شهيدة الموقف
غادا فؤاد السمّان
مروة الشربيني شهيدة العقيدة أم العقد الاجتماعيّة؟!!!
لم تنهِ العقد الثالث من عمرها، ومع ذلك كانت قد انتهت من كافة المهام المُلقاة على عاتقها كإنسانة التزمت إنجاز ما يُمكن إنجازه في مسيرة مكثّفة وسيرة ذاتيّة تستحق بجدارة مرتبة الشرف، في طالبة الصيدلة التي حصلت على إجازتها بدرجة جيّد جدا، وهي الزوجة التي فازت بحب زوجها واحترامه وصداقته، حين آثر أن تكون رفيقة دربه في السنوات الأربع المقررة لإتمام أطروحة الدكتوراه في مدينة – درسدن الألمانية – بمنحة شرف نالها من جامعته التي عمل فيها معيدا متفوّقا في السلوك والسمعة والنجاحات المتعاقبة،
لم تكن مروة الشربيني التي رافقت زوجها في العام 2004 عالة عليه، بل عملت في مجال الصيدلة وكوّنت لها مجتمعا راقيا أساسه العلم والمعرفة من مجموعة كبيرة للجالية العربية المسلمة في درسدن ألمانية، ولم تترك للعمل يسرقها من دورها المقدّس بتوسيع دائرة الأسرة التي حرصت أن تُكمل دورتها الحيوية بالأمومة لتتوّجها بالحب والعطاء، ورزقت بمولودها الأول مصطفى، كانت مروة تستنهض طفولتها كل صباح لتواكب طفولة مصطفى، فلم تكن أمّه الحنون وحسب بل صديقته المفضّلة التي تطلق العنان لطفولتهما معا تتآلف وتتواصل كما يحلو لها بعفوية فائقة يدعمها رشاقة مروة المستمرة إلى ما بعد الإنجاب لما تتمتع به مروة من مرونة وليونة اكتسبتها كبطلة في الفريق الوطني في كرة اليد حيث نالت العديد من الكؤوس والميداليات من أنحاء مختلفة من الدول والبلدان التي مثّلت فيها بلدها مصر بخير تمثيل كبطلة متوّجة بكفاءة ممتازة، وما إن شارفت زنابق مصطفى على التفتّح في ربيعها الثالث حتى قررت مروة استكمال أمومتها بطفل آخر، فضمّت في أحشائها جنينا كانت تعدّ له الأيام والأسابيع والشهور لاستقباله تزامنا بمناسبتين حميمتين وقيّمتين معا، قدومه الموعود ونيل والده شهادة الدكتوراه الإكسترا، التي تأت ما بعد الشهادات العليا التي أكسبته لقب دكتور في مصر، ولم تكسبه الاكتفاء بهذا اللقب، بل أهّلته للاستزادة من الاجتهاد والدأب والسعي المتواصل الذي كان من المقرر أن يأتي ثماره في غضون الأشهر الخمسة القادمة، حيث تعود مروة وابنها مصطفى وزوجها الدكتور عوني إلى بلدهم ومستقرّهم مصر إلى جانب الأهل والأصدقاء لتضع مولودها الثاني فور العودة ليكتمل نصاب الأسرة، هذا السيناريو الموجز لم يكن حكاية بسيطة من حكايا الجدّات “وتوته توته خلصت الحتوته ” هذه الحكاية قصّتها مرّوة بحديث هاتفي مطوّل مع والدتها قبل أن يداهمها مصيرها المنتظر بيومين فقط الذي قلب كافة تفاصيل السيناريو، ليصير المشهد المشرق مشهدا مأساويّا للغاية، فمروة ذات الثلاثة والثلاثين عاما لم تبهرها الحياة الأوربية ولم تخرجها مراياها الجديدة في مُدن
الحرية والتقدّم عن إطارها المرسوم قبلا كامرأة لم تحتفظ بميولها الإسلامية سرّا بل أعلنتها بوضوح كامل وتمسّكت بحجابها كعلامة مميزة تعتز بها وتفاخر بإشهارها، فلم تتنازل عن حجابها في شعاب كبرى المدن الأوربية –
ألمانيا – ولم تتردد في اعتماد الزيّ الإسلامي كامرأة تاجها العفّة ومضمونها الشرف وصولجانها الاحترام، لكنّ واحدا من النازيين الجدد كان يجسدّ قدرها المشؤوم، حين جمعهما رابط الجوار، ولم تكن مروة تتصوّر أن وصايا الربّ
المتشددّة بشأن الجوار لم تشمل هذا النازي المتزمت تزمّتا أعمى، حين رفضها
كعربية أول المطاف، ورفضها كمسلمة تشاركه الصدفة المتكررة بحكم الجوار، لم يكتفِ بنظرات الازدراء المتواصلة، بل صادر نقطة ضعفها وبدأ بتوجيه النعوت الرخيصة لصغيرها مصطفى ولم تقف الإساءات المتكررة عند حدّ المشافهة مع الصغير وأمّه، بل تعدّتها إلى مرحلة لاحقة أعقبت الخطاب المباشر حتى بدأ بنهر الطفل وضربه وطرده من حديقة المبنى المشتركة مع جارها النازي الحاقد، وهنا لم تتمالك مروّة ثورتها بل توجّهت إلى مقرّ البوليس، يقينا منها أنها في بلاد متحضّرة وتتقن جيدا حماية الفرد وحقوقه الإنسانية، ومن هناك تحوّلت شكوى مروة الشافعي إلى قضية قضائية وجدت مروة نفسها ملزمة بمتابعة الأمر بكامل الثقة بالقضاء الألماني ونزاهته، وفعلا حكمت المحكمة حضوريا لصالح مروة الشربيني صاحبة الدعوة ضد جارها النازي الألماني من أصل روسي، وهو ابن الثامنة والعشرين العاطل عن العمل والدين والأخلاق والمبادئ والقيم والمنطق والإنسانية بحجّة أنه رجل حرّ يفعل ما يشاء ويفتعل ما يحلو له، بحجّة الحرية الشخصية التي منحها له القانون الألماني الذي فاته توثيق هذه الحرية بالأخلاق والقيم، ولم يكن الحكم لصالح مروة منصفا كما ينبغي ولم يكن مجحفا بحق هذا البشري السفيه بدرجة مقززة، إذ اقتصر الحكم على تغريم المتّهم بمبلغ مادي قدره 760 يورو لا غير، واعتبرت مروة أنّ هذا المبلغ بمثابة ثروة حقيقة حظيت بها من المحكمة الألمانية التي تنتمي إلى بلاد الحرية والديمقراطية والتطور والتقدّم والصناعة
وفي مقدّمها برامج حقوق الإنسانية التي تُنتجها كصيغ فكرية لا يمكن المساس بها، وتنتهجها كمنهج أنموذجي لا يمكن تجاوزه بطريقة من الطرق، خرجت مروة من قاعة المحكمة دون أن تحمل نقودها الجائزة التي استحقتها بفرط الثقة بالقضاء وبالمجتمع وبالبيئة المتطورة التي لا شك كفيلة بخلق إنسان حديث أكثر رقيا ولباقة، إلا أنّ النازي المأزوم لم يهمل حقّه في النقض، ونقض الحكم، وقُبِل النقض، على أن يُعاد فتح الملف، وتستدعى مروة من جديد لدخول المحكمة وللمواجهة مع جارها الشرير، وكانت جلسة النقض في الثالث من تاريخ الشهر الحالي /يوليو / ولم تتأخر مروة عن موعد المحكمة برفقة زوجها وطفلها الصغير مصطفى، إضافة إلى جنينها القابع في أعماقها وديعة الخالق جلّ وعلى، الذي لو علمت مروة ما ينتظره لانتزعته من أحشائها عنوة وأخفته عن الأنظار لتتفادى ما كان ينتظره ويتربّص بهما من مصير مجهول ظنّته آمنا لثقتها بهيئة المحكمة الموقّرة، وتسليمها بنزاهة القضاء الألماني وعدالته الاجتماعية، كانت مروة على مقربة من الجاني بناء على طلب القاضي والسادّة هيئة المحكمة الموقّرين، لم يتردد الجاني بنعتها بالإرهابية ودليله على إرهابها زيّها الإسلامي والتزامها الحجاب رمز الإرهاب الذي يحقّ له محاربته علنا، وفقا لقرار بوش ودول الحلفاء الذي تعهد بمحاربة الإرهاب بكل أشكاله والقضاء عليه، ومروة السيدة الفاضلة المتعلمة المحترمة
لم يشفع لها لا تمكّنها اللغوي، ولا كفاءتها العلمية، ولا سجلّها المشرّف من نفي تهمة الإرهاب عنها، إذ سقطت كافة الاعتبارات في المحكمة الألمانية لمجرد أن مروة امرأة آثرت التعبير عن ذاتها كامرأة محجّبة لا كامرأة سافرة، وهنا أصبحت بنظر المحكمة الموقّرة وإن ضمنا متّهمة بدلا من كونها ضحية، لإرهاب الجار الشاذ سلوكيا وإنسانيا واجتماعيا، حين بدأ بكيل الشتائم لمروة وحجابها وطفلها وأصلها العربي وإسلامها، والمحكمة تفسح له التمادي بالسباب بتغاضيها المتعمّد الذي لم يطل لتلتفت مروة إلى الجاني وتتبنى الدفاع عن ذاتها بعدما يئست من حياد هيئة المحكمة الموقّرة بهيبتها الكاملة، وما إن شرعت مروة بردع الجاني بمطالبته بواجب الاحترام حتى أخرج سكينا من جيب معطفه وبدأ بتسديد الطعنة تلو الأخرى بذات النصل الذي يدخل جسد مروة تارة ويخرج ليعاود الكرّة وبقيت جولة النصل بتواصل مستمر حتى بلغت ثمانية عشر طعنة، وما إن تحرر الدكتور عوني زوج مروة من ذهوله حتى هبّ لنجدة زوجته وإذا به يتلقى نصيبه الوافر من طعنات مماثله بلغت ست طعنات ختمها البوليس الذكي جدا برصاصة في ساق الزوج، بدلا من غرسها في ساق الجاني، والجميع يراقب عن كثب كافة الطعنات التي توزّعت برشاقة عالية بين المغدورة الدكتورة مروة وزوجها الدكتور عوني الذي نجا بمعجزة إلهية أودعته غرفة العناية الفائقة حتى تاريخ تحرير هذه السطور، وحده الذي كان يكترث كامل الاكتراث الطفل مصطفى موزّعا خوفه وهلعه ولهفه على أمّه وأبيه بالتساوي، وقد تخلّى عن صراخه ودموعه ولاذ بالصمت والوعي المُبكّر حين أجاب على سؤال الإعلامي الذي توجّه إليه بالسؤال: تتذكر حصل إيه في المحكمة للماما والبابا يا مصطفى؟
فما كان من مصطفى إلا أن أجاب بإيجاز وإمعان وأسى، كانوا:” بيتئتلوا، الراجل الوِحِش، أتل بابي وأتل مامي ” كاد المذيع يدمع، إلا أنّ حرفيته منعته من إطلاق الدمع على السجية، مثلما كان يفعل الإعلامي البارع “عمر أديب ” في برنامجه اليومي “القاهرة اليوم ” وليست هي المرة الأولى التي أقولها هنا، بل ربما سأقولها أيضا وأيضا لمرّات لاحقة أنّ عمر أديب كفيل بإطلاعك يوميا على أدقّ التفاصيل ليس لما يحدث في القاهرة وحسب بل لما يحدث من حولنا جميعا ونحن نيام.
عمر أديب كان غاضبا بجدّية تامّة مساء الرابع من يوليو، ولم يتقاعس على مدار ثلاثة أيام عن تلزيم مجمل الأطراف الرسمية والشعبية والإعلامية جميعها لتؤدي كل جهة قسطها من الواجب تجاه شهيدة مصر مروة الشافعي،
كان بمثابة “دينامو ” لم يوفّر أي شحنة من الشحنات العالية التي وتّرت كافة الأوساط وجعلتها على أهبّة الاستعداد لاستقبال جثمان مروة الشربيني في مطار القاهرة الدولي استقبالا رسميا، وشعبيا مدويّا اعتبارا من السفير المصري في ألمانيا والملحق الثقافي في السفارة هناك، مرورا بمحافظ مدينة الإسكندرية، وصولا إلى وزير الخارجية وهو يحضّهم علنا ويطالبهم بجنازة بمراسم رسمية، لن يستهين باستهتار أي شخصية كانت، بل اعتبر الإعلام المسؤول عن متابعة ما يجري، وملاحقة ما جرى، وكشف ما سيجري من سلبٍ أو إيجاب، دون تردد أو تقاعس أو مواربة.
ثلاثة أيام أتابع غضبة عمر أديب وكلامه الذي لم يهدأ، حتى بلغ مني التوتّر مبلغه، واعتبرت مروة ليست ابنة مصر وحدها، بل ابنة لبنان، وسوريا، والأردن، وسائر العالم العربي ككل، فكّرت بحمل لافتة أجوب بها شوارع بيروت أدوّن على متنها شجبي واستنكاري، وسئمت الفكرة لكثرة ما سمعت في حياتي من شجب واستنكار لم يسفر في يوم من الأيام عن شيء سوى أنّ الجاحد يضاعف جحوده، والجاهد يضنيه جهده حتى يرديه قتيلا أو عليلا أو أخرسا على المدى الطويل، أو أعمى بعيون مبصرة ممنوعة من الجدوى.
ولا بدّ من الإشارة أنّ الحجاب لم يكن ليدخل ضمن دائرة قضاياي الشائكة التي غالبا ما تستولي على جملتي العصبية وتدفع بي إلى جملة من المواقف أخوضها عادة بمنتهى التشبّث والعناد، إلا أنّ ما حصل لمروة الشربيني، بصرف النظر عن كونه جناية مدبّرة بسبب حجاب، إلا أنه يندرج تحت ركام هائل من موروث ثقافي ملتبس ومغلوط وشائك بالأصل، فهل الحجاب وحده مرفوض لدى الآخر بسبب أنه يشكّل علامة فارقة، أليس اليهود يضعون “القلوسة ” في مناسباتهم الدينية والاجتماعية وحتى السياسية منها باعتزاز شديد، والحاخامات اليهودية يطلقون جدائلهم ويتطاولون بقبعاتهم السوداء التي تكاد تُناطح بغطرستها قبّة السماء؟. فهل يمكن لواحدٍ منا أن يكيل العداوة والشتائم والضرب للآخر لمجرد الزيّ الذي يتزيّا به؟!.
والمسيحي الذي يدلّي صليبه من عنقه، يقينا منه أنّه يحتفظ بصكّ الإدانة للآخر أيّا يكن لدرجة تكاد تقع بينك وبينك في شرك الشعور بالإثم، وكأنّك قد ساهمت بشكل أو بآخر بصلب المسيح حلّ سلام الله على روحه، فهل تنتقم لنفسك بالعداوة من حامل الصليب لمجرد العداوة؟..
هنا الطامة الكبرى، أننا تربينا على نبذ الآخر وغرقنا في جاهلية الذات، واستبداد الأنا الأحمق، وليس انفتاح العالم على بعضه البعض قد سلّم المجتمعات المتعددة من غضاضاتها وأمراضها النفسية المتوارثة بل عززها في كثير من الحالات، مما يفرض علينا، التنبّه لخطورة ما يجري معنا، وما يجري بيننا، وما سيجري من حولنا، كتحصيل حاصل كرد فعل حتمي، أو كفعل استباقي تحاشيا للمطبّات التي تتموضع بشراسة في مفاصل الإنسانية لهذا العالم المُصاب بالتكلّس المزمن، الذي يقعده عن السعي لخير البشرية، بل الاستسلام التام لخرابها المُتعاقب.
الموضوع طويل دون ريب، والمقام لا يتسع لمناقشة كل ما ينبغي تداوله من أفكار ربما تكون محقّة وربما تكون باطلة من أساسها، المهم لأحدنا أن يبدأ وحسبي في كل ما رميت إن رميت أنني أحاول، يقينا أنّ محاولة أخرى سـتأتي من أحدهم فور استلام الصدى، وطالما أنّ الصدى نافذا إلى الجميع ولن يوقفه قرار إداري من أيّة جهة كانت، فسنظل نحاول ريثما نرتقي بإنساننا في كلّ مكان من هذا الكوكب.
الحوار المتمدن