صفحات مختارة

نحن أمة نجيد الانحطاط

الدكتور منذر خدام
لما اجتمعت لأمة من الأمم عناصر ومقومات النهوض والتقدم والازدهار مثلما اجتمعت للأمة العربية مجتمعة أو لكثير من دولها منفردة، مع ذلك فهي تتخلف وتستمر بالتخلف وكأنها لا تجيد إلا التخلف. يتوجه الحديث هنا إلى عناصر التقدم الأربع : الأرض ورأس المال والسكان والإدارة.
بالنسبة للأرض فهي ليست فقط حاملة للثروات الباطنية ومنتجة للغذاء، بل هي فوق ذلك الموقع المتفاعل مع السكان المحليين ومع العابرين فوقها عبر التاريخ ليتشكل منها بالمحصلة تاريخ غني بالذكريات المحفزة على النهوض والتقدم. غير أن ما في أرضنا من ثروات ليس لنا، أولا نملك القدرة على استخدامه وتسخيره في سبيل نهوضنا وتقدمنا.لا ينصرف الحديث هنا على النفط فقط مع أنه لوحده يشكل أهم عنصر من عناصر التقدم والازدهار في هذه الأيام، أليس هو مصدر الطاقة الرئيسي في الحضارة الراهنة، وهو كاف لوحده لكي يحجز لنا موقعا محترما بين الأمم في حال امتلاك القرار باستخدامه وتوظيفه بما يخدم نهوضنا وتقدمنا. ولا ينصرف الحديث أيضا إلى غيره من الثروات الأحفورية الأخرى مثل خامات المعادن المختلفة الضرورية للصناعة، والإمكانيات الزراعية الكبيرة غير المستفاد منها، بل ينصرف إلى مسألتين مختلفتين تماما هما في غاية الأهمية لإحداث نهضة وتقدم في الوطن العربي: أعني بالأولى موقع الوطن العربي وأهميته الاستثنائية، كموقع وسط بين دول العالم وملتقى تفاعلات حضارية تاريخية كبرى. هذا ما كان عليه في الماضي وما هو عليه في الوقت الراهن وما يمكن أن يكون عليه في المستقبل.
غير أن الانتفاع من هذا الموقع مجير لصالح غيرنا في الغالب الأعم، منع علينا الاستفادة منه سواء بصورة مباشرة من خلال الاستعمار الذي جسم عليه لقرون من الزمن ولا يزال من خلال زرع الكيان الصهيوني في وسطه، أو بصورة غير مباشرة من خلال التحكم بالقرارات السياسية والاقتصادية الوطنية في مختلف الدول العربية، أو -وهذا شر البلية – عدم تقدير أهميته بصورة صائبة من قبل النخب الحاكمة. وإن ما في متناول أيدينا من ذكريات حضارية حولناها إلى كابوس حقيقي من خلال الدعوة إلى تبنيها بدلا من استلهامها، فالماضي لا يمكن استرجاعه إلا مهزلة، في حين يمكن استلهامه كقوة تحفيزية كبيرة على التقدم والازدهار.
تأتي أهمية موقع الوطن العربي أيضا من كونه منطقة تلاقي وعبور لمصالح دولية كبيرة تتنافس على الاستفادة منه لتعظيمها. فمن خلاله وعبر الممرات المائية فيه تمر نسبة كبيرة(حوالي 38%) من التجارة الدولية من الغرب باتجاه الشرق وبالعكس من الشرق باتجاه الغرب. ومن الممكن مضاعفة هذا الرقم تقريبا في حال تم ربط شواطئه الشرقية في سورية ولبنان بشبكة خطوط حديدية دولية وشبكة طرق سريعة عابرة للحدود نحو الشرق باتجاه إيران وباكستان والهند والصين.
الموقع مهم أيضا، وهو محط أنظار العديد من الدول والشركات للاستثمار فيه، من أجل إعادة تطوير صناعات تصديرية كثيرة وعلى رأسها صناعة الطاقة.
غير أن الموقع لا يعرض مزاياه النسبية بالنسبة للاستثمار من تلقاء ذاته بل لا بد من إعداده لذلك من خلال تطوير البنى التحتية الضرورية من موانئ وطرق ومطارات ومخازن وشبكات اتصالات وشبكات مالية ومصرفية متطورة..الخ. وفوق هذا وذاك تطوير ثقافة الاستقبال والتعامل مع الآخرين، وثقافة رعاية المصالح وإدارتها بطريقة تجذب المستثمرين ولا تنفرهم.
