صبحي حديديصفحات العالم

حروب أوباما العادلة

صبحي حديدي
أياً كانت طبيعة اللوذعة اللفظية ـ البارعة أم الفاشلة، المموّهة أم المكشوفة، المبطّنة أم المباشرة… ـ التي اكتنفت خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما وهو يتسلّم جائزة نوبل للسلام، فإنّ قصارى قولها ينتهي إلى خلاصات أبسط، مثل هذه مثلاً: الحرب ضرورية من أجل السلام، وثمة حروب عادلة من الطراز الذي تخوضه بلدي في أفغانستان وفي العراق؛ وإني، وإنْ شاركت أمثال نلسون مانديلا ومارتن لوثر كنغ وآنغ سان سو كي في حمل جائزتكم الرفيعة، لآتٍ بالسلام عن طريق الحرب وحدها، حتى إشعار آخر؛ وما كنتم ستمنحوني الجائزة هذه لولا أنني رئيس القوّة الكونية الأعظم، القائد الأعلى لجيوشها الجرّارة التي تنتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وآمِر حربها وسلامها…
صحيح أنه أتى على ذكر المهاتما غاندي (وكأنه يذكّر الأكاديمية النروجية بآخرين استحقوا ويستحقون الجائزة أكثر من الجميع ربما، لكنها لم تُمنح لهم)؛ وأشار إلى سلفه وودرو ولسون، حامل الجائزة لسنة 1919، وقائد جيوش الأمّة ذاتها في الحرب الكونية الأولى. الأرجح، في المقابل، أنّ غالبية المنصتين إلى خطابه تذكّروا زملاء له في الجائزة، من أهل الحرب أو أهل النفاق أو أهل الإستسلام، ولكن ليس السلام: من هنري كيسنجر وإيلي فيزل ومناحيم بيغين، إلى ثيودور روزفلت وليش فاليسا وأنور السادات. وعلى نحو أو آخر، وفي وجهة النظر التي ساقها حول مفهوم ‘الحرب العادلة’ تحديداً، بدا أوباما وكأنه نسخة/ مسخ عن الغالبية الساحقة من أسلافه الذين لعبوا على معاني المفهوم إياه، ما خلا أنّ البلاغة عدّلت الصياغات القديمة، وأعادت إنتاج أقنعتها العقلية والمنطقية المكرورة.
‘هذه الحرب عادلة’، أعلن جورج بوش الأب حين كانت القاذفات والصواريخ الذكية لا تُبقي حجراً على حجر في بغداد، وبعد أن جرّب البنتاغون ‘أرقى’ أسلحته التدميرية في ملجأ العامرية المدني. وثمة حروب عادلة، حسب التعاليم التي أقرّتها مجامع كاثوليكية في الولايات المتحدة، كما في الرسالة التي صدرت سنة 1983 بعنوان ‘تحدّي السلام: وعد الله واستجابتنا’؛ وثمة لائحة شروط مطلوبة لكي تصبح الحرب عادلة، على رأسها أن يكون ‘الخير’ الذي تستولده أكبر بكثير من ‘الشرّ’ الذي تستأصله؛ ومعظم تلك الشروط تذرّع بها أباطرة وغزاة وفاتحون من شتى العقائد والمشارب.
والحال أنّ نظرية ‘الحرب العادلة’ يمكن أن تصبح مادّة للنقاش المشروع، في أيّ محفل فلسفي أو ديني أو أكاديمي أو سياسي أو عسكري؛ وأن تتصارع الحجج والحجج المضادة التي يسوقها فلاسفة أو ساسة أو مبشّرون أو محاربون، وأن يبدأ السجال من الخطيب الروماني شيشرو، ويمرّ بالقديس أوغسطين، ويعرّج على الفيلسوف جون ستوارت ميل، دون أن ينتهي عند معاصرنا المعلّق الأمريكي أنتوني لويس… ولكن، هل تَصْلُح النظرية، وسجالاتها، ورقة توت تغطّي هذه العورة تحديداً: جائزة سلام كبرى، تذهب إلى قائد أمّة تخوض حربَيْن، يجيء لاستلام الجائزة وقد أرسل لتوّه 30 ألف مقاتل جديد إلى أتون القتال؟
لعلّها لا تصلح في بلد، أو ثقافة، كما تصلح في أمريكا، الأمّة القادرة على أن تكون ديمقراطية عصرية مصنّعة متقدّمة علمانية (بمعنى فصل الدين عن الدولة، على الأقلّ)، وأن تظلّ في الآن ذاته محافظة قَدَرية سلفية متديّنة. وأقرّ بأنني لم أعد مؤمناً بكفاية علوم النفس أو الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد أو التاريخ للوقوف على أسباب هذا الإنشطار بين أقصيَيْ الحداثة والسلفية، وأجدني أذهب إلى أنثروبولوجي أمريكي مجرّب ومكين وغير تقليدي هو فنسنت كرابانزانو، وإلى كتابه الممتاز ‘خدمة الكلمة: النزعة الحرفية في أمريكا، من منبر الوعظ إلى منصّة القضاء’، بحثاً عن بعض إجابة.
مقولة الكتاب الأساسية تسير هكذا: هذه أمّة تحمل التوراة بيد، والدستور بيد أخرى؛ وحين تطبّق حرفياً موادّ القانون الذي وضعه البشر (الدستور)، فإنها إنما تفعل ذلك ضمن حال من الخضوع المذهل للنصّ الذي وضعه الربّ (التوراة) من جهة أولى، وللتأويل الميتافيزيقي لمعظم الظواهر الدنيوية من جهة ثانية. وهكذا فإنّ منبر الوعظ يمكن أن يغادر الكنيسة لكي يستقرّ على منصّة القاضي في المحكمة، وليس غريباً أن يقول أحد قضاة المحكمة العليا (أي تلك التي لا يعلو على رأيها رأي قانوني أو تشريعي) إنّ موادّ الدستور الأمريكي هي ‘إلهام من الربّ’!
لكنّ الأنثروبولوجيا الميدانية ليست وحدها محطّ اهتمام كرابانزانو في تنقيبه عن الجذور الدينية الأصولية لظواهر ومظاهر نزعة التأويل الحرفي، لأنه أيضاً يلجأ إلى التحليل اللغوي والنصّي الثاقب لعدد من الأعمال التي تفسّر الدنيا بالدين، وتحيل موادّ الدستور الأمريكي إلى إصحاحات وأعداد خارجة مباشرة من أسفار الكتاب المقدّس. وإذْ يُخضع المرء خطاب أوباما في أوسلو إلى تفكيك جذري، يشمل المفردة والمجاز والمغزى، فإنّ الصوت الذي يطغى في نهاية المطاف هو ذاك الناطق بضمير محارب واعظ متديّن، متعصّب لحروب أمّته، لا يرى في عنفها المتكرر ضدّ الأمم أيّ ضرر أخلاقي، بل يعتبره عادلاً، ولا يُصنع سلام دون اللجوء إليه.
وبدل القول إنّ أوباما ليس رجل سلام بل رئيس حرب، يصحّ القول إنه… محض رئيس أمريكي نموذجي، وكفى!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى