معادلة فهم النص ثم إفهامه للآخرين
مراجعة: عفيف عثمان
تقرع العولمة وأدواتها أبواب العالم من دون استئذان وتشرعها على بعضها، وتؤدي الترجمة دور “الوسيط” في برج بابل اللغوي الجديد هذا. وقد تبدى لنا في السنوات المنصرمة وكأن العالم في ورشة تنشط في النقل من لغة الى أخرى في عملية مثاقفة حضارية وشكل من أشكال الحوار، وكان لأمة “اقرأ” حصتها المتواضعة بمبادرات كريمة من بعض الدول العربية وجهود المنظمة العربية للترجمة.
“التأويل سبيلاً الى الترجمة” أي فهم ما وراء الألفاظ وصولاً الى معنى منعتق من المادة اللغوية. فبالإستناد الى تجربة ميدانية عملية طويلة زمنياً في مدرستهما الفرنسية للترجمة (ESIT) تسعى الباحثتان الى إيجاد آلية يمكن تطبيقها على أي لغة وأي نص أو كلام يُنقل من لغة الى أخرى. والذي يبرز السؤال الأساس: ما الترجمة؟ أهي نقل للألفاظ من لغة الى أخرى أم ترجمة مُرسلة (message)(قصيدة أو رواية أو كتاباً مدرسياً أو طريقة أستعمال، محاضرة علمية أو براءة أختراع) وهو ما يذهب اليه الكتاب. فيميز بين اللغة (langue) أي نظام التعبير والتواصل الذي تتشاطره جماعة لغوية، وبين الكلام (langage) (غير المعنى الذي أراده سوسير) الذي يعبر عن الفكر والتواصل بين البشر، أما عن طريق الدلائل الصوتية (الخطاب) أو الدلائل الخطية( النص)، بحسب مترجمة الكتاب د.فايزة القاسم، الأستاذة في جامعة السوربون الجديدة وفي المدرسة العليا للتراجمة والمترجمين في باريس، فالترجمة تهتم أساساً بالكلام الغني بالمفاهيم، واذا نظرنا في هدف اللغة لوجدناه في المعنى، وهو نفسه موضوع الترجمة”.
لذا، فإن البحث في هذه الأخيرة عن النظائر اللغوية يبدو قاصراً، كونه لا يستلهم طريقة عمل الإنسان الذي يُدرك معنى(ما) ويعيد التعبير عنه بهدف التواصل. وعلى هذا النحو فإن على المترجم أن يفهم كلاماً وينقله بدوره معبراً بطريقة مفهومة. وتحدد الباحثتان درجتين من فهم القول اللغوي، المعرفة الوثيقة بالموضوع (المرشح للترجمة) ومعرفة اللغة، ويتوقف إدراك المعنى على التطابق بينهما، ويظهر لنا هنا دور المعارف المساعد عموماً في توضيح القصد:” المعنى إذاً، هو التقاء الصياغة اللغوية التي نراها على الورق والمعارف التي تتوافر لدينا عند القراءة”، وثمة أفق أيضاً لا يجب تخطيه يقف بنا عند مقصد المؤلف، أي الأمانة بإزاء ما يريد قوله. ووضعه في سياقه، اذ أن نزع أي كلمة منه تحيلها الى عدد من الدلالات” الإفتراضية” التي تبعدنا عن القصد المنشود أن يكون مفهوماً. والأمر لا يتحدد في عملية التحليل اللغوي أو “المرامزة” بل في الجهد التأويلي (الفهم والإستيعاب) أي في تمثيل حقيقة المدرك وفهمه. لذا، تقول الباحثتان بأن الترجمة غير ممكنة” إلا اذا كانت معارف المترجم تسمح للكلام أن يغدو فكراً، وللفكر أن يغدو كلاماً من جديد”، ما يحتم عليه عدم الركون” الى مقارنات لغويَة لا مكان لها على صعيد الكلام”.
ان السعي وراء الكلمات”مفردة”، والوصول أحياناً الى حد القول إنها ممتنعة على النقل الى لغة أخرى لا يؤشر الى إستعصاء الترجمة وانما” استحالة المرامزة”، اذ ليس للكلمات معنى مباشر فحسب، بل مدلول أيضاً. والمعادلة المطلوب تحقيقها هي فهم النص ومن ثم إفهامه للآخرين، وتبعاً للباحثة “لودورير” فإن “الأمانة للكلمة” هي العقبة الكأداء التي تواجه الترجمة. ولا تستوي هذه الأخيرة نمطاً واحداً، بل تتوزع على إحتمالات ثلاثة وفاقاً لخبرة الباحثتين: ترجمة مبرر الألفاظ وترجمة دلالة الأقوال أو الجمل وترجمة المعنى( ما تشير اليه الجمل الملفوظ بها في النصوص أو الخطابات). وكي تستقيم الحال، يجب اكتساب معرفة اللغات ومن ثم الشروع في تعليم الترجمة التي تقسم الى مراحل أربع: 1ـ العمل على ادراك معنى جزء من نص( ما تشير اليه الكلمات لا ما تدل عليه). 2ـ العمل على نقل الفكرة المحتواة في الفقرة الى اللغة الأم. 3ـ العمل على الرجوع الى النص ونقل جزء منه في كل تفاصيله. 4ـ العمل على مقارنة الأصل بالترجمة بما يفترض ذلك من تمحيص، وتصويب، وتصحيح، وإقامة معادلة كاملة بينهما بقدر الإمكان.
تؤكد “سيليسكوفيتش” وتكرر أن غائية الترجمة هي المعنى وليس القصد( كما وضعه أوستن في نظريته بشأن أفعال الكلام Actes du langages )، فهذا الأخير احتمالي وإفتراضي ومتعدد الوجه، وليس في وسع المترجم أن يتكهن تماماً بنيَة القول. وفي المحصلة، الكتاب عظيم الفائدة للعامليَن الألسنيين ولمدرسي الترجمة في بلادنا.
[ الكتاب: التأويل سبيلاً الى الترجمة
[ الكاتب: ماريان لودورير ودانيكا سيليسكوفيتش
[ ترجمة د. فايزة القاسم
[ الناشر: المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2009
المستقبل