روزا ياسين حسن: جيلنا يكتب السياسة انطلاقاً من منظوره الخاص
المبدع الحقيقي هو الذي يجعل مسيرة اللامرئي من دون صوت
اسكندر حبش
لو طلبنا من الكاتبة السورية روزا ياسين حسن أن تعود اليوم إلى بداياتها مع الكتابة، لجاء ردّها بأنها لم تعد تجد حاليا «أيّ حدود واضحة بين زمن ما قبل الكتابة وما بعدها»! تعيد ذلك إلى أمر جوهري مارس طقوسه عليها مذ كانت صغيرة، إذ: «ربما كوني كبرت في بيت يعجّ بالكتب، وهاجس الكلمات يسكنه أينما حللت، على طاولة الطعام وفي الصالون وصولاً إلى قصص ما قبل النوم، جعل عشق الكلمات يتلبّسني. ولكني أذكر أن أول قصة قصيرة كتبتها، ذهبت بها إلى أبي ولن أنسى كيف لمعت عيناه وقتذاك. في ما بعد، بعد وفاته بسنوات، وحين قرأت مذكراته عثرت على تلك اللحظة بالذات مدونة. وفيها قال، بعد أن فازت تلك القصة الأولى بمسابقة محلية للقصة القصيرة: «كنّا ما نزال نبحث في الأمور، عندما غطّت ضجة صوتنا. كان أولادنا يتجادلون، ملأوا الساحة وما رأونا. فانتحينا جانباً مستغربين. سمعنا لغطاً، ولكن ما فهمنا: قد حلّ وقت تبديل اللاعبين». كان هذا في أوائل العام 1993».
هل فعلا يتبدل اللاعبون؟ ربما. وربما أيضا، أحب بو علي ياسين (وروزا هي ابنته) أن يذهب في حلمه – كما كتب عنه في هذه المذكرات – إلى أقصاه، أو ربما رغب في أن يشير إلى استمراريته من بعده؛ إذ ما من كتابة تلغي كتابة أخرى بشكل جذري، لأنها ليست في النهاية سوى تراكم فوق آخر. ومع ذلك، ذهبت روزا ياسين حسن، إلى دراسة الهندسة المعمارية لتحصل على شهادتها، لكنها، في ما بعد، لم تعد ترغب في الاستمرار بها لأنها حين قررت «ألا أمارس عملاً لا أحبه تركت العمارة واتجهت إلى الأدب بكلّيتي. لكني اليوم ممتنة لتلك الدراسة فقد لفتت ذائقتي إلى جماليات كثيرة مشتركة بين العمارة والآداب».
هذا الاتجاه إلى الأدب، بدأ مع مجموعة قصصية العام 2000 بعنوان «سماء ملوثة بالضوء»، إلا أن رحلتها الفعلية، أو بداية تموضع حضورها الحقيقي، في قلب المشهد الروائي، جاء مع رواية «أبنوس» في العام 2004، التي حازت عنها «جائزة حنا مينة للإبداع الروائي» (المرتبة الثانية). رواية تغرف مناخاتها من «سلالة من النساء السوريات تبتدئ مع أول القرن العشرين وتنتهي بنهايته، وربما تعكس كلّ شخصية نسائية طوراً اجتماعياً وإلى حد كبير سياسياً مرّ بالبلد، حتى الوصول إلى أحداث الثمانينيات. يجمعهن صندوق أبنوس يمثل تركة تتناقلها نساء السلالة منذ جدتهم الأولى تركية الأصل وحتى الجيل الأخير في السلالة الذي هو جيلي. وكلّ واحدة من النساء تستخدم تلك التركة/ الصندوق بطريقتها الخاصة وفهمها الخاص أيضاً» (ترجمت مؤخرا إلى الألمانية). بعد أربع سنوات (2008) جاء كتابها الثالث: «نيغاتيف: من ذاكرة المعتقلات السياسيات»، الذي تصفه بأنه «رواية توثيقية» حاولت فيه أن توثق بقالب روائي للتفاصيل التي عاشتها المعتقلات السياسيات في السجون. وهي بعيدة عن الجوانب السياسية ولكنها تعمل في التفاصيل والدقائق الإنسانية الصغيرة وفي دواخل الشخصيات وحالاتها المتبدلة عبر حوالى 16 معتقلة سياسية من مختلف الاتجاهات الإيديولوجية».
حراس الهواء
آخر إصدارات الكاتبة، رواية «حراس الهواء» («الكوكب – رياض الريس للنشر») التي ترسم فيها لوحة أخرى من لوحات المجتمع السوري الحديث، عبر شخصية عنات، العاملة كمترجمة في السفارة الكندية في دمشق، والتي تشكل همزة الوصل ما بين طالبي الهجرة وبين المفوضية العليا للاجئين. شخصية، تبدو «كمتكئ» للكاتبة، لتدخل منها إلى العديد من الشخصيات الأخرى التي تفتح على قضايا إنسانية وسياسية شتى، وبخاصة موضوع الأقليات في العالم العربي، حيث نقع على هؤلاء الراغبين في مغادرة ديارهم، لأسباب شتى. من هنا، إذا كانت الكاتبة في «نيغاتيف» تشير إلى موضوع السجينات السياسيات، فإننا نجد أن رواية «حراس الهواء» تأتي لتشير إلى مسألة الأقليات، على الأقل من حيث جعلها هذا الموضوع خلفية للوحة التي تبني عليها عملها بأسره. موضوعات شائكة، إذا جاز القول، تعمل روزا ياسين حسن على حفر مناخاتها، لذلك ثمة سؤال لا بدّ أن يطرح نفسه: «ما الدافع إلى اختيار موضوعات كهذه»؟ حول ذلك، تقول روزا ياسين حسن: «أعتقد أن الموضوعات هي التي تختار المبدع لا هو من يختارها. إنها هواجس وأشباح تحيط به وحوله في كل وقت وتفرض نفسها على الكلمات. في النهاية هناك دوماً ما سنكتب عنه، أليس كذلك؟ لكن في كلا العملين لم تكن تلك المواضيع بمعناها الشمولي هي التي تهمّني. في «نيغاتيف» تحدثت عن تفاصيل السجينات السياسيات الصغيرة، والصغيرة جداً إن شئت، في السجون، عنهن كنساء وليس عن كونهن سياسيات أو مناضلات البتة. حضور السياسي لا يبدو إلا في اختلاف انتماءاتهن الإيديولوجية فحسب. أما كتابتي عن الأقليات في «حراس الهواء» فهي أيضاً تندرج تحت السطوة التي تمارسها عليّ تفاصيل البشر الداخلية والحميمة. الأقليات بتنوعاتها المتباينة هي الفراغات التي تخلخل السائد، وخربشات الهامش التي تشوّش صلابة المتن وخطوطه المرسومة المطلقة. الحديث عن الأقليات هو حديث عن دوامة إنسانية ضاربة في القدم، وما يعنيني هو الهواجس الداخلية لتلك الشخصيات المهمّشة وما عاشته بغض النظر عن أحقية انتماءاتها وظرفيتها. ذلك أن أحداً لا يملك الحقيقة كاملة، إنها كما أحب أن أقتنع مقسّمة كقطعة الحلوى ليخال كل من ملك قطعة أنه ملك الحقيقة كاملة»!!
في «حراس الهواء» هناك أيضا قراءة لحركة المجتمع السوري الحديث. هل بهذا المعنى ترغب الكاتبة، من الرواية أو من الكتابة بشكل عام، في أن تكون أداة لتفكيك آليات المجتمع والسلطة»؟ تقول الكاتبة إنها ترغب من الرواية في أن «تكون الرواية أداة للمتعة بالدرجة الأولى، ولنقل إنها تخرجنا بالكلمات من رتابة العيش وظاهريته إلى منطقة أخرى أكثر عمقاً وحياة. ولنقل أيضاً إنها تعتبر الظاهر غلالة سميكة وعليها إزاحتها ليرى قارئها الأثير ما يختبئ هناك في الداخل. أرى إلى الرواية باعتبارها مسبراً لا مرئياً للحفر في الدواخل، دواخل الشخصيات والمجتمعات والأحداث والتواريخ، وربما كان المبدع الحقيقي هو الذي يجعل مسبره اللامرئي يحفر بدون صوت ولا ضجة، يحفر برقة نحات يحتّ في الصلصال بروية كي لا تتداعى كامل الكتلة إن هو أسرف في إظهار صلابته»!!
الرواية والسياسية
وعلى الرغم من ذلك لا بد أن نستعيد ما يقال عادة من أن «الرواية السورية تبدو وكأنها تميل أكثر إلى السياسي» حول هذه المقولة ترى روزا أنه ربما تكون كذلك، وتضيف: «ولكنه السياسي المتخلّص من أعباء المجموع (الجمعية)، أي السياسي برؤاه الفردانية الذي يتكاثف بتأثيراته على الإنسان والمجتمعات وحركة التاريخ وأحداثه، وليس بمعناه التنظيري بالتأكيد. وإذا اتفقنا أن ليس المهم ماذا تكتب ولكن المهم كيف تكتب، فسنرى أن هناك هماً سياسياً ما في أعمال كبار الروائيين العالمين، يوسا أو كوتزي أو كونديرا وغيرهم وكذا الروائيون الشباب في معظمهم. البوكر الإنكليزية مثلاً ولثلاث سنوات متتالية أعطت الجائزة لروايات مغرقة في السياسي، ونوبل أعطيت خلال سنوات متتالية إلى روائيين لديهم هواجس سياسية واضحة من باموق إلى نايبول إلى غيرهما. ولكن هل هي روايات مناشير أو تقارير حزبية، لا بالطبع. أعتقد أن سورية كانت بحاجة إلى إماطة اللثام إبداعياً عن كثير من المناطق المظلمة في تاريخها وحاضرها، ولا ننسى أن روائيي الستينيات بدأوا بكتابة الرواية السياسية منذ هاني الراهب ونبيل سليمان وحتى روائيي الثمانينيات والتسعينيات كفواز حداد وممدوح عزام، وكل تجربة رأت إلى السياسي من منظورها الخاص الذي وقع في كثير من الأحيان في مطبات إيديولوجية ثم راح يتخلص من إيديولوجياته شيئاً فشيئاً. الجيل الجديد الذي هو امتداد، شاء أم أبى، لمسيرة الرواية كمنجز إبداعي تراكمي يحاول أن يكتب السياسي اليوم من منظور أعتقده مختلفاً قليلاً، ولنقل إنه يكتب السياسي من منظور جيل كانت لدية سمات خاصة به أحاطت نشأته السياسية تاريخياً وإيديولوجياً، وجعلته يقتنع، بطريقة ما، أن الشيء يحمل نقيضه في داخله، وأن المسلّمات ليست مسلّمات، وأن الحقيقة متنوعة الوجوه، وربما هذا ما يميزه قليلاً عن الأجيال الروائية الأخرى».
روزا ياسين حسن، هي اليوم واحدة من الروائيات اللواتي يشكلن المشهد الجديد في الرواية السورية، ومن هنا ثمة ملاحظة لا بد أن تلفت انتباهنا، في كون أن من ينظر اليوم إلى الجيل الروائي الجديد في سوريا، لا بد أن يلاحظ الحضور الكبير للروائيات فيه. وهي تفسر هذا الأمر بالتالي: «أعتقد أنه أمر طبيعي كصيرورة إبداعية تاريخية أن تكثر الأقلام النسائية. كان هناك يوم سيأتي وتتشبث النساء بالقلم ليكتبن خارجاً عن السطوة، ليكشفن للعالم شكله بأعين نسائية. ودعني أقول إن كثرة عدد المبدعات من النساء اليوم هو ما جعل الأنظار تلتفت إليهن وليس قلة عدد المبدعين الرجال، وربما وصل ذلك إلى ذروته لجهة أن الوقت قد آن كي تكتب النساء بعد أطوار طويلة من الصمت الذي فرض عليهن. وقد أتى هذا اليوم قبلاً على بعض الآداب الأوروبية بحكم أسبقيتها في التاريخ الإبداعي الحديث. فبين العام 1860 والعام 1940 كتبت 400 رواية نسائية إنكليزية بقلم 300 روائية، هذا ما جعل النقاد الإنكليز يلتفتون إلى هذه الظاهرة المهمة ومن ثم يخترعون مصطلح: الكتابة النسائية».
«حراس الهواء»، رواية مفاجئة على أكثر من صعيد. رواية، تفسح مكانا لكاتبة حقيقية، لا بد أن تجعلنا ننتظر إصداراتها اللاحقة.
السفير