سؤال أمني بسيط
فواز طرابلسي
هل لنا أن نستغرب أن تقوم عناصر ميليشياوية تابعة لـ«تيار المستقبل» وحركة «أمل» بترويع المواطنين بواسطة إطلاق الرصاص وإشعال المفرقعات قبل أن تشتبك في ما بينها في عدد من أحياء العاصمة فتوقع قتيلة وعدداً من الجرحى وترفع وتيرة التوتر المذهبي؟ والمناسبة: الاحتفال بانتخاب الأول رئيساً لمجلس النواب والثاني مكلفاً رئيساً لمجلس الوزراء!
السؤال مطروح لأنه يجب الاعتراف بأن المفاجآت باتت نادرة في مملكة الطوائف التشاركية. لم يعد تداول السلطة كما قد يحلو للمرء أن يتصوره بعد أن صار نصف دزينة من زعماء الطوائف يعيّنون لا أقل من مائة نائب. أما في مجال الإصلاح والتغيير، فبدلاً من العمل على اعتماد النسبية في الانتخابات النيابية، هناك من يريد فرضها في تشكيل الوزارة، شرط أن تنطبق عليه وعلى وزراء طائفته فقط. إلى هذا، تخطى التوريث مجلس النواب إلى المناصب الثلاثة الرئيسية للحكم. ففي حين جرت عمادة رئيس الوزراء المكلّف سعد الحريري «الحريري 2«، خلفاً لأبيه الرئيس الشهيد، استمعنا إلى الرئيس نبيه بري يعدنا، في خطبة افتتاح ولايته الرابعة على المجلس النيابي، بأنه سوف يخلُف نفسه بنفسه في المرة التالية بعد أربع سنوات. هكذا نستطيع أن نطمئن إلى أن جمهورية التشاركية تحث الخطى سريعاً وراء شقيقاتها «الجملكات» (جمهورية + ملكية) العربية نحو التوريث الجمهوري.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر، قد لا يحق لنا أن نستغرب أيضاً إذ نكتشف أن عدد قادة الميليشيات وكوادرها يتزايد في المجالس النيابية كلما ابتعدنا عن سني الحرب. ربما يجب أن نتوقع يوماً ليس بالبعيد يعلّق لهؤلاء أوسمة الاستحقاق ـ من درجة فرسان طبعاً ـ على أدائهم «واجباتهم الوطنية» خلال الأعوام 1975 ـ 1990.
قيل كل شيء في حوادث عائشة بكار والجوار. استنزلت على المتهمين بارتكابها كل ما في القاموس من نعوت: غوغاء، قتلة، رعاع، مجرمون، إلخ. ورَجَمت الطبقة السياسية بكافة أطيافها مطلقي رصاصات الابتهاج ومشعلي المفرقعات بصليات لا تزال تَتْرى من أسلحتها الكلامية الثقيلة. ولم يخلُ الأمر من بعض التفاصيل العسكرية. فقد لفت قائد ميليشياوي مجرّب الانتباه إلى سرعة انتشار المسلحين خلال الاشتباكات. ولعله أراد أن يوحي أن وراء الأكمة ما وراءها في أحياء اللجا ومار الياس وعائشة بكار والملا والظريف ناهيك عن الطريق الجديدة. كذلك ارتفعت للفور أصوات تطالب بنزع سلاح «الأزقة» تمييزاً له عن سلاح الميليشيات. ناهيك عن سلاح المقاومة الذي تعثّر في «الأزقة» ذات أيار من العام 2008.
ولا بد من الملاحظة أن الاستهجان وطلب استنزال أقصى العقوبات بحق «المجرمين» ترافقا مع تفسيرات وتحليلات تداني التبرير إن لم نقل التبرئة. تباينت الاجتهادات بعض الشيء. عزا البعض الحوادث إلى «تربية الشوارع» وهذه لا تمت لقيمنا الدينية والأخلاقية أو لتقاليدنا بأي صلة، كما هو معروف. وذهب بعض آخر في الاجتهاد وجهةً رأت في إطلاق الرصاص في المناسبات «ثقافة» لبنانية عريقة. وفي زمن العولمة والمرحوم هانتنغتون، حين صارت «الثقافة» مثل جراب الغجري، يحتمل القول تأويله على وجهين: وجه يرقى بقتل الناس على شرفات منازلهم إلى مستوى الفن.. ووجه يرى في إطلاق رصاص الابتهاج الذي يجرح ويقتل ويهدد بالاقتتال ذي الطابع المذهبي تعبيراً عن «تقليد» عريق. ومَن يجرؤ أن يخرج على تقاليده أو أن ينتقدها أو حتى أن يغبّر عليها في زمن الردّة المحافظة التي نعيش؟ ولعل الأمر الوحيد الغريب حقاً هو أن أحداً لم يبادر بعد إلى تحميل المسؤولية عن أحداث عائشة بكار إلى «الأصابع الخارجية» التي تحاول العبث بأمننا والاستقرار، أو إلى «طابور خامس» عاد إلى نشاطه الزراعي المألوف في بذر بذور الفتنة.
عادة ما يكون المحاسيب أكثر حماسة للزعيم من الزعيم نفسه وأقرب المقرّبين إليه. فهذه سنّة المحسوبية (بلا معنى). لذلك، علينا أن نقتنع بأن مئات الألوف من القذائف التي استهلكت خلال اليومين المشهودين ـ بما فيها الرصاصات التي قتلت أم الأربعة أطفال زينة الميري في منزلها في عائشة بكار ـ دفع مطلقو الرصاص ثمنها من جيوبهم. وعلينا أن نطمئن إلى أن المفرقعات المتطورة ذات الأصوات المروّعة، قد اشتراها العابثون بالأمن من وفورات فواتير الكهرباء والمياه والمحروقات التي خفّضتها حكومة الوحدة الوطنية دفعة واحدة قبل أن تنصرف إلى تصريف الأعمال.
وبما أن الأمن «سياسي بامتياز» في نهاية المطاف، كما تقول المصادر الأمنية، لم يكتف الرئيس والرئيس المكلّف برفع الغطاء عن أنصارهما بل طالبا قوى الأمن بالحزم والضرب بيد من حديد عليهم. وهكذا تكتمل الدائرة في توزيع العمل العبثي بين الميليشيات الرسمية والحكم وبين اللاشرعية والشرعية. تتولى الميليشيات، التابعة للأستاذ نبيه بري والأستاذ سعد الحريري، تعكير «صفو الأمن» وخرق القوانين ابتهاجاً بالتجديد للأول والتكليف للثاني، فيصدر رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء المكلّف أوامرهما إلى قوى الأمن بملاحقة… أنصار الأستاذين بري والحريري!
قد يكون من ثقل الدم أن نطالب حكّامنا والزعماء، في الفريق المسمى على اسم «الوطنية» والآخر المسمى على اسم «الاستقلال»، باستقلالية قرارهم الوطني في هذه «الظروف الإقليمية والدولية الحرجة» ناهيك عن زمن «الاستحقاقات» الخطيرة. وقد لا يكون لائقاً البتة حتى أن نتوقع منهم، وطنيين واستقلاليين على حد سواء، أن يشكلوا الحكومة بأنفسهم وهم الذين يكرّرون لمن يهمه الأمر أن أهل الحل والعقد للمعادلات الحسابية الوزارية هم «سين» و«سين».
ولكن ألم يعد لدينا الحق حتى أن نطالب حكّامنا بالسيطرة حتى على أنصارهم؟ بعبارة أخرى، إذا كان رئيس المجلس النيابي ورئيس مجلس الوزراء المكلّف قد عرفا، ولو عن طريق الصدفة، أن أنصارهما يعدّون للاحتفال بالرصاص والمفرقعات لانتخاب هذا وتكليف ذاك، لماذا لم يتدخل أي منهما لمنعهم من هذا النمط من التعبير عن الابتهاج بوسائل تلك الـ«ثقافة» الهمجية القاتلة؟
والرجاء أن لا يقال لنا جواباً على هذا السؤال إن زعيم حركة «امل» ورئيس تيار «المستقبل» لا يمون أي منهما على أنصاره والمحسوبين. والحال هذه، أي حق يدّعيان في الحكم، وتوفير الأمن والاستقرار، والحفاظ على السلم الأهلي، ناهيك عن «بناء الدولة القوية العادلة»؟
السفير