ايران: ‘ثورة’ التصحيح.. قبل فوات الأوان؟
مطاع صفدي
لا يمكن عزل الأحداث الإيرانية الداخلية عن مجمل ما يحدث للمشروع الأمريكي الصهيوني من تحولات استراتيجية، تتعلق بمصيره في المنطقة، مثلما ستكون له تداعياته الإقليمية المختلفة. فالآمال الغربية والإسرائيلية معقودة بصورة عامة على إمكانية تغيير الدور المركزي الذي راحت تلعبه إيران منذ سقوط بغداد، في دعم الجبهات المقاومة المفتوحة، والممتدة من البحيرة المتوسطية إلى العمق الإسلامي الآسيوي. لا ننسى أن العنوان الأكبر والأشمل لصراع الغرب والشرق لا يزال مدموغاً باسم الإسلام. وإذا كان ثمة كيان دولاني مهم وصامد لتجربة الإسلام السياسي في صميم هذه المواجهة الشرسة المتفاقمة، فهو إيران. هذا التقدير يسيطر على الحس الغربي، وقد يبلغ ذروة الشعور بخطره لدى الصهيونية العالمية الراعية لوجود إسرائيل باعتبارها القلعة المتقدمة في أرض العرب والإسلام. الأوبامايا هذه الرئاسة الأمريكية المختلفة حقاً، أو المصممة على الاختلاف ليس عن الرئاسة البوشية السابقة وحدها، بل ربما عن معظم رجال البيت الأبيض، تريد أن تذهب إلى جذر الأعطال في سياسة الإمبراطورية الخارجية التي تعتبرها المسببة الأصلية للكارثة المالية الاقتصادية الراهنة. والساحة المتميزة بهذه الأعطال خاصة هي جغرافية الصراع مع العرب والإسلام، ومحورُها المحرك هي قضية فلسطين. فالرهان الأعظم لنجاح الأوبامايا أو فشلها إنما يدور حول نجوع الحلول الجديدة المتصورة لهذه القضية أو الانتهاء بها إلى المزيد من التعقيد وتراكم الأخطار إلى درجة خروجها عن أية سيطرة، ولو كانت القوة الأعظم المتبقية لأمريكا.
لا بد من استحضار هذا الإطار المفهومي الذي سيتحكّم في مجريات الصراع في المنطقة وعليها. ولعل العقل الصهيوني كان هو السّباق في التنبؤ بما سيترتب على التغيير الأمريكي، فاندفع إلى تحصين جبهاته المتنوعة. بدءاً من كواليس السياسة في واشنطن مع استنفار كل مؤسسات الضغط ووسائلها المشروعة وغيرها، إلى تشكيل أعتى وزارة يمينية عنصرية في تاريخ إسرائيل. ذلك أن رياح التغيير سوف تطيح ربما بجوهر علاقة إسرائيل التقليدية بحاميتها المطلقة أمريكا. فالغرب عازم على إنشاء الدولة الفلسطينية بذات قوة العزم التي استخدمها لإنشاء دولة إسرائيل نفسها قبل واحد ستين عاماً. وفي المخيال الصهيوني تلك هي الكارثة الحقيقية. ما يعني أن قيام إسرائيل لم يمح فلسطين من الخارطة الإنسانية والتاريخية. فما أن تشرع الضحية في استعادة كيانها، حتى يبدأ كيان الجلاد بالاهتراء الذاتي. ذلك هو قانون الطبيعة والتاريخ قبل أن يكون مجرد قرارات سياسية لهذه الدولة أو تلك. صدمة الغرب، تحت وطأة الكارثة الاقتصادية غير المسبوقة هي التي تجبره على مواجهة أصول أخطائه. فلا مهرب من الحلول القصوى التي طالما تجاهلها في عصره الذهبي الآفل.
إذا تأملنا عمق النقاش الدائر حالياً بين أوباما ونتانياهو حول أولوية الاهتمام في خط التغيير الأمريكي، هل هي فلسطين أم إيران. هل هي الدولة الفلسطينية الحقيقية أم التصدي لإيران النووية، فقد كان الرئيس الأمريكي متمسكاً بمفتاح استراتيجيته من مدخل التصالح مع الاسلام، وانطلاقاً من إنشاء الدولة الفلسطينية، نقول إن هذا النقاش لم يكن مرشحاً لتعديل ما في الإرادة الأمريكية.. لولا انفجار الشارع الإيراني المفاجئ. ومع ذلك فلن يكون ثمة تعديل، وربما نوع من عرقلة المشيئة وتأخير التنفيذ في برنامج الحوار المرتقب مع القيادة الإيرانية الذي تكرهه إسرائيل ويخيف أرباب الصهاينة في أمريكا وأوروبا. فهل يُمكن أن يُفهم التدخل الأجنبي في أحداث طهران، من خلال هذا السياق المتأزم، كما لو أن الثورة المضادة المعدة أجنبياً قد انتهزت حركات الشارع المعترضة على (التزوير)، لتعمل على النيل تصاعدياً من شرعية الرئاسة الثانية، فتضعف من أهليتها في تمثيل وحدة بلادها خلال المفاوضات المنتظرة. لعل الانشغال العالمي، والأمريكي خاصة بتطورات الحدث الإيراني مع اشتداد المراهنة على انقسام القيادة والمجتمع في وقت واحد، ومضاعفات كل ذلك محلياً وإقليمياً.. هذا الانشغال عينه سيحرم فلسطين من دور الأولوية الاستراتيجية الأمريكية ويركنها في المرتبة الثانية أو حتى في هامش الاهتمام الدولي كذلك، كما تتمناه إسرائيل.
ليست تلك أماني صهيونية فحسب، حول انتقال إيران من صورة الكيان الدولاني المتماسك شعباً وقيادة، إلى صورة البلد المهدد بكل بوادر الانقسامات الأهلوية التي تكابدها من حوله أقطارٌ عربية وإسلامية من غربه وشرقه. كذلك من المؤسف أن طائفة ما يُسمى بالنظام العربي المعتدل لا تعفي نفسها من المشاركة في هذه الرهانات البائسة العابثة. فانهيار النظام الإيراني لا يعني سوى افتقار فلسطين لآخر قوة إسناد حقيقية متمثلة في دولة كبرى، تشغل العمق الاستراتيجي للمشرق العربي، هذا على الرغم من مختلف الهواجس السلبية التي تثيرها ثقافة تصدير الثورة ،ومعها المذهبية لدى أنظمة الحكم المجاورة، وحتى البعيدة عن إيران.
المفجع فعلاً في الوضع العربي الرسمي أن بعض أصحابه الكبار قد اتخذوا لذاتهم حرفة التبشير الوقح بانتهاء عصر النهضة العربية الصامدة المقاومة، كما لو أن هذا العصر قد انقضى أجله إلى غير رجعة، ما أن أزمع هؤلاء على الاستقالة المزرية من أبسط مهمات القيام ببعض أعبائه. لقد جعلوا من أنفسهم أفضل حراس على حالة انفراغ السياسة العربية من أية أدوار جامعة لشتات شعوبها، وكانت عاملة على استنهاض قواها الحضارية والدفاعية وراء أهداف الكرامة والحرية التي تشرّف الدولَ السيادية عادةً وتمنحها أمكنتها التاريخية المستحقة لها. ما انتهت إليه فلسفة الاعتدال العربي هو منح إسرائيل قيامة ثانية، بعد انكسار شوكتها العسكرية كعلامة حاسمة على انطفاء شعلة المشروع الصهيوني في مغارته المظلمة، التي وُلد وعاش في متاهاتها ولن يكتب له الخروج منها أبداً، بعد انهيار أسطورة التفوق بالقوة المطلقة.
المعنى الاستراتيجي الجديد لما يُسمى بمبادرة السلام العربية، هو أنها أمست مجرد تطوع غبي متخاذل، يرمي إلى مسح ثمرات التحول البنيوي الذي أحدثته نجاحات تمارين القوة الشعبية في مجال تبديد أسطورة التفوق للجيش العبري. إنها موجة الانكارية العربية التي ترفض الاعتراف بأية انتصارات لبعض قواها الشعبية المكافحة، حتى لا تُجبر أو تُضطر للبناء عليها، لإحداث القطيعة مع تاريخ التهرب من المسؤوليات التاريخية والإنسانية التي اعتادت تزويرها باصطناع مظاهر الضعف والعجز والتسليم بأمر واقع انحطاطي، ورثته وحنّطته، ثم وقفت حارسةً على قبوره. أليس من أتعس انقلابات المصائر الجماعية أن تستبسل الضحايا في إعادة إحياء جلاديها كلما أصابهم الوهن والتعثر في تأدية (واجبات) العسف والطغيان. ومع ذلك، فإن أفراح الإنكاريين العرب لحق شعوبهم بالحرية والكرامة، لن تكتمل بانفجار ثورة مضادة لثورة 1979 في إيران. هذا لا يعني أن دولة الثورة الدينية الموظفة لخدمة التحرر السياسي السيادي من سلطة الغرب، سوف تعاند تطورها المحتوم نحو اكتمال التجربة بالتحرر المدني الاجتماعي داخلياً.
الغضب الشعبي والمعبر عنه خاصة بالفوران الشبابي والثقافي معاً، ومقابله هذا القمع الذي تمارسه عادة كل سلطة حاكمة، ومغلَّفة بهالات القداسة وإشاراتها تحديداً، قد يرمزان إلى حيوية النضج التغييري الذي بلغته التجربة الإيرانية الفريدة. فالتحدي الرئيسي في هذا المنعطف هو في قدرة النضج (الثوري) على إنتاج براهين نجوعه فيما سيبتكره عقلاء القوم من صيغ الاعتراف المتبادل ما بين الثورة والسياسة، وذلك بتوسط القداسة وليس لحساب أحاديتها أو تعاليها. فالمأزق الأخطر هو في انفلات ثنائية الغضب والقمع أي: هذا الفوران الشبابي الاجتماعي من جهة، وانحراف السلطة إلى التسلط الأعمى كغاية في ذاته، من جهة أخرى. هذا الاحتمال الأسوأ هو رهان العقلية الغربية التقليدية المتدخلة في الحدث الإيراني؛ فهي تترقّب المزيد من عسكرة النظام وانغلاقه على مصالح رموزه الشخصية، ومن ثم الإطاحة ببقية (الديمقراطية الإسلامية). ما يعيد إلى البلاد مشهدية حكم أوتوقراطي شاهنشاهي تحت غلالة إسلاموية مذهبية، فضفاضة.
عواصف الإعلام الغربوي تدفع في هذا الاتجاه المشؤوم. تبني على احتمالاته الأمل الأسود بانقلاب صورة المشرق كله رأساً على عقب. تنتزع الصهيونية حق الأولوية من جديد لنظريتها في الانشغال اليومي بالحدث الإيراني المتفاقم عنفاً شارعياً، أو سياسةً فوقيةً، ومن ثم، لعلّه ينفكّ عن عُنقها مأزُق القول نعم! للطروحات الأوباماوية، بدءاً من التسليم لها بوقف الاستيطان إلى إقصاء شبح الدولة الفلسطينية. فلا يشك أحد في فداحة المفاجأة الإيرانية، في توقيتها المداهم لأول ساعة تغيير جدي عبرت زمن النكبة الفلسطينية المستديمة. إذ بعد أن حوصر نتنياهو في عنق الزجاجة، واتحد مصطلح الرأي العام الدولي في جبهة واحدة وراء أوباما في أمر المستوطنات ووقفها ومنع أسطورة نموها الطبيعي، ينفجر الشارع الإيراني ضد التجديد لرئيسه بحجة التزوير. شكلت المفاجأة بؤرة الاهتمام الإعلامي الغربي،المتحفز ابداً لالتقاط(عيوب)عدوه و استثمارها الى أقصى أضرارها. فحاولت الدوائر الخلفية كعادتها في كل حدث من هذا النوع أن تضاعف من حجم مؤثراته التهويلية. هكذا وضعت النظام الإيراني دفعة واحدة في مهب رياح الزوال، ولو بأساليب التشبيح و التوهيم الكلامي. فالأزمة لها جذورها المتفاقمة بهدوء في بنية الهرم الدولاني للثورة الإسلامية، ولأن عباءة القداسة الدينية المزدوجة بالقداسة الثورية، تلفّ جسد النظام والمجتمع معاً، فأية هفوة أو خطأ إداري ترتكبه أجهزة السلطة في احتكاكها مع المجموع الغُفْل من المجتمع يمكنه أن يفجر أحداثاً غير محسوبة، من مثل تلك المشاهد الصدامية الدامية التي احتلت شاشات الغرب. ههنا تُستعاد ثنائية الغضب الجماهيري والقمع السلطوي، لتحتل مرتبة التأثير الحاسم في أية قرارات سياسية عليا. فما يأمله الغرب على الأقل هو إضعاف مؤسسة القيادة في شكل أدائها الخارجي، خاصة خلال المفاوضات القادمة.
لكن استيعاب أجهزة الأمن لـ (فوضى) الشارع جاء هو كذلك حاسماً قاطعاً وإن كان متأخراً بعض الشيء. هذا لا يعني داخلياً أن انقسامات شيوخ الثورة لن تتابع تفاعلاتها، وإنْ عبر قنوات الدولة العليا الواقعة تحت طائلة المؤسسة الدينية المذهبية وقواعدها الصارمة. يبقى مع ذلك السؤال الكبير حول مدى انضباط المجتمع بحسب إيقاع تحولات سلطاته الفوقية أم وفق محركات بُناه الأهلية والمدنية التي أعطت أمثلتها الوافية خلال هبة التمرد الماضية، فقد لا تكون طارئة عابرة أو غير قابلة للتكرار في المستقبل.
متى يمكن لأية ثورة أمةٍ كبرى أن تراجع مسيرتها، تقرّ بأخطائها، ومن دون أن تدمر نفسها، ذلك الشرط الكينوني الرهيب الذي تساقطت أعظم ثورات التاريخ المعاصر تحت طائلة العجز عن تداركه قبل فوات الأوان.. وغالباً.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي