ما يحدث في لبنان

من «الطائف» إلى «الدوحة» مـع أفضـل الاستنـتـاجـات!

null
سعد الله مزرعاني

يكاد التوثب أو التوجس، يختصر اليوم، ما يراود فريقي الموالاة والمعارضة في حوار «الدوحة» الدائر في العاصمة القطرية. يحصل ذلك وسط صراع إقليمي ودولي ضار على مصائر المنطقة وثرواتها، وحيث يشكل لبنان الساحة الأكثر توتراً بعد الساحة العراقية (فلسطين جرح يزداد، أيضاً، نزفاً، قبل غزو العراق، وخصوصاً بعد ذلك الغزو). وتغذي التطورات الأخيرة محاولات نخشى، في الواقع، أن يكون طابعها الوحيد او الأساسي، إحداث تعديل او تبديل في التوازنات الطائفية، أي في حجم ونسب المحاصصة الطائفية والمذهبية التي تشكل «فرادة» النظام السياسي اللبناني!

يدور الحديث الآن، عن صيغة «الطائف». تطلق التحذيرات من المساس بها صوناً للتوازن «الوطني»، أو تطلق التطمينات بالحفاظ عليها، إذا ما تمّ احترام بعض العناوين السياسية والأمنية.

العجيب والمفجع، أن يجانب النقاش الدائر في البلاد، التوصيف الصحيح والفعلي، للأزمة المتمادية التي تعصف راهناً بلبنان الى درجة تهديد كل مقوماته ووجوده. لا نسمع شيئاً عن تلازم أزمة لبنان مع أزمة نظامه السياسي، وعجز هذا النظام عن أن يكون الإطار المناسب لعلاقات اللبنانيين في ما بينهم، وكذلك، والى حد كبير، لعلاقاتهم مع الخارج.

النقاش حول أزمة نظامنا السياسي، وبالتداعي حول أزمة سيادتنا واستقرارنا المهددين من الداخل ومن الخارج (!)، يدور في حلقة مفرغة لأنها لا تتجاوز الموقت في «الطائف». فلنعد الى «الطائف»!

الطائف في بنود مركزية فيه، قد تحول لدستور. وفي هذا الدستور (وهو القانون الأساسي أي قانون كل القوانين أليس كذلك؟!) بنود جوهريه قد جرى إهمالها عن قصد وعمد، ومن قبل كل الأطراف الداخليين الأساسيين، من دون استثناء. حصل ذلك في مرحلة الإدارة السورية للبلاد. ويحصل الآن في مرحلة الوصاية الأميركية المفروضة عليها: طوعاً او كرهاً!

لقد تعرض دستور لبنان لأكبر عملية انتهاك، شكلت، بين أمور جوهرية أخرى، وفي فترات متلاحقة منذ التسعينيات الى اليوم، جوهر الانقلاب على الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية عام .1989 لقد صاغ دستورنا، إصلاحات «الطائف» في مرحلتين: مرحلة المناصفة الطائفية، ومرحلة الإلغاء الكامل للطائفية السياسية. وبدءاً من مقدمة الدستور التي نصت على أن «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية»، تولت المواد 22 و24 و95 وضع هذه الخطة والمهل والآليات، بما يتناول حتى التفاصيل!

وفي نطاق ذلك، استدرك دستورنا ما للعوامل والهواجس الطائفية من تأثير، فأحالها الى «مجلس شيوخ» ينشأ لهذا الغرض، و«تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية» (المادة 22 من الدستور).

أما في التطبيق، فقد جرى اقتصار واختصار وتشويه الاصلاح، باعتماد الموقت وإسقاط الدائم، في دستورنا. ونجم عن ذلك حرمان اللبنانيين من اختبار نظام مساواة بديلاً لنظام الامتيازات الفائضة أو المنقوصة. ونجم من ذلك أيضاً، تلك الفوضى التي تسود الحياة السياسية، وذلك التضارب في مسائل الديموقراطية، بين ما هو فيها «توافقي»، وما هو بسيط يعتمد الأكثرية. والأخطر أن هذا الأمر قد شكل وجهاً من نزاع سياسي وأهلي متفاعل مع نزاع إقليمي غير مسبوق، استعر خصوصاً منذ الغزو الأميركي للعراق.

وفي مجرى هذا النزاع اتضح، من دون لبس، أن نظام لبنان في تطبيقه المتعسف الراهن خصوصاً، يحرم اللبنانيين من أن تكون مؤسساتهم ذات طبيعة مرجعية لاحتواء الأزمات، ومن ثم لحلها، في نطاق المصالح الوطنية. وفي امتداد سلبيات متمادية ومتفاقمة، برز هذا الخلل القاتل بعد الانسحاب السوري من لبنان. فهذا الانسحاب كان يمكن بالفعل أن يتحول لمحطة استقلالية ثانية، لو جرى تطبيق البنود الاصلاحية في دستورنا، بما يؤمن المساواة بين اللبنانيين، وبما يحول المؤسسات اللبنانية الى هيئات مرجعية فعلية للقرار السيادي اللبناني، على حساب دويلات الداخل وتدخلات الخارج.

إن «القوة القاهرة» التي تشكل في كل كيان سياسي عنصر بقائه واستمراره واستقراره، خصوصاً من خلال قدرتها على الحسم في وقت الأزمات، لن تتأمن في لبنان، إلا من خلال المساواة الكاملة والمؤسسات الفاعلة. هذه هي الحقيقة الكبرى التي من دونها، سنبقى نتداول الأرجحية والغلبة، ونستهلك معها ما تبقى من سيادتنا وعافية بلدنا، الى أن تقرر القوى الخارجية لنا أمراً لن يكون مأمولاً!

إنها مفارقة كارثية في بلد حقق شعبه أعظم الانجازات في حقول المقاومة والتحرير والديموقراطية والانفتاح و…، ووقف ووقفت قواه الحية عاجزة، حتى الآن، عن بلوغ الحد الأدنى من شروط الحصانة والسيادة والاستقرار!

لن تكون «الدوحة» المحطة الأخيرة في صراع مثقل بكل انواع النزاعات المحلية والخارجية. والمطلوب، بالأولوية، إزاحة كابوس الاقتتال الأهلي الجاثم على صدور اللبنانيين. إلا ان ذلك سيبقى ترقيعاً عاجزاً ما لم يقترن بوضع الإصبع على الجرح في مسائل أبرزها: ضرورة الاصلاح أي تصحيح العلاقات اللبنانية ـ اللبنانية وإقامتها على أساس المساواة «بدءاً بقانون نسبي للانتخابات»، وهو في صلب دستورنا! وضرورة تصحيح العلاقات اللبنانية ـ السورية، وهي في صلب مستلزمات سيادتنا واستقرارنا، وبناء عناصر وحدتنا وحصانتنا وموقعنا الطبيعي ضد الغزاة والمستعمرين، وهو في صلب مصالح شعبنا، وتثميراً طبيعياً لإنجازاته المنتصرة والمدهشة و… المهددة بالضياع!

([) نائب الامين العام للحزب الشيوعي اللبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى