القمة الروسية – الأميركية: أسباب وجيهة لقلق إيراني
مصطفى اللباد – القاهرة
نجح الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد والتيارات الداعمة له والقوات الأمنية في إنهاء التظاهرات بشوارع العاصمة طهران، مثلما استطاع الحصول على تغطية دستورية كاملة لنتيجة انتخابات الرئاسة العاشرة القاضية بفوزه على منافسه مير حسين موسوي، ولكن حدود قدرة الرئيس نجاد على تثبيت النتيجة تتوقف عند حدود إيران السياسية، حتى بافتراض أن الديناميات التي أطلقتها التظاهرات قد انتهت تماماً، وهو أمر مشكوك فيه.
ربما تكون النتيجة الأخطر لفوز أحمدي نجاد هي أن “صورة إيران” أو ما يطلق عليه Image في الخارج وبالتحديد في الولايات المتحدة قد تدهورت كثيراً بعد الانتخابات عما كانت عليه قبلها. ويرتب هذا التدهور في الصورة مفاعيل ضارة ليس فقط بالحوار الأميركي – الإيراني، ولكن قبل ذلك بقدرة أوباما على التمسك بالمفاوضات مع إيران على خلفية التغير في المزاج الأميركي حيال فكرة المفاوضات من أساسها. إذا كانت مؤسسة الرئاسة في إيران لا تصنع السياسة الخارجية بل مؤسسات أخرى مثل المرشد الأعلى ومجلس الأمن القومي، وهو أمر صحيح، إلا أن إعادة انتخاب أحمدي نجاد خلقت بالرغم من ذلك ديناميات جديدة في الشارع الإيراني وفي الرأي العام الأميركي يمكن خصوم إيران البناء عليها لفرض المزيد من الضغط.
عادت المؤسسات الصهيونية إلى صدارة المشهد من جديد بعد انزواء، محاولةً إعادة التنسيق الأميركي – الإسرائيلي في الملف النووي الإيراني إلى سابق عهده، بعدما عانت إسرائيل من عزلة كبيرة في هذا الصدد سواء بسبب انتفاء أية صدقية لإدعاءاتها بخصوص ملف إيران النووي أو بسبب النهج الانفتاحي للرئيس الأميركي الجديد على طهران. انتخاب المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي رئيساً لإيران كان سيشكل ضغطاً قوياً على تل أبيب ويمنعها من تسخين الأجواء ضد طهران، ويسهل في النهاية من مهمة أوباما في الانفتاح على إيران. ولا يخفى أن الانفتاح الأميركي على طهران في حال حدوثه سيتطلب أثماناً لقاء ذلك، وفي مقدم هذه الأثمان الاعتراف بالوضع المتميز لإيران في الترتيبات الإقليمية الجديدة، وهو ما سيخصم بالضرورة من رصيد تل أبيب الإستراتيجي. هنا بالضبط تحاول تل أبيب تظهير نتيجة الانتخابات الإيرانية الأخيرة لمصلحتها، وهي التي لا يهمها بالطبع لا الحراك الديموقراطي في إيران ولا ثنائية “إصلاحيين” و”محافظين” أو غير ذلك من ثنائيات لا تلمس الواقع الإيراني إلا على السطح.
وعلى خلاف الأصوات الزاعقة المنددة بما تسميه “الحرب الكونية” على الرئيس أحمدي نجاد “مرشح الفقراء”، فإن “انتصاره” في الانتخابات الرئاسية الأخيرة أراح اسرائيل وجعل المفاوضات التي تخشاها بين واشنطن وطهران أمراً صعباً، بل فتح الباب واسعاً أمام تل أبيب لكي تنفذ إلى معادلات السياسة الأميركية حيال إيران من جديد بعد العزلة التي عاشتها منذ انتخاب أوباما نهاية العام الماضي.
تتناثر الأقاويل مع تغير المزاج في واشنطن والغرب حيال إيران عن “سيناريو عقوبات” يتم التخطيط له سوياً بين تل أبيب وواشنطن، وصولاً إلى بعث فكرة الضربات العسكرية لمنشآت إيران النووية من رقادها. وبغض النظر عن دقة هذه الأقاويل، فالأرجح أن البيت الأبيض سيعيد تقويم أوراقه التفاوضية حيال إيران بعد الانتخابات الرئاسية وما جرى فيها، وهنا بالضبط تتم ترجمة الخسارة الإستراتيجية التي سببها “انتصار” الرئيس أحمدي نجاد.
وبالإضافة إلى ذلك إذا نجح أوباما في الوصول إلى صفقة ما مع القيادة الروسية حيال إيران، سيمكنه أن يضغط عليها أكثر فأكثر خصوصاً في ملفها النووي. وتتحكم المعادلة الطردية التالية في رد الفعل الإيراني: كلما خشيت إيران من توصل واشنطن وموسكو إلى صفقة بشأنها، كلما وسعت أميركا من هامش مناورتها حيال طهران، وهذه الجدلية بالتحديد حاول الرئيس الأميركي باراك أوباما فرضها في مفاوضاته مع القيادة الروسية خلال القمة الأميركية – الروسية التي انتهت أخيراً.
تشكل روسيا الغطاء الدولي لإيران في مواجهتها مع أميركا، فهي تقوم بثلاث مهمات أساسية للدفاع عن الملف النووي الإيراني، إذ هي أولاً تورّد مستلزمات مفاعل بوشهر النووي وتدرب الفنيين والمهندسين الإيرانيين على التقنيات النووية الروسية. وثانياً تقف موسكو بشكل تقليدي عائقاً أمام المقترحات الأميركية في مجلس الأمن لتشديد العقوبات على إيران، فتضغط عليها للهبوط بسقفها فاتحة الطريق أمام مقايضات مع واشنطن في ملفات أخرى. وثالثاً تهدد روسيا دورياً ببيع إيران تكنولوجيا عسكرية متطورة ومنها منظومة الدفاع الصاروخي من طراز إس-300، وهي التي ستجعل الهجوم الجوي على إيران أمراً صعباً.
ولكن روسيا لا تورّد هذا السلاح المتطور بالفعل إلى إيران بل تستخدمه لحفز واشنطن على التفاوض في قضايا أخرى. ومع توافر السياق يمكن أن تصبح المهمات الثلاث الأساسية التي تقوم بها روسيا أوراقاً ثلاثاً للمقايضة مع أميركا، إذا كانت الأخيرة راغبة في دفع الثمن المطلوب روسياً. في المقابل تخشى روسيا من أن تتحول بولندا إلى قلعة متقدمة في المواجهة الروسية – الاميركية وأن تزيد واشنطن من تدخلاتها في مناطق كانت تابعة للاتحاد السوفياتي سابقاً. وموقع بولندا الجغرافي يحبس روسيا عن الفضاء الأوروبي ويمنع اتصالها الجغرافي مع منطقة الأوراسيا الفائقة الأهمية في الصراع الكوني الكبير بين القوى البحرية بزعامة أميركا والقوى البرية بزعامة روسيا.
تتحالف إيران مع روسيا في آسيا الوسطى والقوقاز متنازلة في ذلك عن تحالفاتها التاريخية هناك لمصلحة روسيا، في مقابل البقاء تحت المظلة الروسية في مواجهتها مع الغرب في ساحات المشرق العربي وفي الملف النووي. وما زالت الهزائم العسكرية التي لقيتها إيران القاجارية على يد القياصرة الروس في القرن التاسع عشر تدمي الذاكرة الوطنية الإيرانية، وخسارة إيران أراضي شاسعة في القوقاز لمصلحة روسيا بمقتضى معاهدتي كلستان 1813 وتركمان جاي 1828 مازالت ماثلة في حسابات العقل الإستراتيجي الإيراني على الرغم من براغماتيته واضطراره إلى التعاون مع موسكو مرحلياً.
ومن شأن غياب التفاهم الأميركي – الإيراني أن يحول دون حصار موسكو من الجنوب ومنعها من الوصول إلى المياه الدافئة، مثلما فعلت طهران طيلة ثلث قرن في عصر الشاه المخلوع. تعلم موسكو أنها ستكون الثمن الأساسي الذي تقدمه إيران في حال إبرام صفقة أميركية – إيرانية يتم تتويج طهران بموجبها قوة إقليمية في المنطقة. وإذ فرضت طهران نفسها رقماً صعباً على دول المنطقة بالتحالف مع روسيا، إلا أنها تعلم جيداً أنه لا يمكنها قيادة المنطقة تحت المظلة ذاتها. كل من موسكو وطهران يستخدم الآخر في علاقته بالغرب، كل منهما يحتاج للآخر بقدر محسوب، كل منهما لديه – في منطق الأمور – أسبابه التاريخية والعملية للشك في نيات الآخر.
تتلخص مصالح روسيا في إيران بمنع ضربة عسكرية للأخيرة باعتبار أن ذلك سيضر بالمصالح الروسية الاقتصادية والإستراتيجية، كما أن إتمام الصفقة بين واشنطن وطهران سيحيّد المصالح الروسية في إيران نهائياً. باختصار مصلحة روسيا في إيران مرهونة ببقاء التوتر الحالي في العلاقات الإيرانية – الأميركية وببقاء الطموح الإقليمي الإيراني على حاله؛ ولكن مع منع الضربة العسكرية وعدم حصول الصفقة السياسية في الوقت ذاته. تعي طهران أنه طالما استطاعت موسكو أن تنظر إليها باعتبارها وسيلة للضغط على واشنطن في ملفات أخرى، يمكن طهران مواجهة واشنطن في العراق والتصارع معها على سوريا، فضلاً عن الاستمرار في مساندة “حزب الله” في لبنان والتمسك بحقوقها في ملفها النووي اعتمادا على قدراتها الذاتية وعلى الغطاء الروسي مع محدوديته. وفي الوقت نفسه حرصت طهران دوماً على ألا تلقي بأوراقها في السلة الروسية وعياً منها بأهمية إبقاء الأوراق المهمة في يدها انتظاراً للصفقة الإيرانية – الأميركية التي عطلها قمع الرئيس أحمدي نجاد للتظاهرات والتأثير السلبي الذي أحدثه ذلك القمع على صورة إيران في أميركا والعالم.
والمثال الواضح على ذلك امتناع إيران عن الانضمام لكارتيل الغاز الذي اقترحته روسيا للسيطرة على سوق الغاز الطبيعي في العالم، والامتناع عن تقديم حقوق استكشافات نفطية وغازية في إيران لروسيا، حتى لا تؤثر طهران على جاذبيتها التفاوضية المستقبلية في عيون الجالس في البيت الأبيض.
تعزز المهارات الإيرانية العالية المساومة والتفاوض من قدرة طهران على إبرام الصفقات حتى وهي تحت المظلة الروسية مرحلياً، ولكن روسيا في المقابل لا تغفل عن الدوافع الجيوبوليتيكية التي تمسك بخيوط السياسة في إيران. اتفق الطرفان في القمة الروسية – الأميركية على قضايا مثل الإمدادات اللوجستية الاميركية إلى أفغانستان عبر الأراضي الروسية، والخفض المتبادل للرؤوس النووية، ولكن القضايا الأهم مثل شبكة الدرع الصاروخية في بولندا وحدود الأدوار الروسية في مجال الاتحاد السوفياتي السابق والملف النووي الإيراني ما زالت عالقة.
ربط أوباما بين شبكة الدرع الصاروخية والملف النووي الإيراني بوضوح لا لبس فيه عندما قال: “لن نحتاج إلى شبكة الدرع الصاروخية إذا أوقفت إيران برنامجها النووي”، مع العلم أنه لا رابط مباشراً بين المسألتين سوى التلويح الأميركي بالمقايضة مع روسيا والثمن إيران. وفي حين ألح رئيس الوزراء الروسي بوتين في اللقاء مع أوباما على أهمية بولندا للفضاء الإستراتيجي الروسي ورغبة موسكو في رؤية شبكة الدرع الصاروخية وقد انتهت، فإن أوباما الراغب في الحديث عن تعاون روسي لاحتواء إيران لم يغلق الباب نهائياً، بل تم إرجاء القضيتين سوياً: شبكة الدرع الصاروخية في بولندا والملف النووي الإيراني إلى شهر أيلول المقبل عند زيارة وزيرة الخارجية كلينتون إلى روسيا.
إيران دولة كبيرة بمقاييس الإقليم، ولكنها ليست كذلك بالضرورة بقياس روسيا وأميركا، وإذا كانت إيران تمسك بمفاتيح متنوعة في المشرق العربي إلا أنه لا تأثير مباشراً لديها على الصفقات الروسية – الأميركية، لكل ذلك ربما يكون لدى طهران الماهرة والحاذقة أسباب وجيهة للقلق… من الآن وحتى أيلول المقبل!
(مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية – القاهرة)
النهار