إن ما حدث أن صاحب المخزن وجد براميل الخمر في اليوم التالي قد تحولت كلها إلى براميل خل.
ومرة في ليلة النصف من شعبان جاء لقضاء حاجة في الحارة فتعب ونام بالقرب من محل الحلويات مراقباً هرماً من حلاوة المحيا ، وعندما استيقظ وجد أن هذا الهرم قد وضع طربوشاً أحمر ووقف بالقرب منه كي يوقظه لصلاة الصبح. وأخبرهم الكثير من الحكايات التي أضحكت الجدة نفسها، وأمتعتهم جميعاً.
مازالت رائحة الخيار والجبنة تذكر فطمة بذلك الصباح الذي انتهى بوصول حمار العتالة حاملاً الملوخية والذرة الصفراء والبندورة بكميات كبيرة كي تحفظ للشتاء.
غداً يقرر الطبيب الإجراء الأول في رحلة المرض. فكرت في أن تتصل ببنت خالتها كي تخبرها، لكنها تراجعت: انشغالهم بي سيزيد مرضي.
كل ما يشغلها هو الأيام القادمة، المرض:
“من سيسقي أحواض الزهور؟ من سيحوش أوراق الكرمة قبل يباسها، وثمار الليمونة في يوم نضجها؟ من سيسدد استحقاق الكهرباء والماء قبل أن ينزعوا العدادين؟ ربما يأتي قرار البلدية بإزالة البيت الكبير، فواجهته لم تعد أثرية بعد أن أعيد بناؤها”.
نفضت ثوبها ومنشفتها بعنف، علّقتهما بملاقط الغسيل الخشبية وتذكرت:
“كنا نصنع من هذه الملاقط ضفائر ونلعب بلعبة العرايس”.
تركت كل شيء خلفها وجلست تنظف أظافرها بأظافرها متنهدة:
“الآتي أبشع من الرايح”.
حاولت أن تستمد أملاً من كنبة مقابلة بعثت فيها روحاً، حدقت، فاكتشفت أنها مسند من خشب وقماش غير متقن، غطى الغبار بعض زواياها، التي لم تستطع أصابعها المتنبهات تنظيفها. ربما اختبأت في ثنايا هذه الكنبة أشياء أعمامها وأطفالهم حين كانت تسقط سهواً، ويتعذر عليهم استعادتها: أقلام، مفاتيح، قطع نقود، قصاصات، في أوقات اجتماعاتهم على الغداء أوالعشاء أووقت قيلولة بعضهم، حين كان العم جميل وعبد الحكيم كشاش الحمام يستلقون عند قدمي الجدة متنعمين برطوبة الأرض، مستمتعين بتوبيخ أمهم الدائم، فهم إن لم ينالوه كل يوم فسوف يحكّهم جلدهم.
انطوت على ركبتيها وحدقت في الظلمة مابينهما:
“فراغ”.
تناولت صحناً من شوربة المرضى وأكثرت من البقدونس، أعدت كأساً من الزهورات مستنشقة رائحة المليسة، أخذته إلى سريرها، أطفأت المصابيح إلا مصباح السرير، وجلست تحتسي مشروبها على مهل. يوجد بجانب سريرها ديوان شعر مفتوح منذ بضعة أيام على جملة “سأصير يوماً ما أريد، سأصير يوماً كرمة”:
“ما الذي سيصير؟.”
وضعت الوسادة الإضافية وبدأ الأرق الليلي المعتاد.
مسنن ذو تركيب هندسي معقد يأخذ ماء النهر ولا يعيده، يدور ببطء في رأسها النائم ويطرق في كل دورة خلايا متنبهات منتزعاً جماجم حمراء من النهر. انتظرت أن يرميها على ضفة القبو، لكنه عاد يكمل دورته ليخرج جماجم أخرى. في كل دورة له يزيد سرعته مصدراً صوتاً صاخباً. تستيقظ عادة عندما تمتلئ أسنان الدولاب بالجماجم وتصبح سرعته حمراء.
فكرت وهي تشرب كأس ماء:
“متى يكفّ هذا المسنن عن الدوران؟.”
فطمة هي الوحيدة التي أدركت أن من اقتيد أسيراً لن يرجع أبداً، ففي صباح الجمعة، عاد رجال أبو شامة واقتادوا معظم من تبقّى من رجال المدينة. كان اليوم الأخير من الهجوم، ظن الجميع أن الأمر قد انتهى هنا، لم يحسب أحد أن المدينة سوف تفرغ إلا من النساء وبعض الرجال، الذين لن يستطيعوا حلاً أو ربطاً. تحمّلت فطمة صراخ نساء أعمامها في وجهها، عندما أغلقت الباب الكبير قائلة:
ـ هربنا وهربتم، ظننا أننا نجونا، كل راح في اتجاه أما من اقتاده رجال أبو شامة فلن يعود.. لن يعود. أخرجت صورة أخيها الصغير أحمد، الذي بال على نفسه عندما أمسكه أحد رجال أبو شامة من قبة قميصه، لوح به سائلاً معلّمه:
ـ وهذا الولد هل نتركه أم نأخذه؟.
فرد الولد:
ـ أنا صغير.
لكنهم دفعوه أمامهم وأخذوه.
كانت أم الحب تلتفت لدعم من تبقى مرعوباً. أما أم الصافي فقد كانت صامتة متجاهلة قرابتها لأبو شامة، راحت متشاغلة تصلح بحذر ماخربه رجال أبو شامة وتحزم الثمين منه في خزانتها.
البصارة التي زارتهم قبل الأحداث بأيام. قالت:
ـ يأتون ويسكنون الحارة والمدينة، يتصرفون فيها، ويبقون مئة عام بالتمام والكمال.
أفقدوا المدينة معظم رجالها وصبيانها، بعطش للانتقام لم يرتو. هدموا واجهات البيوت كي يصلوا إلى خلفياتها حيث وجدوا خمسة هياكل عظمية، دفنت واقفة، ربما كانت بقايا أقارب أبو شامة، فلاحون وأجرة عصاة منذ سنين طويلة. اختلطت تلك العظام العارية بالعظام المكسوة للجثث الجديدة ولم ينته الأمر.
كانت الأماكن التي ملئت بالجثث ثم أفرغت: مستودعات، دكاكين، أقبية.. صامتة مدماة تستقبل صف النساء المنتظرات دورهن للتعرف على حذاء الزوج أو قميص الابن أو “بيجامة” الأخ .. فإن لم يجدن أثراً لهم رجعن متفائلات بعودة الزوج أو الابن أو الأخ. كن يشممن الدماء المتجلطة على الأرض أو الجدران خشية أن تكون دماء الأحبة.
أم غالب التي دفنت ابنها البكر، لم ترفض إعطاء رجال أبو شامة أساورها، لكنهم قطعوا ذراعها، مثلما فعلوا مع النساء اللواتي رفضن إعطاءهن الذهب، لم يتمهلوا ليفهموا ماحاولت أن تشرحه لهم، أرادت أن تخبرهم، كيف أن أساورها كانت مهر عرسها حين كانت عروساً نحيلة وحين صارت بصحة جيدة للسعادة التي عاشتها مع أبو غالب والأولاد الذين رزقها الله بهم، سمنت يدها، فلم تتمكن من نزع الحلي لأنها ضاقت. وقفت بذراع مقطوعة، تشكر الله أنهم لم يغتصبوها كما فعلوا بغيرها.
كان رجال أبو شامة يدخلون إلى النساء في الظلام فيسلطون ضوء بطارية على الوجوه المتلاصقة وحين يعثرون على ضالتهم، وجوه فتيات صغيرات جميلات يسحبونهن من أمهاتهن ليغتصبوهن ويقتلوهن. ولم يفد الأمهات تمريغ وجوه بناتهن بالطين والشحار فقد كان جمال العين البريئة االخائفة يطغى.
بعد كل ما فعلوه.. غادروا تاركين شتيمة لنذير مكتوبة على الجدار الغربي للجامع بكل الألوان، بحبر ثابت لم يمحه ماء المطر، لم يتجرأ أحد من أهل الحارة على مسحها، بل على العكس كانوا يقرؤونها خمس مرات في اليوم حتى باتت قدراً مقدراً عليهم.
دائماً تسأل لميس:
ـ لماذا كرهوا واجهات البيوت؟ لماذا كرهوا المآذن والكنائس؟.
ودائماً يجيبون أجوبة لاتشفيها:
ـ أبو شامة أمسك المدينة من القرنين. قرنان قديمان جداً لعلهما جبلان، كره التاء المربوطة في نهاية اسم المدينة لأنها ليست تاء تأنيث بل تاء المبالغة وربما البأس. كانت تنبع، بين القرنين، ليلة النصف من شعبان، عين ماء، تستمر في تدفقها ثلاثة أيام تمام، ثم تبتلعها القرون. عندما أشرف عليها رجال أبو شامة، جفّت تماماً.
قال كاتب كتب أبو شامة إن معلمه “أبو شامة” عانى من السأم بعد خراب المدينة وانتصاره على نذير. ذرف دمعة لكآبة سيده وكانت لكنته العربية مكسرة. يقول عبد الحكيم كشاش الحمام عن هذا الكاتب:
ـ يهودي.
ـ كيف كانت البيوت؟.
ـ كان يوجد ضفة أخرى للنهر.
ـ يوجد ضفة أخرى عليها “الخلية الذكية” واللافتة الكهربائية.
ـ كان يوجد بيوت وناس.
ـ أين ذهبت البيوت والناس؟.
ـ كلهم كانوا قربى قريبون جداً، أو أبعد قليلاً، يقولون عمي وابن عمي، حتى وإن كانت القرابة عن طريق جد الجد، تماماً مثل قرابة فطمة بحارس الطاحونة.
ـ ماذا حل بحارس الطاحونة؟.
ـ تحول إلى قط ليلي، نزل في تجويف الطاحونة طامراً رأسه في ماء النهر. كان يرفعه كي يأخذ نفساً، ويرجع. ظل في تجويف الطاحونة أسبوعاً.
ـ والبرد؟.
ـ لم يهلكه البرد، قال إن ماء النهر كان أكثر دفئاً من الهواء، لكن عند الفجر كاد أن يتجمد. كان خائفاً أن يسمعوا صوت اصطكاك عظامه وأسنانه، بات شعره كالقنفذ. يصعد كل ليلة من ليالي الأسبوع مع دلاء الطاحونة إلى الأعلى، يتسلل إلى سقائف البيوت الخالية إلا من الرصاص الذي أفرغ. تسلل في ليلته الأولى إلى بيت لميا باحثاً عن طعام فوجد بقايا الحريق والطفلة “سحورة ” المتفحمة. وفي الليلة الثانية وبعد جهد طويل وجد قطرميز الشنكليش، التقطه وعاد إلى مكمنه مؤمناً عشاءه، ثم في ليلة تالية أمسك قطرميز مربى المشمش وعاد إلى مكمنه وهكذا نجى.
منهل السراج
مجموعة قصصية بعنوان “تخطي الجسر” 1997. فازت قصصها بأكثر من جائزة.
ورواية بعنوان “كما ينبغي لنهر” فازت بالمركز الثالث عن دائرة الثقافة بالشارقة لعام 2002 كانت منعت من النشر في سوريا عام 2000.
رواية بعنوان “جورة حوا” صدرت عن دار المدى عام 2005.
رواية بعنوان “على صدري” صدرت عن دار قدمس دمشق 2007.
مقالات عديدة في الصحف والمواقع العربية
خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتبة منهل السراج
للكتابة الى الكاتبة مباشرة
Sarraj15@hotmail.com