أعني بالثانية الثروات السياحية الهائلة الموجودة في الوطن العربي وكذلك ما يعد به من طاقة شمسية لا تنضب. بالنسبة للثروات السياحة فهي تشمل السياحة الثقافية والعلاجية والاستجمامية وغيرها، وهي ثروات غير مستفاد منها بصورة صحيحة. تكاد لا تخلو بقعة من بقاع الوطن العربي من أثر لحضارة قديمة، أو ذكريات عن أحداث وقعت فوقها، أو من إنجاز لعب ولا يزال يلعب دورا مستمرا في تطور الحضارة البشرية ككل. أضف إلى ذلك فإن على شواطئنا الممتدة، وفي ربوع جبالنا الجميلة وفي بوادينا الفريدة ثمة أمكنة للراحة والاستجمام على مدار العام.
غير أن تطوير السياحة كمنطلق لإحداث تراكم رأسمالي يشكل بدوره منطلقا لتقدم وازدهار المنطقة يتطلب تطوير بنية تحتية ملائمة من فنادق ومطاعم وملاهي..الخ، وكذلك تطوير ثقافة سياحية تحسن التعامل مع الوافدين بطريقة جاذبة لهم ولغيرهم من السياح بصورة مستمرة ومتنامية.
من جهة أخرى وفي ضوء أزمة الطاقة العالمية الآخذة بالتفاقم من جراء زيادة الطلب عليها وخصوصا على النفط، الذي بدوره كمورد أحفوري يسير باتجاه النضوب، فإن الطاقة الشمسية في الوطن العربي تعد بمورد متجدد للطاقة لا ينضب.
أما بالنسبة لرأس المال فهو فائض لغيرنا شحيح علينا، إنه قوة تقدم وازدهار لغيرنا، وعبء علينا من خلال ما يخلقه من وهم الثراء ودعة الحياة..الخ. إن حجم الأموال العربية في الخارج، الرسمية منها وغير الرسمية تصل إلى أرقام فلكية، نملك منها الأرقام فحسب في حين يملك غيرنا ما تنفع فيه من استثمار وتقدم. لقد كانت حصيلة خسارة العرب في الأشهر الأربعة الأخيرة من عام 2008 من جراء الأزمة المالية العالمية ما يزيد عن 2500مليار دولار، يمكن أن نتصور أثرها النهضوي الكبير لو استثمر نصفها في الاقتصاد الحقيقي في السودان أو سورية أو مصر أو في غيرها من البلدان العربية الأخرى. ورغم بلاغة الدرس الواجب تعلمه من هذه الأزمة لجهة تطوير العلاقات الاقتصادية العربية والاستثمار في الاقتصاد الحقيقي بما يخدم مصالح الأمة ككل ومصالح الدول المعنية، فإن من يملكون الأموال لا يزالون مستمرين بالنهج ذاته وكأن شيئا لم يحصل على الصعيد العالمي. ومما يسيل الدموع سخرية أن يطلب رئيس وزراء بريطانيا المساعدة المالية من الدول العربية النفطية لتخفيف حدة الأزمة المالية العالمية على الاقتصاديات الغربية فتستجيب حكومات هذه الدول، كما استجابت في الماضي دوما لإنقاذ حديقة حيوان أو مركز تعليمي أو بلدية ما في هذا البلد الأوربي أو ذاك، في الوقت الذي ينتشر فيه الفقر والجوع في العديد من الدول العربية غير النفطية. بالطبع لا أحد يطلب أن تتبرع هذه الدول بأموالها صدقة زكاة عن رؤوس أموالها للدول العربية الفقيرة بل الاستثمار فيها، أو في الحد الأدنى فتح بلدانها لعمالتها لتحل محل العمالة الأجنبية.
أما بالنسبة للسكان الذين يمثلون العنصر الأهم في أية عملية نهضوية، لأنهم العنصر الحي الوحيد بينها، وبصفته هذه فهو الذي يتفاعل مع العناصر الأخرى بكيفيات مختلفة، بعضها يصنع التقدم وبعضها الأخر يصنع الانحطاط. بالنسبة لنا -نحن العرب- وكما هو واضح على الأقل من خلال تجربة العقود الماضية أننا نصنع الانحطاط بدلا من التقدم، وهذا ينطبق علينا مجتمعين كأمة، كما ينطبق على الدول العربية بصفتها كيانات سياسية ” مستقلة “. إن من ينظر في تقارير التنافسية العالمية التي تصدر عن منتدى دافوس في سويسرا، أو في تقارير التنافسية العربية لسوف يندهش لمواقعنا المتخلفة جدا بين الأمم، بل سوف يندهش لسرعة تنميتنا للتخلف، لسرعة سيرنا باتجاه الانحطاط. لقد خرجنا من نطاق تصنيفنا كدول من العالم الثالث، إلى دول من العالم الرابع والخامس..الخ.
لقد تحول السكان العرب من كونهم قوة للتقدم ورافعة من روافعه إلى عبء عليه، فالمؤشرات النوعية تؤكد ذلك بصورة بليغة جداً. فإذا كان المواطن الأوربي يقرأ في السنة نحو 35 كتابا، ويقرأ الإسرائيلي نحو 40 كتابا، فإن كل 80 مواطنا عربيا يقرؤون كتابا واحدا في السنة. هذا يعني بكلام آخر أن ثقافة الأوربي تعادل ثقافة 2800 مواطنا عربيا، وان ثقافة إسرائيلي واحد تعادل ثقافة 3200 مواطنا عربيا.
وحسب إحصائيات اليونسكو في تقرير التنمية البشرية لعام 2003 أن الدول العربية مجتمعة أصدرت 6500 كتابا في عام 1991 في حين صدر في أمريكا الشمالية 102000 كتابا وفي أمريكا اللاتينية صدر 42000 كتابا. وان أكثر الكتب قراءة في الوطن العربي هي الكتب الدينية تليها كتب الطبخ ومن ثم كتب الأبراج. وفي مجال الترجمة احتلت الدول العربية زيل قائمة تقرير اليونسكو للتنمية البشرية، فهي لم تترجم مجتمعة أكثر من خمس ما تترجمه اليونان في سنة واحدة. وتبين أعداد الكتب المترجمة إلى العربية في ثمانينات القرن الماضي أنها لا تزيد عن 4.4 كتابا لكل مليون شخص، في حين يصل هذا الرقم إلى 920 كتابا في إسبانيا.
أضف إلى ذلك فإن مساهمة العرب مجتمعين في البحوث العلمية العالمية الأصيلة لا تصل إلى نحو 6% من مجمل هذه البحوث العلمية، في حين تتجاوز مساهمة إسرائيل لوحدها هذه النسبة. إن أمة من الجهلة والأميين لا تصنع تقدما بل تصنع الانحطاط والتخلف بجدارة.
أما بالنسبة للإدارة التي تمثل الجانب الفاعل في العناصر الأخرى، فهي التي تتولى تحديد كيفية تفاعلها واتجاه هذا التفاعل. والإدارة المقصودة هنا هي الإدارة الكلية للمجتمع وبالتحديد المستوى السياسي منها. في هذا المستوى يتخذ القرار بصناعة التقدم أو التخلف بوعي أو بغيره لا فرق. دور الفاعلين في هذا المستوى شبيه بدور قائد الأوركسترا بالنسبة لفريق العازفين،به يكون اللحن جميلا(التقدم)إذا تم تنفيذ الدور جيدا،أو يكون اللحن نشازا( الانحطاط) إذا كانت تأديته سيئة. ثمة مقولة فلسفية تحوز على مصداقية كبيرة مفادها: عندما يتقدم المجتمع أو يتخلف فابحث عن السبب في المستوى السياسي وتحديدا في طبيعة النخب السياسة الفاعلة فيه وطبيعة نظام الحكم.
كنا في كثير مما كتبناه في السابق قد سلطنا الضوء على دور الاستبداد في تخلفنا كعرب بصورة عامة، وكذلك حول دوره في تكوين شخصية الرعية كشخصية استبدادية حاملة للانحطاط، ومنع أية فرصة لها لكي تتحول إلى شخصية مواطنة، وبالتالي حاملة للتقدم. مفهوم المواطن والمواطنة وغيرها من المفاهيم المحايثة مثل مفهوم المجتمع المدني وغيره لا تتشكل إلا في ظروف الحرية والديمقراطية حيث يتحقق التقدم والازدهار.
الاستبداد إذا هو المسؤول الأول عن تخلفنا وانحطاطنا كأمة وكدول، والاستبداد العربي إذا صحت التسمية هو من نوع خاص ليس فقط لأنه يصادر الحياة السياسية لمصلحة الزعيم، بل ويصادر الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لمصلحة تأبيد سلطة الزعيم. وإذا احتاج الأمر فهو جاهز لكي ينعش ما في تاريخ المنطقة من مقدسات ليضفيها على زعامته. النظام الاستبدادي العربي يختلف كثيرا عن الأنظمة الدكتاتورية التي سادت في دول مختلفة في أوربا وأسيا وأمريكا اللاتينية، وحتى في دول أفريقيا جنوب الصحراء، في جانب جوهري على الأقل هو أن النظام الدكتاتوري لديه قوانين يعمل بموجبها، حريص على تطبيقها في الدولة والمجتمع حتى على حاشيته، وهو يهدف بصورة رئيسة إلى بناء الدولة القوية حتى ولو تقمص هذا الهدف صورة الزعيم. لذلك يندر أن نجد نظاما دكتاتوريا لم يترك إنجازات معينة في مجال الاقتصاد أو في مجال العلم والتكنولوجيا أو في مجال الثقافة بصورة عامة. هذا ما حصل في جميع الدول الاشتراكية السابقة وهذا ما يحصل في الصين أو في كورية الشمالية أو في كوبا، كما حصل في اندونيسيا وفي كورية الجنوبية وفي اليونان وفي اسبانيا..الخ. بطبيعة الحال الأنظمة الدكتاتورية لا تستطيع ولا تملك قوة استمرار صنع التقدم كما تفعل الأنظمة الديمقراطية لأن هذه الأخيرة تتميز بمرونة عالية وبإمكانية تصحيح مساراتها في حال الأزمة. أضف إلى ذلك فإن ما تتسبب به من أزمات هي من طبيعة الأزمات التطورية وليس الأزمات الكارثية التي تتسبب بها الأنظمة الدكتاتورية التي تؤدي في النهاية إلى سقوطها، أو في الحد الأدنى تجديد مستواها السياسي وخصوصا الفاعلين فيه.أضف إلى ذلك فإن هدف النظام الدكتاتوري هو دائما الدولة وقوتها ومنعتها، في حين هدف الأنظمة الديمقراطية هو إتاحة الفرصة لجميع المصالح الاجتماعية لكي تعبر عن ذاتها بحرية ومسؤولية في إطار القانون.
أما النظام الاستبدادي الذي تتفرد فيه المنطقة العربية بصورة خاصة، فليس له قانون سواه، إنه وقانونه سواء، وهو لا يهدف إلى تقوية الدولة بل إلى إضعافها لصالح تقوية السلطة وسلطة الزعيم فيها، وهو لا يهدف إلى تقوية المجتمع من خلال إتاحة الفرصة أمام مختلف فئاته لتعمل في سبيل مصالحها، حيث في استقصائها لمصالحها يتحقق التقدم كمحصلة، بل إلى إضعافه لصالح فئة الحاشية.
النظام الاستبدادي العربي ضعيف الحساسية بالزمن وما يجلبه معه من ضرورات التغيير، لذلك فهو يكرر ذاته باستمرار مع كل استبدال للزعيم بغيره، والاستبدال هذا غالبا ما يحصل من جراء الموت. ومما يدعو إلى السخرية أن الأنظمة الاستبدادية العربية تقرأ دائما هزائمها المتكررة انتصارات، وتقرا مؤشرات تخلف مجتمعاتها تقدما، وان ما قد يحصل لها من أزمات تحيلها دائما إلى فعل الخارج أو المتآمرين معه. لينهار البلد ليتخلف ليخرج من التاريخ المهم أن تبقى صورة الزعيم حاضرة دائما. هل نحتاج إلى أمثلة إلى شواهد، اعتقد كل مواطن عربي يستطيع أن يقدم أمثلة كثيرة على صدقية ما ذهبنا إليه.أليس ما به هو ذاته خير مثال؟!!!
كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى