صفحات أخرى

عبد الوهاب المسيري موسوعة على قدمين: من الأدب إلى التاريخ ومن الأكاديمية إلى الشارع

null
الانتصار للتاريخ.. مشروع المسيري الذي لم يكتمل
ياسر علوي
ـ ١ـ
برحيل العلامة عبد الوهاب المسيري عن عمر لم يتجاوز ٦٩ عاماً، خبر العشرات من تلامذته من المحيط إلى الخليج لوعة فقد الأب والمرشد، وفقدت الأمة العربية بحّاثة فذاً، قدم مشروعاً فكرياً ضخماً امتزج فيه الهم العلمي بالالتزام النضالي، وتنوعت منتجاته بين دراساته الشهيرة للصهيونية، إلى دراسات في الاجتماع والنقد الأدبي، فقصص للأطفال بطلها شخصيته المحببة »الجمل ظريف«، التي ابتكرها أولاً ليحكي لأطفاله في سنوات المهجر قصصاً تحفظ رباطهم بجذور ثقافتهم العربية، ثم عاد ودونها في آخر سني حياته عندما اكتشف أن الحاجة للرباط بجذر الثقافة العربي باتت أكثر إلحاحا لأجيال مغتربة داخل الوطن. كان المسيري نموذجاً استثنائياً لمثقف مناضل يحيا مشروعه ويعيش قيمه باتساق واستقامة يكادان يستعصيان على التصديق. مثل هذا الرجل لا يُرثى، فرثائه إهدار لأهم ما في تجربته، وإحالة لها إلى »المتاحف« حيث تصبح مجرد تمارين أكاديمية لا تعني سوى حفنة من المتخصصين، لا رسالة نضالية مستمرة تتوسل بالعلم لاستنهاض قوى الأمة.
فمشروع المسيري لم يستكمل بعد، والقيم التي آمن بها والمعارك التي خاضها لم تربح بعد، ولا زالت تستحق أن تخاض وأن يناضل من أجلها. وأول هذا النضال الاستيعاب المعمق لمشروعه الفكري والنضالي، واستنقاذه من »المتحفية« من خلال حوار نقدي جاد يشتبك مع أفكار المسيري ـ اتفاقاً واختلافاً ـ بما يعمق وجودها في العقل العربي، ويتجاوزها عند اللزوم دعماً للنضال من أجل ما اعتقده ـ ونعتقده ـ حقاً وعدلاً.
ـ ٢ ـ
وقد ارتبط اسم المسيري عند جمهرة قرائه بموسوعته الشهيرة عن الصهيونية، ولم تحظ اجتهاداته النظرية والمنهجية بما تستحق من الاهتمام والدراسة. وإذا كان هذا الاهتمام بالدراسات الصهيونية مفهوماً في ضوء مركزية الصراع العربي الإسرائيلي في الأجندة البحثية والنضالية العربية من ناحية، والكفاءة التفسيرية العالية لدراسات المسيري عن الصهيونية من ناحية أخرى، فإن الفهم المتعمق للأطروحات النظرية والمقولات المنهجية التي استندت إليها تحليلات المسيري للظاهرة الصهيونية لا يقل خطورة ـ إن لم يزد أهمية ـ عن مضمون هذه التحليلات. فبدونه لا يبقى سوى التلقي السلبي لدراساته دون التفاعل معها وتطويرها، أو ـ وهو الأسوأ ـ الاكتفاء بالثناء والمدائح المرسلة لتفرد العمل الموسوعي الذي قام به المسيري، بما يحول هذا العمل إلى مجرد أيقونة نتبرك بها، أو نشير إليها في سياق استعراض سعة الإطلاع، في الوقت الذي يتم فيه تجاهل كل الأطروحات الفكرية والدلالات النضالية للموسوعة وغيرها من مؤلفات المسيري.
ومن الواضح أن المسيري كان منتبهاً طوال الوقت لهذا الخطر، فلم يمل من الإشارة في مقدمات جميع دراساته عن الصهيونية إلى أنه لم يحصل على معلومات سرية، ولم يأت بأرقام جديدة، وإنما كل ما قام به هو تقديم نموذج تفسيري جديد، أي أن إنجازه الأساس إنجاز منهجي، وأن كتاباته عن الظاهرة الصهيونية كانت دراسات تطبيقية يختبر خلالها مقولات نظرية ومنهجية قام بتطويرها لدراسة الظواهر الاجتماعية في مواجهة الاتجاهات الرامية »لتطبيع« العلوم الاجتماعية، بمعنى تطبيق المناهج والقواعد المستخدمة في العلوم الطبيعية على الظواهر الإنسانية، بحيث تتم دراسة السلوك الإنساني المركب بنفس الكيفية التي تتم بها ملاحظة سلوك القردة مثلا أو الخلايا الأميبية. ومن هنا تبرز أهمية بحث الجوانب النظرية في مشروع المسيري باعتبارها تمثل حجر الزاوية في هذا المشروع.
فالمشروع الفكري لعبد الوهاب المسيري يقوم على ثلاثة أضلاع أساسية هي:
أولاً: أطروحات نظرية ومنهجية بشأن كيفية دراسة الظواهر الاجتماعية.
ثانياً: دراسة مفصلة للظاهرة الصهيونية باعتبارها دراسة الحالة المركزية التي قام خلالها المسيري ببلورة مقولاته النظرية والمنهجية واختبار قدراتها التفسيرية.
ثالثاً: دراسات تطبيقية أخرى تهدف إلى توسيع النطاق التطبيقي لمقولاته النظرية، وتركز بالأساس على نقد الحداثة وما بعدها.
وبينما ركز معظم ما كتب ويكتب عن المسيري على الضلع الثاني، فقد يكون من الملائم هنا تسليط بعض الضوء على الضلعين الأول والثالث.
ـ ٣ ـ
تنطلق المقولات النظرية والمنهجية لعبد الوهاب المسيري من السؤال التقليدي في العلوم الاجتماعية: هل يمكن فهم السلوك الإنساني بتطبيق نفس المناهج المستخدمة في فهم الظواهر الطبيعية؟ وينحاز المسيري على الفور للاتجاه المجيب بالنفي، وحيثياته في ذلك واضحة ومباشرة، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يطرح تساؤلات عن المعاني والعلل الأولى ويبحث عن الغرض من وجوده في الكون، باختصار، هو كائن ذو رسالة. ولا توجد بطبيعة الحال أعضاء تشريحية أو أحماض أمينية تشكل أساساً »طبيعياً« لهذا الجانب »الرسالي« للإنسان. فالإنسان جزء يتجزأ من الطبيعة، يوجد فيها، ويعيش عليها، ويتأثر في عدد من جوانب حياته بها، ولكنه لا يرد إليها في كليته.
ولتقريب هذه الفكرة يمكن للقارئ أن يتأمل مثلا أطروحات عالم اللغويات الأشهر تشومسكي حول ما يسميه بمعجزة اللغة. فاللغة عند تشومسكي هي مقدرة توليدية كامنة في عقل الطفل. فالحديث العادي يقوم على بناء علاقات منطقية بين المفردات، وإجراء عمليات اشتقاق وقياس يقوم بها الطفل بدون أي دراسة للمنطق وأساليب الاشتقاق والقياس. فعقل الطفل (أي قدراته الإدراكية غير الملموسة والتي تستطيع أن تجري هذه العمليات المعقدة اللازمة لتركيب جمل مفهومة) لا بد وأن يكون أكثر تركيباً من مخه (بالمعنى العضوي والتشريحي). ومن هنا فإنه من غير الممكن اختزال الإنسان في جانبه الطبيعي، ولا بد لفهم السلوك الإنساني المركب من بناء نموذج توليدي يحترم الاستقلالية النسبية للإنساني عن الطبيعي، ويأخذ في الاعتبار العمليات المركبة التي يقوم العقل الإنساني خلالها بتبويب المعلومات الغزيرة المتاحة له عن الواقع المحيط به، وترتيبها وفقاً لدلالتها وأهميتها في فهم ظاهرة ما، ثم يتم القيام بعمليات تجريدية وتركيبية لبناء تفسير معين للظاهرة محل الدراسة، وهي العمليات التي يسميها المسيري بناء نموذج تفسيري للظاهرة.
على أن النماذج التفسيرية التي يقدمها المسيري ليست مجرد تمارين عقلية تمارس في الدوائر الأكاديمية، ولكنها أيضا خطوة أساسية نحو تحويل الفهم والتفسير ـ حسب تعبير المسيري ـ إلى فعل نضالي من أجل ما نتصور أنه الحق والعدل. فالمشكلة في التفسيرات الاختزالية للظواهر الاجتماعية ليست فقط مشكلة أكاديمية، فالاختزال هو سمة »العقل الأداتي« الملتزم بالوسائل والإجراءات دون التساؤل عن الغايات، والذي يتذرع بحياد علمي مزعوم للتحلل من المسؤولية السياسية والأخلاقية عن الأفعال الإنسانية. والتصور الآلي للسلوك الإنساني جوهره إهدار التاريخية (بمعنى السياق التاريخي الذي يعيش فيه الإنسان ويتميز به عن سائر الكائنات) والخصوصية.
والواقع أن المتأمل في أعمال المسيري يلاحظ أن الانتصار للتاريخ هو الهمّ الحاكم في جميع هذه الأعمال، فتحليله للظاهرة الصهيونية على سبيل المثال يقوم على نقد ـ ونقض ـ استثنائها لنفسها من التاريخ الإنساني، وإصرارها على أن الجماعات اليهودية تمثل شعباً عضوياً يعيش خارج التاريخ، حيث لم تتأثر هذه الجماعات على الإطلاق ـ وفقاً للرؤية الصهيونية ـ بالمجتمعات التي عاشت بين ظهرانيها لعشرات القرون، وإنما ظلت منغلقة على نفسها ومحتفظة بخصائصها »النقية« طوال الوقت، تجتر مفرداتها التاريخية الخاصة وتحلم بالعودة إلى »أرض الميعاد«. فالمجتمعات والأيديولوجيات الاستيطانية معادية للتاريخ بالضرورة، ومن هنا فإن الخطوة الأولى لفهم وتحليل الظاهرة الصهيونية هي وضعها في سياقها التاريخي السليم، باعتبارها ظاهرة استعمارية غربية لا يمكن فهمها إلا في سياق تاريخ الاستعمار الاستيطاني منذ نهاية القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين، وليس بالعودة إلى النصوص التوراتية والتلمود الذي لم يعد يقرأه حتى طلبة المعاهد الدينية في إسرائيل.
ويتضح هذا المنهج التاريخي في تحليل المسيري لأسطورة الماسادا مثلاً، حيث يرفض بشكل قاطع الطرح الصهيوني لها كتعبير عن طبيعة المقاتل اليهودي الذي يفضل الانتحار على الاستسلام (وهو التفسير الذي كرره الرئيس الأميركي جورج بوش في خطابه الشهير بالكنيسيت)، ويقدم قراءة تاريخية مدققة للواقعة تحللها في سياق قيام الحامية اليهودية بذبح الرومان المحاصرين بعد استسلامهم، وتخوفها من المعاملة بالمثل عندما دارت عليها الدائرة، فنحن هنا لسنا سوى أمام حادثة تمرد في إطار إمبراطورية ذات بنية حضارية معينة يشكل الثأر والمعاملة بالمثل أحد أهم عناصر الضبط فيها.
والانتصار للتاريخ ليس قاصراً على دراسات المسيري عن الصهيونية، فالإمبريالية عنده جوهرها العداء للتاريخ، حيث يتم إهدار تاريخ وخصوصية الشعوب المقهورة، وتحويلها إلى مجرد »مادة استعمالية« تستخدم وفقاً لاحتياجات المركز المهيمن، فيتم مثلاً تغيير بنى الإنتاج الزراعية في المستعمرات لتتفق مع احتياجات التصنيع في المراكز المهيمنة، أو إذا اقتضى الأمر يتم إبادة الشعوب المستعمَرة تماما إذا كان بقاؤها يحول دون استغلال أكثر »رشداً« للموارد التي تحوزها. وبالمخالفة فإن إدراك التاريخية هو جوهر الموقف الانعتاقي والسياسة التحررية، وبه تتحول المعرفة المجردة إلى فعل نضالي، ويصبح الدفاع عن التاريخ أساساً للمشروع التحرري النهضوي، والانتصار للتاريخ انتصاراً للإنسان.
وبالمثل، فإن دراسات المسيري في مجال النقد الأدبي ـ وهو مجال تخصصه الدراسي الأصلي ـ تتأسس على ضرورة فهم النص الأدبي باعتباره تعبيراً مكثفاً ومركباً عن لحظة تاريخية معينة لا يمكن فهمه بمعزل عنها، وليس من قبيل المصادفة أن أطروحته للدكتوراه كانت عن الوجدان التاريخي والوجدان المعادي للتاريخ في الشعر الأميركي المعاصر. فالتاريخية والانتصار للتاريخ يشكلان الحجر الأساس الذي يبني عليه المسيري نماذجه التفسيرية لدراسة الصهيونية وغيرها من الظواهر الاجتماعية.
ـ ٤ ـ
ومن ناحية أخرى، فإن الانتصار للتاريخ هو الأساس الذي يبني عليه المسيري نقده للتيار المهيمن في الفكر الغربي في مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة، فيرى أن هناك ثلاثة افتراضات غير تاريخية كامنة في بنية الخطاب الغربي المهيمن هي:
أولاً: التطلع الدائم لنفي التاريخ، الذي يمكن رصده في الموقفين السائدين في نظرة الفكر الغربي للتاريخ: الموقف الأول هو الموقف الهيجلي الذي يعتبر التاريخ مقدساً وذا غاية ويصل لنهايته عند تحقيق الغاية وتحقق الفردوس الأرضي (وهو موقف تجد أصداؤه مثلاً في أطروحة فوكوياما الشهيرة حول نهاية التاريخ وأطروحة هانتنجتون عن صراع الحضارات التي تعتبر الصراع بين الحضارات في التحليل الأخير صراعاً بين الحداثة والجيوب »الإسلامية والكونفوشية« الرافضة للمشروع التحديثي الغربي، أي أنها تقوم على التصور الخطي نفسه للتاريخ وإن كانت تعتبر أننا لم نصل بعد إلى نقطة النهاية)، أما الموقف الثاني، فهو الموقف ما بعد الحداثي الذي يعتبر التاريخ لا غاية له ولا معنى، وينظر إلى التاريخ وفقاً لمقولة »ذاكرة الكلمات المتقاطعة« التي تعتبر التاريخ مخزناً لمعلومات متناثرة بلا رابط أو معنى. وبرغم التناقض الظاهري للموقفين فإنهما يشتركان في نفيهما للتاريخية والخصوصية إما في ظل تفسير خطي للتطور التاريخي يعتبر الخصوصيات التاريخية مجرد محطات على مسار أحادي تسير نحوه البشرية ويمثل الغرب منتهاه، وإما بنفي المعنى ذاته، بحيث لا يتبقى إلا الصراع الذي تحدده إرادة الطرف الأقوى.
ثانياً: التطلع للحل النهائي، وقوامه إمكانية الوصول إلى حل نهائي لكل المشاكل وإلغاء الزمان والتاريخ (بمعنى التدافع والصراع والخصوصية)، وهو ما تجلى في أبشع صوره في الإبادة النازية مثلاً، حيث تم رفض الواقع التاريخي المركب للمجتمع الألماني وتحويله إلى عالم مصمت تتحكم فيه معايير الترشيد فيباد من لا فائدة له (الضعفاء والأجناس »الأدنى«…إلخ).
ثالثاً: افتراض الانقطاع التاريخي، ومؤداه إمكانية نفي التراث التاريخي لجماعة من البشر وإعادة هيكلتهم وفقاً لمعايير الترشيد والتحديث. ولهذا الافتراض عدة تجليات لعل أسوأها هو ما أسماه المسيري »عنصرية التذويب وعدم المبالاة بالهوية«، عبر الهجوم على أي معيارية إنسانية واعتبار كل شيء نسبي ومتساو في القيمة، ومن ثم تنتفي المسؤولية والالتزامات الإنسانية وتتحول الهيمنة الإمبريالية مثلاً إلى مجرد نتيجة »طبيعية« للصراع الدارويني بين أطراف متساوية أخلاقياً ومتمايزة فقط في قوتها، لا إلى عمل مدان سياسياً وأخلاقياً ويتعين مقاومته.
ويرى المسيري أن هذه الافتراضات لم تكن مجرد أطروحات نظرية، وإنما شكلت بالأساس ديباجات اعتذارية للهيمنة الإمبريالية، وللنزعة الإبادية الكامنة فيها. فخلافاً للاتجاهات التي تدرس »المحرقة النازية« مثلاً باعتبارها حدثاً لا سابق له في التاريخ الإنساني وموجه ضد اليهود لكونهم يهوداً، أو تلك التي تشكك في وجودها أو حجمها متصورة أن هذا التشكيك ضروري للصراع مع الظاهرة الصهيونية، سعى المسيري لنقل هذه المناظرة إلى مستوى أكثر تركيباً، يقوم على أن الإشكالية الأساسية ليست في العراك حول العدد الدقيق لضحايا المحرقة، وإنما في مدى اعتبارها نموذجاً مكثفاً لنزعة إبادية كامنة في بنية الفكر الاستعماري تنظر إلى العالم ـ والبشر ـ باعتبارهم مادة استعمالية لا قداسة لها، ومن ثم يتعين الاستفادة منها بأفضل شكل ممكن، والتخلص منها عند الضرورة، ويحاول لفت الانتباه إلى سوابق عمليات الإبادة وارتباطها بالتشكيل الإمبريالي الغربي.
ـ ٥ ـ
والسؤال المهم هنا هو: هل يشكل هذا الموقف النقدي دعوة للقطيعة مع الغرب أو العداء له؟ الإجابة يمكن أن تكون بنعم أو بلا حسب المقصود بكلمة »الغرب« وما إذا كان الغرب المجازي أم الغرب التاريخي. ولا بأس هنا من وقفة منهجية لتوضيح الفرق بين المعنيين.
ففي دراسته القيمة »اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود«، انطلق المسيري من أن المجاز كأداة لغوية تقوم على استعمال اللفظ في غير معناه اللغوي الأصلي ليس مجرد تقنية بلاغية، وإنما آلية مركزية للإدراك. فالمجاز أداة لإدراك المركب والحديث عن العناصر الأكثر تعقيداً من العالم المادي المباشر المحيط بالإنسان. وهو بذلك يعترف بالمسافة بين الدال والمدلول، ويكتفي بمحاولة التقريب بينهما عن طريق الاستعارة والمجاز.
وبتطبيق هذا المفهوم على موقف المسيري من »الغرب« يمكن التمييز بين مستويين في تعامل المسيري مع هذا المصطلح: مستوى نماذجي/مجازي يختزل الغرب في استعارته المركزية (أي مقولات الفكر الغربي في طوره الإمبريالي المهيمن)، ومستوى متحقق يشير إلى الغرب كحقيقة تاريخية جيوستراتيجية، ويعتبر »الإنسان الغربي« أكثر تركيباً من »النموذج الغربي المهيمن«، كثيراً ما رفض هذا النموذج وشارك في النضال الإنساني ضده.
والواقع أن فك الالتباس بين المستويين ضروري لفهم موقف المسيري من »الغرب«، فالبعد المركزي هنا هو البعد التحرري لا العنصري، والموقف العدائي هو من النموذج الإمبريالي المهيمن، وهو موقف لا يعادي الغرب من حيث كونه غرباً، بل ويجد حلفاء عديدين في الغرب من المناضلين ضد النموذج الإمبريالي المهيمن. فالمسألة ليست موقفاً مبدئياً من الغرب، وإنما موقف تحرري من فكر إمبريالي مهيمن.
ـ ٦ ـ
بهذا الاتساق الاستثنائي بين العلمي والنضالي، بين الالتزام العربي والانفتاح الإنساني، قارب المسيري اهتماماته الفكرية والأدبية المتنوعة، معتبراً أن الدراسة الرصينة للصهيونية أمضى الأسلحة لمقاومتها، وأن كتابة قصص »الجمل ظريف« تستحق نفس الحماس الذي كان يلمع في عينيه عندما يحاضر عن »السيرة الهلالية« أو الإبداعات التشكيلية الأصيلة »لرفيق نضاله« الفنان الكبير حلمي التوني، أو عندما يروي لطلابه كيف أن استماعه عام ١٩٦٨ لتوزيع قائد فرقة الموسيقى العربية المشكلة حديثاً آنذاك، عبد الحليم نويرة، لدور »كادني الهوى« بعد عودته من البعثة في الولايات المتحدة، وفي خضم الأجواء الكئيبة لما بعد النكسة، هو ما نجّاه من عقدة احتقار الذات القومية، التي أصابت كثيراً من »العائدين من البعثات في الغرب« في تلك المرحلة.
وبحيويته الاستثنائية استمر المسيري في التواصل حتى قبل ساعات قليلة من وفاته مع تلامذته في الوطن العربي وخارجه للاطمئنان على جدول الانتهاء من العملين اللذين أشرف عليهما وشارك تلامذته في كتابة فصولهما »موسوعة إسرائيل والصهيونية« التي أرادها تفصيلا لما أجمل في الموسوعة الأولى التي صدرت عام ،١٩٩٩ ومجلد »إشكالية التحيز في العلوم الاجتماعية«، حتى وافته المنية »والعرق لم يجف بعد عن الورق« حسب تعبير أديبه الأثير »وبلدياته«خيري شلبي. مات المسيري أمس في مستشفى فلسطين (أوَلم تكن فلسطين دائماً المبتدأ والمآل عند المسيري) بالقاهرة، ودفن بحسب وصيته في بلده »دمنهور« بعد شهور قليلة على صدور كتابه المصور الجميل عن قصيدة »موال الملاح القديم« للشاعر الإنكليزي الأعظم كوليريدج. أوَلم يقل شاعر المسيري المفضل، الراحل العظيم فؤاد حداد إن »الأرض مصرية/ أما الوطن عربي/ والجرح إنساني«.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى